بين القرآن والسيرة -1 من 2

يحملنا الإسلام كدين على التساؤل دوماً في ما يثيره من القضايا الشائكة التي يطرحها في مكان ولادته، وفي العالم الواسع التي انتشر فيها كرسالة، وأصبح دينا رسمياُ في أكثر من 55 دولة في العالم، كما يحملنا كعلمانيين مؤمنين بالدولة المدنية على التفكير في البحث عن ارضية للتصالح بين هذا الدين وثقافة العصر.

عليه نقول إنه لو اعتمد المسلمون النص القرآني كمرجع أول وأخير، لحلّوا أكثر مشكلاتهم. المشكلة الأساس هي كتب الحديث وكتب السيرة النبوية، وهذه حكايات وقصص وأقوال كُتبت بأخرة، أي في ما بعد، وكانت سبب خلافات لا تزال الفرق الإسلامية تعاني منها إلى اليوم.هناك حل واحد لا حل غيره، هو أن يعود المسلمون إلى رشدهم، ويزيلوا خلافاتهم، ويغربلوا السيرة ويأخذوا منها ما يجمعون عليه، ثم أن يقرأوا القرآن بطريقة إنسانية قوامها التسامح وقبول الآخر، سواء أكان هذا الآخر يهودياً أم مسيحياً أم بوذياً أم صابئياً أم ملحداً.

رواة السيرة

نقرأ في الكتب أن الإمام إبن إسحق المتوفى سنة 738 ميلادية (نحو مئة سنة بعد وفاة  »النبي« محمد) هو واضع أول كتاب في السيرة المحمدية وكتابه مفقود. تبعه إبن هشام (توفى سنة 834) فوضع سيرة أخرى، كانت غربلة لما كتب ابن إسحق ولا نملك صفحة واحدة من نسختها الأصلية. ثم تعاقب على الكتابة رواة آخرون، لعل أجلّهم وأعظمهم شأناً الإمام الطبري المتوفى سنة 932 ميلادية. فهل يمكن أن نركن إلى سيرة تفتقر إلى وحدة متكاملة، نقلت إلينا بغير انتظام، وتعرضت لأهواء الرواة وتحزباتهم، ودوّنت، حسبما جاء في الكتب، بعد أكثر من مئتي سنة على وفاة  »النبي« محمد؟

المسلمون كتابهم واحد وهو القرآن، بخلاف الكنيسة المسيحية التي واجهت في تاريخها أناجيل كثيرة اضطرتها لأن تعتمد أربعة منها هي  »العهد الجديد«. وفي حين أن هناك أناجيل متداولة لا تعترف بها الكنائس الكبيرة، فإن أناجيل العهد الجديد نفسها، لا تزال موضع خلاف لدى بعض المدارس.المسلمون بغنى عن هذا الإرهاق، فكتابهم واحد  »لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه«، فلا داعي لأن يأخذوا بالسيرة، أو أي كتاب آخر ليبنوا عمارة الإيمان. لا ضير إذا أخذوها كروايات مثل ألف ليلة وليلة، والزير وعنترة، وسيف بن ذي يزن، أي حباً بالاستئناس وأخذ العبر، شرط أن يغربلوا ما فيها من قمح وزؤان، وقديما قال إبن رشد، حامل لواء الحرية العقلية في الأندلس  »ما كان نافعا فهو الأجدر«.

لقد خضعت السيرة في الماضي لعمليات تشذيب وتهذيب قام بها رواة كثر، أولهم إبن هشام، وبقيت على رغم ذلك مصدر خلافات بلغت من الحدة بين المسلمين أن جعلتهم ينسون ما في القرآن! المطلوب اليوم، غربلة جديدة يقوم بها علماء معاصرون أتقياء، يحذفون ما يثير النعرات ويؤجج الإنقسام، ويبقون ما يتوافق منها مع نص القرآن وروحه، ولا شيء آخر غير نص القرآن وروحه.

