ليبيا… ومن يبحثون عن وراثة النظام العربي

مشروعان يتقاطعان ويتسابقان على الأمتداد في الساحة العربية

أمين الغفاري

في اطار حركة الصراع بين الدول بحثا عن المصالح ومناطق الاستثمار، والمواقع الاستراتيجية ، لا يوجد ما يسمى ب(الفراغ)، فان تراخت اليد الوطنية التي تمسك بالعلم، في أي بلد، سوف يجد على الفور اليد الاجنبية التي تتلقفه، وتؤكد ذاتها وتفرض مصالحها، وسوف ترفع شعارات التبرير وحيثيات العدوان، مرة باسم السلام والأستقرار، وأخرى باسم حماية الشعب من الديكتاتورية والتسلط، وأخرى تذرف الدموع بحرارة عن حقوق الأنسان وأيضا وهذا هام استخدام (الدين) كعنصر له قداسة وتبجيل، مما يغري بالأجتذاب والتخدير، واتخاذه غطاء لأبشع أنواع الأستغلال، وعلى ذلك ليس هناك (فراغ) في عالم السياسة. ، ذلك هو درس التاريخ وعبرته، وهنا نتوقف قليلا وبشكل عابر، لنلتفت إلى الوراء ونتذكر قضية (الفراغ) تلك، كيف كانت خلافا مباشرا بل وقتالا مدمرا. كان الخلاف بين الولايات المتحدة ومصر، بعد خروج انجلترا وفرنسا من منطقة الشرق الاوسط 1956، حول من يملأ ذلك (الفراغ) في المنطقة بعد خروج هاتين القوتين الكبيرتين من المنطقة، لاسيما وان الثورة في الجزائر كانت تتزايد حدتها ضد الأحتلال الفرنسي. كانت وجهة النظر الأمريكية، وكانت تعد لذلك من خلال معارضتها للعدوان الثلاثي على مصر، أن الولايات المتحدة هي المنوطة بملئ ذلك الفراغ، ولهذا فقد تقدمت بمشروع أيزنهاور المعروف باسم (نظرية الفراغ)، وكانت وجهة نظر مصر أن الذي يملأ الفراغ هم العرب، فهم أهل المنطقة وسكانها، وسوف يقاومون أي محتل أو غاصب أو دخيل،

