لبنان: المسار طويل لكن عصا التغيير باقية

الثورة وحدت إرادة الناس واربكت الطبقة السياسية الطائفية

بيروت- غسان الحبال

لماذا ثار اللبنانيون، على ماذا وعلى أي واقع ثاروا؟

هل خمدت الثورة بعد اقل من 3 اشهر على انطلاقتها؟ وهل تمكنت السلطة القائمة من ترويضها وتدجينها مستغلة إصرار الثوار على سلمية تحركهم، فوصل الطرفان إلى الطريق المسدود؟

لم تقم ثورة اللبنانيين لتتراجع او تخمد طالما أن وراء انتفاضتهم أهداف إنسانية مشروعة أقلها المطالبة بالعيش الكريم وليس آخرها حق أولادهم بمستقبل لائق، وحماية ثروات وطنهم.

قد تهدأ أو تتراجع الثورة تكتيكيا، وقد يرتاح الثوار هنيهة يطهروا من خلالها صفوفهم ويستردوا أنفاسهم استعدادا لخطوة متقدمة، لكنهم حكما لن يتوقفوا قبل تحقيق مطالبهم الوطنية والحضارية، لأنهم يؤمنون بأن مسيرة الاوطان محكومة بالتقدم والتطور.

لا تراخ ولا تريث

قد تتراخى الثورة حين تمنح مهلة أو سقفا زمنيا، كأن تنتظر ما سيقوله »رئيس« اليوم أو »زعيم« غدا، أو أن تتريث أسبوعين قبل جلاء نتائج »استشارات نيابية«، زمن الثورة مطلق وأي تريث سيكون بلا طائل، وما سيقال على لسان مسؤول اليوم لن يختلف في المضمون عما قاله بالأمس وعما سيقوله غدا، أما الـ »إستشارات« النيابية فلن تسفر سوى عن شراء مزيد من الوقت الضائع، وسرعان ما سينبري خلال ذلك هذا المرجع الديني أو ذاك في رسم خطوط حمر حول هذا المقام الرئاسي أو ذاك، وسرعان ما ستحاول هتافات طائفية ومذهبية شق طريقها

تجمع الأحزاب في ساحة رياض الصلح: محاولة فاشلة لاختراق الحراك تستدعي تشكيل أحزاب جديدة

لاختراق أوساط المنتفضين الذين سيهبوا لإعادة رسم خطوط الأزمة تأكيدا على أنها أزمة نظام يشكو من الاهتراء وليست أزمة ثورة، وسرعان ما سيدرك الناس المنتفضين أن لا تراخ ولا هدنة في الثورة قد تتيح فسحة لمنظومة الحكم إعادة إنتاج نفسها.

ومع بداية العام 2020 تكون انتفاضة الشعب اللبناني قد تجاوزت أكثر من شهرين ونصف الشهر منذ انطلاقتها في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2019، ولذلك فإن السؤال حول أين هي الثورة اليوم، وماذا حققت حتى الآن يعتبر سؤالا موضوعيا وشرعيا:

أولا- لم يحدث في تاريخ لبنان أن صمد الناس في الشوارع وفي الساحات العامة انطلاقا من العاصمة بيروت، وامتدادا إلى جل الديب وانطلياس وجونية، فوصولا إلى طرابلس ومختلف مدن وبلدات منطقة الشمال من جهة، وامتدادا إلى خلدة والناعمة وصيدا وصور والنبطية وكفرمان، ومختلف المناطق الجنوبية من جهة ثانية، ووصولا حتى المصنع وزحلة وبر الياس وبعلبك وسائر شوارع وساحات منطقة البقاع، وذلك لفترة قاربت ثلاثة أشهر من دون انقطاع، وعلى الرغم من الترهيب والترغيب وصعوبات من بينها سوء الأحوال الجوية.

إرادة جامعة في التغيير

ثانيا- أفرزت الإنتفاضة، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان، إرادة لبنانية جامعة في التغيير ورغبة واضحة في التخلص من الطبقة الحاكمة بالكامل، وقطعت على من هم في السلطة طريق الإدعاء أنهم من الإنتفاضة حتى ولو نصبوا عشرات الخيم في ساحتي رياض الصلح واللعازارية تحت عناوين لا تخفي أنهم من أحزاب السلطة.