حين يغربل المسلمون السيرة، ويأخذون منها ما هو نافع للاستئناس، يصبحون مجموعة تدين بدين واحد موحد هو الإسلام، مجنّبين أنفسهم خلافات حول حوادث لا أحد يعرف صحتها من خطئها، هذا إذا كانت قد حدثت أصلاً! هكذا يصبح التدين بالإسلام فعل إيمان، لا تديناً محدوداً جامداً يساء فهمه وتفسيره، ويساء الحكم عليه بمعايير شتى من هنا وهناك.

الخلفاء الراشدون ليسوا الاسلام

الخلفاء الراشدون ليسوا هم الإسلام، والخلافة بعد محمد، ومن كان أحق فيها، أبو بكر الصديق أم علي بن أبي طالب ليست موضوعاً ذا شأن. هي مسألة تأريخية تجازوها الزمن، لكنها لا تزال ويا للأسف مصدر خلاف، وستبقى كذلك، إلى أن يدرك المسلمون أنها من قشور الدين وليست من لبابه.إذا قال الشيعة إن علياً هو الخليفة الأحق في الخلافة، فهل يعني ذلك في نظرهم أن السنّة ذاهبون إلى الجحيم؟ وإذا قال السنّة إن أبا بكر هو الخليفة الذي اختاره محمد، وإنه كان أحق من غيره في الخلافة، فهل يعني ذلك أن الشيعة ذاهبون إلى الجحيم؟!

وهل إذا أحب المرء علياً وكره عائشة دخل الجنة، أم أن العكس صحيح؟ كثير من الشيعة لا يستأنسون بذكر عائشة، ولا يسمّون بناتهم باسمها لأنها (كما جاء في السيرة) حاربت علياً، في حين أن السنّة يجلّونها وهي عندهم أمّ المؤمنين.أليس غريباً أن أسماء مثل عائشة وعمر ومعاوية وعثمان تكاد أن تكون نادرة عند الشيعة، مع أنها اسماء عربية موجودة قبل الإسلام. وأن اسماً مثل عبد الرحمن، يكاد أن يكون نادراً بينهم، مع أنه من  »أسماء الله الحسنى«، لأن السيرة تخبرنا أن الرجل الذي قتل الإمام علي كان اسمه عبد الرحمن بن ملجم!

هناك أسماء محسوبة على الشيعة، ليست كثيرة التداول بين السنّة، كزينب وعقيل وجعفر وقاسم وجواد وحيدر، مع أنها أسماء عربية كانت قبل الإسلام وبعده. هذا كله وما هو مثله، يدل على مدى ما تحدثه القشور في الصدور والوجدان! هل علي بن أبي طالب هو الإسلام؟ وهل عائشة بنت أبي بكر هي الإسلام، حتى يخرج الخلاف بينهما إلى الشيوع ويستمر إلى اليوم؟ هذا إذا صدقت الروايات المدوّنة عنهما في السيرة! ألا يدخل ذلك في باب جدال عقيم لا طائل منه ولا جدوى، ويفضي في النهاية إلى التفرقة والتناحر، وإلى عصبية يقول المسلمون إن الإسلام جاء ليزيلها من بلاد العرب؟

الرسالة أهمّ من الرسول

يعترض بعض المسلمين إذا سمّاهم الآخرون بالمحمديين، لأن الرسالة عندهم أعلى من الرسول بما لا يقاس. هي أهمّ من  »النبي« ومن علي وعائشة وأهل البيت والخلفاء الراشدين كلهم. هي عندهم رسالة السماء وهي واضحة في القرآن، وأي خلاف بين المسلمين تجديف عليها وعلى الكتاب. يكفي أن نقرأ بعض كتب السيرة، وما يتصل منها بالفتوحات خصوصاً، لنجد أن أهداف واضعيها كانت تجارية وسياسية ودينية. ومهما اتخذ المؤرخ أو القارئ الحيطة والحذر، فلن يستخرج الحقيقة التاريخية، من ألوف الأحاديث المنسوبة إلى  »النبي« محمد، ومن مئات الروايات التي نقلت إلينا بطريق  »العنعنة«، قبل الفتنة الكبرى وبعدها، التي انقسم فيها المسلمون شيعاً ومذاهب.

