تلازُم النظام اللبناني والنموذج الإقتصادي

عصام الجردي

المعاناة التي يواجهها لبنان الآن، على مستوى الإقتصاد والمال والنقد، وتحصيل حاصل على المستوى الإجتماعي، لم تكن مفاجأة بذاتها. ولا كان مفاجئا عجز النظام السياسي عن ادارة أزمة غير مسبوقة اقتصاديا منذ الإستقلال 1943، وأزمة حُكم هي الأولى بعد نهاية الحرب الأهلية 1975 – 1990. والكل مهجوس الآن في لبنان والخارج، باقتراب لبنان من حال الإعسار والتوقف عن الدفع، الأمر الذي اجتنبه لبنان حتى أثناء الحرب، ووفّى استحقاقات ديونه أصلا وفائدة في مواعيدها.

لا تُقرأ الأزمة اللبنانية الراهنة من خارج الإقتصاد السياسي. فالسياسات الإقتصادية الكلية، مالا ونقدا ونموا، صُممت تقنياتها على مسار النظام السياسي، ولخدمة قصوره في بناء دولة دستور عميقة ومؤسسات ركينة. لذلك، يجني اللبنانيون هذه الأيام حَصاد النظام السياسي والنموذج الإقتصادي معا. هشاشة النظام السياسي التي لازمته خصوصا منذ اتفاق الطائف الذي تحول جزءا لا يتجزأ من الدستور اللبناني، استمدّها من فجوتين هيكليتين. أما الأولى فلكون الإتفاق كان لإنهاء الحرب من جهة، ولإعادة تركيب النظام الطائفي مناصفة بين المسيحيين وبين المسلمين بمزيد من الانكشاف على الخارج العربي والدولي الذي رتّب الإتفاق وصاغه تبعا لميزان القوى الإقليمي والدولي. وليس على خلفية إنشاء الدولة العميقة، واستخلاص الدروس من الحرب المدمّرة وبناء المستقبل. قبِل زعماء الميليشيات الطائفية بالعودة المظفّرة الى السلطة. خلعوا بزّات الكاكي، ولبسوا الياقات البيض. وأما الثغرة الثانية، فكانت على خلفية الانكشاف على خارج عربي ودولي متنابذ، تتحرك سياسياته على هدى مصالحه. وهو نفسه الذي رعى نهاية الحرب واتفاق الطائف. فانتقل تنابذ الخارج مادة تنابذ سياسي داخلي. عطل عمل المؤسسات الدستورية اللبنانية، وانسحب على إدارة الدولة العامة ومرافق القطاع العام. وكان القادة السياسيون اللبنانيون يستنصرون هذا الفريق العربي والدولي، ليستنصروا أنفسهم على خصومهم السياسيين في الصراع الداخلي. لهذا كان الشغور أكثر من سنتين في موقع رئاسة الجمهورية. والإستعصاء الذي بات تقليدا في تأليف الحكومات الذي نشهد اليوم فصلا من فصوله. وانسحب الأمر على أجهزة الدولة المرجعية كافة ومؤسساتها. فاستحال إجراء تشكيلات قضائية ودبلوماسية وأمنية سنوات. وتعيينات في المواقع الاقتصادية والمالية الحساسة على خلفية الإستئثار  »هذا لي وهذا لكم«. ودائما كانت هذه المسرحية البائسة، تتلبّس حقوق الطائفة في نظام الإستحصاص الطائفي. بينما هي في الواقع غنيمة باسم الطائفة لهذا الزعيم أو ذاك. مصرف لبنان المركزي مثالا أخيرا. المجلس المركزي للمصرف في حال شغور إلاّ من حاكم المصرف (المحافظ) منذ نيسان الماضي وهو سلطة القرار في المصرف رغم الأزمة النقدية وتراجع سعر صرف الليرة البنانية نحو ثلث قيمتها!

كيف صمد النموذج؟

كيف يصمد اقتصاد بنموذج ريعي بالكامل في ظل نظام سياسي هشّ وفاسد وزبائني، ومشكوف على محيط إقليمي متفجرّ، وعلى مجتمع دولي يعاني مشكلات مالية وسياسية؟ ولطالما كان هذا السؤال مادة جدل واسع لدى النخب العلمية والثقافية في لبنان والدول العربية والمحافل الدولية. ولماذا سقط ذلك النموذج في 2019 بالذات، بينما بقي صامدا حتى في سنوات حرب من خمسة عشر عاما، دمرّت بناه التحتية وأعادته عقودا الى الوراء؟

النموذج الإقتصادي الريعي في لبنان راسخ منذ أكثر من سبعة عقود على الإستقلال. في اقتصاد حرّ، وملكية فردية مصونة في مقدمة الدستور. ركائزه الوكالات التجارية الموروثة عائليا. ونظام مصرفي ومالي عريق في منطقة الشرق الأوسط، يكفل حرية التحويلات بلا قيود، وحرية تبادل العملات وسعر الصرف السوقي. وموارد مالية من السياحة واللبنانيين العاملين في الخارج. وموارد بشرية كفيّة. مع تنوع ثقافي وحرية المعتقد والتعبير و »الصحافة الحرّة«. مقومات الإقتصاد الحرّ تلك، مكنّت لبنان من استقطاب تدفقات نقدية كبيرة لم تتوقف حتى خلال الحرب الأهلية واستمرت بعد اتفاق الطائف. وكانت تغطي عجزا مستداما في الميزان التجاري، وتستبقي فائضا في ميزان المدفوعات الذي يعبّر عن كل التحويلات بالعملات الأجنبية على اختلاف مصادرها من لبنان وإليه. الأمر الذي مكّن مصرف لبنان من تكوين احتياطات كبيرة من النقد الأجنبي لدعم سياسة تثبيت سعر الصرف على الدولار الأميركي بواقع 1507 ليرات معدلا وسطا منذ منذ نحو 25 سنة. وعزّز فائض ميزان المدفوعات التقليدي موجودات المصارف اللبناني من العملات الأجنبية. ورفع ميزانيتها المجمّعة إلى نحو 173 مليار دولار أميركي. زهاء أضعاف ثلاثة حجم الناتج المحلي الإجمالي من نحو 55 مليار دولار أميركي.

