بين القرآن والسيرة 2-3

رؤوف قبيسي

 اختلف الكاثوليك والأرثوذكس في أزمنة ومواقع مختلفة، واختلف الكاثوليك والبروتستانت في أزمنة مختلفة ومواقع مختلفة، ودارت بينهم حروب سُفكت فيها دماء وزهقت أرواح. فهل كان ذلك لمصلحة المسيحية؟ هنا يتساءل المرء: هل تفقد الفرق الإسلامية رشدها وتفعل الشيء نفسه، قبل أن تدرك أن لا جدوى من هذه الأدبيات الدينية التي لا علاقة لها بالإيمان الخالص؟

هل كان هدف الصفويين حين تبنّوا المذهب الجعفري خدمة  »الله« والإيمان؟ وهل كانت أهداف العثمانيين حين تبنّوا المذهب الحنفي خدمة  »الله« والإيمان؟

ألم يحن الوقت بعد، ليدرك العرب والمسلمون أن هذا التبني المذهبي غير العربي، لم يكن من الإيمان في شيء، وأنه قام على اعتبارات قومية ومصالح سياسية، ولم يجلب على العرب والمسلمين غير الضغائن والأحقاد؟

ألم يدرك المسلمون،  »سنّة وشيعة«، أن أكثر ما في السيرة وُضع لأسباب سياسية، وأنها لم تجلب لعموم الناس غير العداوة، ولم تكن إلا لفائدة أصحاب الأوقاف والحكّام وبعض المراجع الدينية التي لا تزال تتحكم برقاب الناس؟

وماذا يستفيد الفقراء،  »سنّة وشيعة«، من هذه السيرة التي تبعدهم عن الإيمان وتردّهم إلى مراجع دينية، تحضّرهم لحروب مذهبية في العراق وسوريا ولبنان، وفي كل مكان انقسم المسلمون فيها على أنفسهم؟

حين يجمد العقل ويضيق الصدر، يبدأ الخلاف وتتحول  »الرسالة التوحيدية« فرقاً وشيعاً ومذاهب وتأخذ أشكالاً عنصرية، وتصبح سبباً لمشكلات وخصومات بين الناس، يستغلها السياسيون وأصحاب المنافع، وتستغلها دول كبيرة لتتدخل في شؤون دول صغيرة، بحجة حماية الطائفة التي تدين بمذهبها، وفي القرآن آيات كثيرة تحذر من المتاجرين بالدين،  »الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلا«.

ساعة يجمد العقل ويضيق الصدر، يفرغ الدين من الإيمان، ويصبح المتديّن المنفصم الوجدان، الحاكم الفعلي على الأرض، يكره ويتعصب ويحارب ويقتل من لا يدين بدينه أو بمذهبه، تماماً كالقبلي المجند للدفاع عن قبيلته. أما المؤمن، الواسع القلب والعقل والرحمة، فلا يرتكب الموبقات، لأنه يؤمن بأن المحبة تسع المحسن والمسيء، وبأن  »رأس الحكمة مخافة الله.

اللجوء إلى سيرة وُضعت بعد الهجرة بمئات السنين، ولا أثر ملموساً لصفحة واحدة منها، واعتمادها بشكل أعمى كآيات منزلات، على ما فيها من اختلاف الروايات، هو الكفر بعينه، لأن المرء حين يقرأ شيئاً يدفعه إلى التعصب على الناس، فمعنى أن ما يقرأه ضد الإنسان، وتجديف في حق إله هو في القرآن واحد أحد.

ولدتُ في بيت كان أهلي يدينون بمذهب التشيع، وأول مدرسة انتسبتُ إليها كانت مقاصدية، حصة الدين فيها تأخذ بالمذهب السنّي. وكان أقرب أصدقائي في الحي الذي نشأت فيه من المسيحيين، وأول صبية أحببتها كانت يهودية تسكن في حارة اليهود في بيروت، فهل أكون كافراً إذا لم أقل إن عليّاً أولى بالخلافة من غيره، وإنه بالحق وليّ الله، وهل أكون كافراً إذا لم أكره السنّة والمسيحيين واليهود؟!

أخذتُ بالحديث عن نفسي لأصل إلى حقيقة أخرى على المسلمين أن يأخذوا بها، إذا أرادوا أن يكون لهم مكان بين الدول ويتصالحوا مع العالم، أعني بذلك التسامح. إذ لا يكفي أن يتحرر المسلمون من الأحقاد ليصبحوا طائفة واحدة. هذا جزء من الحل، أما اكتماله فلن يقوم إلا ساعة يقرأون القرآن بطريقة مغايرة لما اعتادوه في فهم النص وتفسيره. قراءة تأخذهم إلى التصالح مع ذاتهم ومع العالم، وتجعلهم يحترمون مشاعر الآخرين، وحقهم في أن يؤمنوا بما يشاؤون، أو يرفضوا ما يشاؤون.

ألا يردّد المسلمون قول عمر بن الخطاب  »متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟«. إذا كانوا فعلاً يؤمنون بهذا، فما بال بعضهم يسير كالمحموم، ليكره الآخرين على الإيمان بما يؤمن، وإذا لم يفعلوا، اغتالهم في المنازل والمساجد والكنائس والساحات العامة.

البشر ليسوا عقلاً واحداً وأهواء واحدة ورغبات واحدة. عقائدهم تبعاً لذلك ليست واحدة. لم يحدث في التاريخ أن كان البشر عقلاً واحداً وأمة واحدة. وقد صدق من قال  »أعط الناس عقلاً واحداً وأنا الكفيل توحيد اعتقاداتهم وأديانهم«. ما لي أستشهد بما قال عمر بن الخطاب، وهذا الحكيم أو ذلك، وفي القرآن آية هي خير مصداق على ذلك:  »ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون«. وإذا كان المسلمون يؤمنون بنار  »أعدّت للكافرين« فعليهم، إذعاناً لما في القرآن، أن يتركوا الخلق للخالق، هو الذي يحاسبهم في الدنيا وفي الآخرة، وهو شديد العقاب وهو غفور رحيم. إذا كان  »الله« هو من يحاسب ويخبر الناس بما كانوا فيه يختلفون، فمعنى ذلك أن لا أحد يملك الحق في أن يقول إن الحق بين يديه وما في يد غيره باطل، ويحاسب أخاه في الإنسانية. ولو قرأ الذين يقتلون الناس في العراق وسوريا القرآن وتدبّروه كما يجب، لاصفرّت وجوههم ساعة يصلون إلى الآية القائلة  »لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين«. والآية التي تنهى حتى  »نبي« الإسلام نفسه عن أن يكون وكيلاً على الناس  »فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر«، والآية الأخرى التي تحضه على عدم الإكراه  »ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين«.

العدد 100 –كانون الثاني 2020