دوايت ايزنهاور
صاحب (نظرية أيزنهاور) أو (نظرية الفراغ) في المنطقة العربية

ولذلك تزعمت مصر الناصرية مقاومة مشروع أيزنهاورأو (نظرية الفراغ) عام 1957، كما تزعمت من قبل ذلك مقاومة (حلف بغداد) الاستعماري 1955، ومحاولة جر المنطقة إلى المشاركة في صنع حزام يطوق الاتحاد السوفييتي وكانت مصر ترى أن الاتحاد السوفييتي يمثل خطرا محتملا على المنطقة العربية ولكن الخطر القائم فعليا يتمثل في الكيان الصهيوني (اسرائيل) وهو ما ينبغي وضعه في الاعتبار، والأولى بالحذر. كانت المحاولة التالية لملئ ذلك (الفراغ) من الجانب الأمريكي، هو ما يعرف ب(الحلف الاسلامي) بعد أن سقط مشروع ايزنهاور، وهو يتمثل في صورة حل تلجأ اليه الدول الكبرى حين تواجه أزمة يستعصى حلها بادخال(الدين) كعنصر جاذب، وهو تحالف اسلامي تتزعمه تركيا ويضم السعودية والعراق وايران، وينسب إلى ايزنهاور أنه دون في مذكراته أن (بلاده كانت تنوي احتلال سوريا، وأجرى محادثات مع تركيا في هذا الشأن، الا أنه تراجع، وأوكل المهمة في ذلك إلى تركيا)، ولكن مصر تحركت بعد أن تأكدت المخابرات المصرية من جدية الأعداد للعدوان التركي على سوريا، وأرسلت قواتها عام 1957 لتقف على الحدود السورية التركية جنبا إلى جنب مع القوات السورية، مما ينذر أن المعركة ستتوسع جوانبها ان قامت، لا سيما وان المشاعر العربية قد التهبت مناصرة لسوريا وجيشها. وكان هذا الموقف أحد العوامل التي عجلت بقيام الوحدة المصرية السورية.
الفراغ.. والأعداد للعدوان
لا شك أن العالم العربي ليس في احسن أحواله، حتى وان كانت الأنتفاضات الشعبية تملأ الشوارع وتكنس بشعاراتها طبقات استنزفتها وامتصتها، وأصبحت بنداءاتها تشعل الآمال من جديد من صحوة تسترد الحقوق وتصحح الأوضاع، وتعيد للأمة بعضا من بأسها في مواجهة تلك الأنياب الكاسرة التي انتعشت آمالها في ملء (الفراغ) في المنطقة أثر الرياح العاصفة (للربيع العربي) التي دمرت وخربت وشردت الملايين من شعوبها. نعم حدث (الفراغ) في ربوعنا بعد أن تكسرت النصال على النصال وتخاصمنا وتقاتلنا وتآمر الأخ على أخيه، وبلغ الأمر أن دويلة نصبت نفسها كبيرا للعائلة العربية وو جهت ثرواتها في حملات دعائية، واعلامية لتحطيم وتشوية الذاكرة العربية، ومولت وسلحت مرتزقة من كل مكان لتصوب نيرانها إلى قلب الأمة العربية، فضلا عن أجهزتها الأعلامية. نعم حددث (فراغ)، وانكشف العالم العربي بعد ان انشغل بحالات الفوضى التي غزت ربوعه، فرأينا من جاء ليعلن أنه كفيلنا ورأب صدعنا وقيادتنا والتوفيق بيننا وبين أخوتنا من العرب، ومن العالم الاسلامي كافة. من تلك النماذج الهزلية التي أعلنت عن نفسها ذلك المؤتمر، الذي تزعمته ماليزيا وتركيا وايران وقطر، تحت شعار ديني باعتباره قمة اسلامية.
القمة الاسلامية في كوالا لمبور وتحويل القضية الفلسطينية إلى سياسة المحاور
لاندري كيف لرجل يحوطه الكثير من التقدير والاحترام مثل مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، ان يتورط في دعوة لمثل تلك القمة التي دعا اليها. أنها الدعوة لقمة استثنائية لمنظمة (التعاون الاسلامي) وهي منظمة معروف مقرها الرسمي في دولة أخرى، وتخضع في نظام أنعقادها، لقواعد، جرى اهمالها تماما لا سيما وأن الأمر ليس عاجلا، ولايخضع في مبرراته لتطورات عسكرية أو سياسية تتسم بأهمية بالغة وقصوى، مما حدى بالأمين العام الرسمي لتلك المنظمة (يوسف العثيمين) أن يدلي بتصريح يقلل فيه من ذلك الأنعقاد ويصفه بأنه (ليس من مصلحة