لقد اختلف الكاثوليك والأرثوذكس في أزمنة ومواقع مختلفة، واختلف الكاثوليك والبروتستانت في أزمنة مختلفة ومواقع مختلفة، ودارت بينهم حروب سُفكت فيها دماء وزهقت أرواح. فهل كان ذلك لمصلحة المسيحية؟ هنا يتساءل المرء: هل تفقد الفرق الإسلامية رشدها وتفعل الشيء نفسه، قبل أن تصحو على برك من الدماء، وتدرك أن لا جدوى من هذه الأدبيات الدينية التي لا علاقة لها بالإيمان الخالص؟

هل كان هدف الصفويين حين تبنّوا المذهب الجعفري خدمة  »الله« والإيمان؟ وهل كانت أهداف العثمانيين حين تبنّوا المذهب الحنفي خدمة  »الله« والإيمان؟

ألم يحن الوقت بعد، ليدرك العرب والمسلمون أن هذا التبني المذهبي غير العربي، لم يكن من الإيمان في شيء، وأنه قام على اعتبارات قومية ومصالح سياسية، ولم يجلب على العرب والمسلمين غير الضغائن والأحقاد؟

حين يتجمّد العقل

ألم يدرك المسلمون،  »سنّة وشيعة«، أن أكثر ما في السيرة وُضع لأسباب سياسية، وأنها لم تجلب لعموم الناس غير العداوة، ولم تكن إلا لفائدة أصحاب الأوقاف والحكّام وبعض المراجع الدينية التي لا تزال تتحكم برقاب الناس؟

وماذا يستفيد الفقراء،  »سنّة وشيعة«، من هذه السيرة التي تبعدهم عن الإيمان وتردّهم إلى مراجع دينية، تحضّرهم لحروب مذهبية في العراق وسوريا ولبنان، وفي كل مكان انقسم المسلمون فيها على أنفسهم؟

حين يجمد العقل ويضيق الصدر، يبدأ الخلاف وتتحول  »الرسالة التوحيدية« فرقاً وشيعاً ومذاهب وتأخذ أشكالاً عنصرية، وتصبح سبباً لمشكلات وخصومات بين الناس، يستغلها السياسيون وأصحاب المنافع، وتستغلها دول كبيرة لتتدخل في شؤون دول صغيرة، بحجة حماية الطائفة التي تدين بمذهبها، وفي القرآن آيات كثيرة تحذر من المتاجرين بالدين،  »الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلا«.

ساعة يجمد العقل ويضيق الصدر، يفرغ الدين من الإيمان، ويصبح المتديّن المنفصم الوجدان، الحاكم الفعلي على الأرض، يكره ويتعصب ويحارب ويقتل من لا يدين بدينه أو بمذهبه، تماماً كالقبلي المجند للدفاع عن قبيلته. أما المؤمن، الواسع القلب والعقل والرحمة، فلا يرتكب الموبقات، لأنه يؤمن بأن المحبة تسع المحسن والمسيء، وبأن  »رأس الحكمة مخافة الله«.

اللجوء إلى سيرة وُضعت بعد الهجرة بمئات السنين، ولا أثر ملموساً لصفحة واحدة منها، واعتمادها بشكل أعمى كآيات منزلات، على ما فيها من اختلاف الروايات، هو الكفر بعينه، لأن المرء حين يقرأ شيئاً يدفعه إلى التعصب على الناس، فمعنى أن ما يقرأه ضد الإنسان، وتجديف في حق إله هو في القرآن واحد أحد.

العدد 99 –كانون الاول 2019