في علم الإقتصاد وتجارب كبريات الدول الصناعية، لا تستقيم سياسة نقدية وسعر صرف ثابت، من دون سياسة مالية متوازنة بالحدّ الأدنى. ولا يُستولد نمو مستدام من تنقيد الإقتصاد، وريوع الفوائد المرتفعة المناوئة النمو والتنمية. وقد أتيحت للبنان الكثير من الفرص لإدارة فوائض ميزان المدفوعات وإعادة تدويرها في اقتصاد منتج، صناعي وزراعي في المقام الأول، لاستيلاد النمو المستدام والقيمة المضافة وفرص العمل. لم نفعل. واستمررنا في سياسة عجز مالي سنوات طويلة. ورُحنا نموّل العجز بفوائد عاتية من المصارف اللبنانية المكتنزة من فوائض ميزان المدفوعات، ونحرم على نحو جائر، حصة الإقتصاد من الإستثمار والنمو في قطاعات الإقتصاد الحقيقي. وهذا التفسير الطبيعي لحجم ميزانية المصارف المجمّعة بأضعاف الناتج المحلي الإجمالي. وكان مصرف لبنان يعقّم الجزء الأكبر من ودائع المصارف ذخيرة للدفاع عن سعر ثابت لليرة اللبنانية. كان واضحا أن سعر صرف الليرة مقيما أعلى من قيمته الحقيقية.

لماذا الآن؟

إنقلبت الآية منذ 2011 حين بدأ ميزان المدفوعات يحقق عجزا متماديا بمليارت الدولار الأميركي. ويقدّر أن يسجل في 2019 رقم العجز القياسي غير المسبوق في تاريخ لبنان. جفّت التدفقات النقدية الخارجية. واستخدم مصرف لبنان لحماية سعر الصرف، جزءا من الودائع المصرفية الموظفة لديه شهادات يداع وخلافها، بفوائد بلغت نحو 7 في المئة على الدولار الأميركي ونحو 12 في المئة معدلا وسطا على الليرة اللبنانية. وأدى انكشاف المصارف على دين دولة مخفوضة التصنيف السيادي إلى درجة C القريبة من درجة التوقف عن الدفع. وتراجعت قيمة أوراق الدين السيادية الخارجية اليوروبوندز المكتتِبة بمعظمها المصارف اللبنانية. ليلحق خفض تصنيف المصارف الإئتماني تصنيف الدولة السيادي. ضاقت سبل ولوج المصارف إلى الأسواق الخارجية من خلال المصارف المراسِلة في الولايات والإتحاد الأوروبي. وتراجعت ودائعها لديها. وبات على المصارف اللبنانية فرض قيود على التحويلات من الودائع بالعملات الأجنبية. وقيود مماثلة على الإعتمادات المستندية لاستيراد سلع أساسية وتجارية تمثل نحو 75 في المئة من حجم الإستهلاك الداخلي. وكانت تلك الإجراءات أول انتكاسة للنظام الإقتصادي الحر منذ استقلال لبنان. ولئن كانت تلك القيود غير محمية بتشريعات تسوغها بعد، بيد أن أثرها سيكون كبيرا في اقتصاد ريوع يعتمد على التدفقات النقدية الخارجية وفائض ميزان المدفوعات. فكان من الطبيعي أن يتخلّى مصرف لبنان  عن تثبيت سعر القطع، ويخرج من السوق تاركا للصيارفة تقرير السعر.

أمّا لماذا انكشفت أزمة النظام السياسي والحُكم على أزمة النظام الإقتصادي والنقدي، فلأن الثانية مكشوفة على الأول دولة هشّة، استرسلت في مسار العجز المالي الذي تراكم دينا تجاوز 150 في المئة الناتج المحلي، لتمويل الفساد السياسي والزبائنية الطائفية من فوائض ميزان المدفوعات والتدفقات النقدية الخارجية. بينما بلغ لبنان شأفة الفقر، والبطالة بلا سقف، والشعب يعاني كل نتائج الدولة الفاشلة. بما في ذلك العجز عن ملء الشغور في مؤسساته الدستورية وتأليف حكومة. فالتلازم بين النظام السياسي وبين نموذج الريوع الإقتصادي لا فكاك منه. يبقى الإثنان معا، أو يسقطان معا. وحين يطالب الشعب الثائر في شوارع لبنان الذي كسر القيد الطائفي والمناطقي بتغيير النظام السياسي الزبائني، وينصحه سدنة النظام بالحفاظ على الطابع المطلبي والإقتصادي، فلأن الشعب يدرك التلازم بين النظام وبين النموذج الإقتصادي.

 »وقى الله لبنان« كتبنا في مقالة سابقة. ولبنان الآن في حال فوضى عارمة. وضائقة معيشية كبيرة.  »ربضت على الصبر الجميل أسوده  وتحكمت بالعاقلين تيوسه«، على ما نظم في أربعينات القرن الماضي  فؤاد جرداق، شاعر من لبنان، وكأنه كتب للحظة الراهنة. التيوس يحكمون عقلاء لبنان الآن. والعقلاء ما عادوا على دين تيوسهم.

العدد 100 –كانون الثاني 2020