ثالثا- شملت الإنتفاضة ما يقارب نصف الشعب اللبناني، وتحديدا الذين لم يشاركوا في الإنتخابات النيابية الأخيرة، وقسما من الذين شاركوا.

رابعا- تتميز انتفاضة لبنان بقوة شعبها الذي تخطى الطائفية والمذهبية وهو يواجه مشاكله لتحقيق أهدافه المشتركة، ولكن على المنتفضين ان يدركوا أن تحقيق هذه الاهداف سوف يستغرق وقتا ليس بالقصير، ولذلك فإن قلقهم من ألا تنجح الإنتفاضة في تغيير الطبقة الحاكمة في محله، وهنا يجب التذكير أن هناك من سبقهم إلى النضال لولادة دولة القانون والمؤسسات الخالية من الفاسدين والفاشلين والطفيليين، ولذلك فإن النَّـفـَس يجب أن يكون طويلا والعجلة لن تقود إلى الأهداف المنشودة، فالتغيير المرتجى لا يتحقق بيوم أو يومين أو بشهر أو شهرين، بل يجب النظر إلى سنوات طويلة إلى الأمام قبل بلوغ الأهداف، وهذا الأمر يفترض بكل الذين انخرطوا في آلية التغيير البقاء كالعصا المسلطة فوق رؤوس من هم في السلطة التنفيذية المقبلة لإجبارهم على متابعة السير في الإتجاه الصحيح حتى ولو كانوا من خارج الطبقة السياسية الحالية.

خامسا- لقد تحقق الكثير من خلال هذه الإنتفاضة، أقله أنها أصبحت بمثابة سلطة شبه دستورية لا يمكن تجاهلها مهما حاول أركان السلطة تبسيطها وتسخيفها وابراز نقاط ضعفها، عدا عن أن محاولات تجييرها لصالحهم لم ولن تنجح.

سادسا- تميزت الإنتفاضة حتى الآن بأسلوب عملها وفق آلية شبكية وليس بطريقة حزبية كلاسيكية أو طريقة هرمية عامودية، وقد ساهمت هذه الآلية الشبكية في تفادي الكثير من الخلافات والإختلافات والإغراءات.

سابعا- يعي المنتفضون أن ما يوحدهم اليوم هو ولادة لبنان جديد، لبنان المواطن الذي يجب أن تقود إليه هذه الإنتفاضة من خلال أحزاب جديدة ولقاءات وتجمعات تحمل مشاريع جدّية للمستقبل.

الحاجة لأحزاب برؤية مستقبلية

وهذا المستوى من الوعي يؤكد أن الوقت قد حان لبروز أحزاب جديدة منظمة لها شرعتها التي تبرز رؤياتها المستقبلية، وتسمح لها بالإئتلاف على المسلمات التي لا خلاف عليها، من غير أن تلغي خصوصياتها التي تتضمن تباينات في وجهات النظر.

الرئيس عون متوسطا الرئيسين بري والحريري في الصورة التذكارية الأولى لحكومة تصريف الأعمال: هل يتكرر المشهد وتتغير الوجوه؟

السلطة تتجاهل الدستور

وفيما تتسع رقعة الثورة على خلفية المطالبة بحكومة تكنوقراطية مستقلة وبقضاء ناجز الاستقلال وإعادة تشكيل السلطة بإجراء انتخابات على أساس قانون نسبي وفق ما ورد في الدستور، تبدو السلطة في واد آخر، بقدر ما تبدو عاجزة حتى عن تحقيق الحد الأدنى من تصويب مسارها وإصلاح بعض من شؤون البلاد والعباد، نتيجة الخلافات على النفوذ والتخصص بين اركانها. فأين هي السلطة اليوم وأي مسافة تفصل بينها وبين الناس المنتفضين؟

أ- تمكن الناس عبر توحيد صفوفهم وخلع الرداء الطائفي والمذهبي الذي حاولت السلطة اختراقهم بواسطته، من خلق صراع حاد بين القوى السياسية الطائفية بما عكس الفصام الذي تعاني منه الطبقة الحاكمة في محاولات كل طرف منها الهيمنة على القرار.