جمال عبدالناصر
تصدى لمشروع (الفراغ) في مواجهة امريكا

الأمة الاسلامية عقد مثل هذه القمم واللقاءات خارج اطار المنظمة، خصوصا في هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم صراعات متعددة)، ثم عاد وأكد أن مثل هذه الاجتماعات »اضعاف للاسلام والمسلمين« دون أن يسمي ماليزيا بشكل مباشر. ثم يصل هذا اللقاء الحزين في نهاية الأمرالى تلك النتيجة المؤسفة التي خرجت بها توصياته، حيث عرفته بقمة مصغرة، وذلك بعد أن هجرها عدد من القادة الكبار، وتمثلت رموزها في حكام ايران وتركيا وقطر
وصدرعنها ذلك البيان المتهافت، الذي يقتصر على بث دروس في المصالحة والوئام، وبعد انتهاء أعماله أنبرى القادة المجتمعون في التعريض بباكستان وبالسعودية وغيرهما من الدول لأنهما لم يشاركوا في ذلك المؤتمر، الذي تم فيه التخطي الواضح لمقره الأساسي وأمينه العام الرسمي. لقد كان الهدف الحقيقي من ذلك المؤتمر هو محاولة لكسب شرعية، وتنصيب وصاية على العالم الاسلامي، وأنشاء منظمة بديلة تلغى بوجودها الدورالسعودي العربي لصالح الدور القومي الفارسي والطوراني.
لقد أدلى مهاتيرمحمد الرئيس الماليزي بحديث لقناة الجزيرة، وسأله محمد كريشان (ماذا بوسعكم ان تقدموا للقضية الفلسطينية فأجاب »عسكريا: ليس في وسعنا عمل عسكري. أقتصاديا:ليس هناك مجال كبير لذلك. لا يبقى الا العمل السياسي لكي نقوم به، وعلى ذلك فهذا المؤتمر ليس سوى محاولة لطمس الدور العربي، من خلال اقصاء السعودية، وتحويله إلى منبر تركي يتولاه أردوغان. أي أن القضية الفلسطينية بدلا من التعاون من اجلها، يسعى ذلك المؤتمر إلى ادخالها في سياسة المحاورالسياسية وخلافاتها، وتنكرها لعوامل الجغرافيا، باعتبار ان القضية الفلسطينية قضية وطنية في المقام الأول، ثم قضية عربية في المقام الثاني، ولاننسى أن تركيا كانت أول دولة اسلامية تعترف باسرائيل، فهل هناك عبث بقضية مركزية بهذا الحجم أكثر من ذلك !
ليبيا.. المعركة الجديدة لبسط النفوذ واغتراف الثروات
في اطار انشغال الأمة العربية بمشاكلها المتعددة في هذه الفترة من الزمان، بعد عواصف الربيع العربي نشأ ذلك (الفراغ السياسي) الذي نعاني منه، ومن هنا تجرأت دول الجوار للتوسع والهيمنة والحلم بعودة التاريخ حيث كانت الأمبراطوريات ومفاهيم (الخلافة) كنظام حكم الذي يفتقد إلى أي نص ديني على الأطلاق، لكي تتوسع وتتمدد وتستنزف وتتجرع الدم العربي، وهو أمر أن كان يثير الحزن لنا كمسلمين، وأبناء دول جوار، الا انه بالمفهوم السياسي أمر طبيعي للغاية فليس هناك (فراغ)، ودائما الأقوى ينتصر، ويفرض واقعا جديدا علينا أن نفهمه، وبعدها علينا أن نقاومه، ولانستسلم له.
السيد أردوغان في حالة من النشوة، ولذلك أخذ على عاتقه ان يتمدد، وأن ينشر قواته، ويقيم قواعده في أكثر من دولة. قواعده في سوريا وفي العراق، ولها دور وظيفي محدد ومرسوم، وهو منع أكراد سوريا من تحقيق أي نوع من الاستقلال أو الحكم الذاتي، وكذلك منع اي تعاون بين اكراد العراق وأكراد سوريا، كما تهدف كذلك إلى التصدي لنشاطات حزب العمال الكردستاني وقواعده في تركيا.
ولتركيا قواعد عسكرية أيضا في الصومال وقطر وقبرص (في قسمها التركي)، وكانت قد اتفقت مع البشير على اقامة قاعدة بحرية في جزيرة (سواكن) السودانية، وقد تبخرت مع عزل البشير. وتتواتر الأنباء عن وجود عسكري من خلال خبراء وقادة أتراك في ليبيا، حتى قبل التصديق البرلماني على طلب أردوغان. بحسب النص الرسمي للبيان التركي، يرسل أردوغان قواته إلى ليبيا من أجل (مصالحنا) ومصالح أصدقائنا. أي أنه بالطبع ليس جمعية خيرية يعطي بلا عائد، ولايرسل قواته لكي تواجه مصيرا ليس بالضرورة سعيدا من اجل مصالح السراج