ب- أظهرت الترشيحات والتطبيقات الضمنية لأكثر من شخصية تم ترشيح اسمها لرئاسة وتشكيل حكومة جديدة أن المشكلة ليست فيمن يتولَّى رئاسة الحكومة، بل في محاولات تجاوز آلية الاستشارات والتكليف والتأليف، التي تضع في أولوياتها هيمنة التيار الوطني الحر وحليفه »حزب الله« من دون أي اعتبار للميزان الطائفي القائم في أساس هذه الآلية ذاتها، بحيث تفرض ميزان قوى سياسيّا تُهمَّش معه الطائفة السنِّية سعيا لإبقائها في تسوية إكراهية تصادر »صلاحيات« رئيس الحكومة. وهذا التناقض بين الآلية وبين السعي إلى الهيمنة يتَّسم بشراسة لا تتراجع لاستعادة ما أطاحت به الثورة.

ج- ويندرج تحت غطاء هذه الهيمنة إعداد الطبخة وتسويتها، بمعزلٍ عن الحق الدستوري للرئيس المكلَّف بتشكيل حكومته. والواقع أن دور رئيس الحكومة لطالما تم الانتقاص منه خلال فترة الوصاية السورية، وكذلك خلال فترة »الثلث الضامن« (أو المعطِّل)، وذلك بصرف النظر عن أكثرية نجمت عن انتخابات 2005 و2009.

د- في سياق هذا التناقض بين الآلية الدستورية ومساعي الهيمنة، لم يعد مهمّا من سيترأس الحكومة، وإن كان كل من التيار الوطني الحر و »حزب الله« يفضِّلان التعامل مع رئيس يتمتَّع بالتمثيل الطائفي الواسع والقادر على تأمين الاستقرار، إلا أن خروج الرئيس سعد الحريري من التسوية (التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيسا) تحت وقع الثورة جعل الوضع السياسي العام مختلفا من حيث جوهره.

ه- بات كل من التيار والحزب يدركان حتمية سقوط أي مرشح لرئاسة الحكومة، أولا بسبب مطالبات الثورة، وثانيا بسبب عدم تمثيله الحقيقي والوازن للطائفة السنِّية.

و- نتيجة لهذا الواقع، تصبح عملية تأليف الحكومة قبل تكليف الرئيس المقترح ضمنا ومن ثم إسقاط التشكيلة وأوزانها عليه تحصيل حاصل، بعد إسقاط الدعوة الأولى إلى الاستشارات الملزمة قبل حدوثها.

عفوية الحراك تحميه

وهكذا يتحدَّد الصراع اليوم ما بين جهتين: الثورة ومطالباتها، والطبقة السياسية المهيمنة على السلطة، التي تدرك ماهية هذا الصراع، والتي ما زالت تسعى بكل ما أوتيت من قوة لحلِّ التناقض المتعاظم مع مطالب الناس، بعد أن نجح الحراك في خضّ النظام السياسي وتثبيت مفهوم أساسي لدى الطبقة السياسية والاحزاب بأنها فقدت حرية التصرف بالبلاد والعباد وفق ما تريد.

وإذا كانت كل المؤشرات توحي بالتوافق على حكومة مختلطة تكنوسياسية على خلفية تفاهم أميركي أوروبي، تمكنت فرنسا من خلاله إقناع الولايات المتحدة باستحالة تشكيل حكومة تكنوقراط صافية في المرحلة الحالية من الصراع، فإن ناشطين في الانتفاضة يؤكدون أن الاهتمام الاميركي الأوروبي ليس تدخلا في الانتفاضة بقدر ما هو محاولة لمنع انهيار لبنان اقتصاديا وماليا نتيجة العقوبات الأميركية ضد »حزب الله«، والتي أثرت بشكل سلبي على النظام اللبناني ودورته الاقتصادية والمالية عموما.

ويضيف هؤلاء الناشطون بأن الحراك الشعبي فاجأ الجميع بمن فيهم الاميركيون، انطلاقتها العفوية، وربما يكون الاميركيون وغيرهم قد حاولوا لاحقا الدخول على خطه لمصلحة لهم بعد أن أدركوا ان الانتفاضة قد غيّرت في موازين القوى وضعضعت الاحزاب اللبنانية، وهذا الأمر تعيه الانتفاضة وتعي سبل حماية نفسها داخليا، ومنع أي طرف خارجي من التدخل في توجيه مسارها لتحقيق مصالحه.

العدد 100 –كانون الثاني 2020