فايز السراج
استدعى تركيا للدخول إلى ليبيا

والنظام الحاكم، ولكنه ذهب من أجل:
منطقة نفوذ بحري في ليبيا عبر البحر الأبيض المتوسط
البحث عن مصادر الطاقة والغاز التي تفتقدها تركيا وهم يعدون لأتفاقية مشتركة للتنقيب هناك
الأقتراب من الحدود المصرية، ومساندة تحركات وأطماع جماعة الأخوان التي تمت الأطاحة بها عقب ثورة 30 يونيو المجيدة
المشاركة في حركة أعمار ليبيا بعد ان تتوقف الآلة الحربية، وهي مجال مفتوح قابل للأستثمار
دعم فكرة العثمانية الجديدة والترويج لها باعتبار ان المنطقة كانت مضافة للحكم العثماني.
اتباع القاعدة السياسية القديمة وهي البحث عن معارك خارجية للألتفاف على المشاكل الداخلية بعد أن اتسعت حركة المعارضة ضد سياساته والأنشقاقات التي تعرض لها حزبه إلى حد تشكيل بعض رفاقه أحزابا جديدة تناهض سياساته، وقد رأينا هزيمة حزبه الكبيرة في انتخابات(اسطانبول) الأخيرة. لكن السؤال هل اصبحت تركيا احدى الدول العظمى التي تقاتل في اكثر من ميدان، أم أن (قطر) تتولى الأنفاق والدعم المادي، وكذلك تمويل الجماعات المختلفة من المرتزقة، وتتوالى الأنباء أنه قد تم سحب بعض القوات من الجبهة السورية وتصديرهم إلى ليبيا (نحو ألف مقاتل) من المرتزقة، لكي يلعبوا نفس الدور الذين لعبوه من خلال عملية (نبع السلام) في سوريا، بينما تكتفي تركيا باستخدام الطيران وبعض القوات التركية الحربية ولكن في مؤخرة المقاتلين، حتى لا تتم التضحية بهم في القتال. كما يلاحظ ايضا أن الجبهة على اتساع كبير وتركيا ليست لها حدود مشتركة، ولذلك فالمقامرة ليست كبيرة وليست سهلة.
يذكر السيد اردوغان في تعقيبه على بيان جامعة الدول العربية، وادانتها لوجود قوات أجنبية على الأرض العربية (كيف يصدر ذلك البيان بينما تركيا استقبلت أكثر من 400 ألف لاجئ أغلبهم من العرب على أراضيها، ثم يستطرد ألا يخجلون! وينسى السيد اردوغان أن هؤلاء اللا جئين قد فروا من القتال من تحت فوهات المدافع التي انطلقت رصاصاتها من بنادقه، وقذف الحمم من طائراته وححم النيران التي قامت بصبها قواته.
كنا نتطلع دائما ان تتعرف تركيا على هويتها وتحددها، وترى اننا اقرب اليها من التكتلات والأحلاف الغربية كالناتو، وحلف بغداد وغيرها من المشاريع الاستعمارية، ولكن أردوغان جاء لكي تداعبه من جديد أحلام السلطنة والخلافة، ونجد أنفسنا أمام عثمانية جديدة، وللمفارقة ما زالت العثمانية القديمة عالقة في ذاكرتنا وفي سطور تاريخنا باعتبارها (الحقبة الظلامية) في التاريخ العربي، التي عبرناها إلى غير رجعة، وبكونها درس التاريخ وعبرته وعظته.
انهما مشروعان يتقاطعان ويتسابقان لوراثة النظام العربي في حالة الأضطراب التي يمر بها، ويحاولان ملء (الفراغ) بارتداء ثوب (الدين). المشروع الفارسي الشيعي، والمشروع السني العثماني، يضاف إلى ذلك التسابق الاستعماري الخارجي، وماضيه الطويل معنا.

الجنرال حفتر قائد الجيش الوطني الليبي

المشروع العربي هو المؤهل لسد (الفراغ)
ان الأطماع الخارجية لن تتوقف، والضعف يغري دائما بالأنقضاض، والفراغ يجد دائما من يملأه، لذلك لن تتوفر لنا حماية غير قوتنا، وأولى خطوات القوة لنا هي وحدة الصف العربي وازالة التناقضات في سياساتنا، وتقوية (الجامعة العربية) فهي قوية بقوة الدعم العربي وضعيفة ومتهالكة ومدعاة للسخرية بفعل الضعف العربي وليس لضعف ذاتها، فالجامعة العربية مرآة لواقعنا. الخلافات العربية رفاهية لا تتحملها ظروفنا الراهنة، والتصدي للمشروعات الخارجية أول خطواته وجود المشروع العربي الذي يوحد ولايفرق، ويضيف ويبني، ولايهدم أويحطم. نحن في أشد الحاجة لرأب الصدع في صفوفنا، ونحن من أوجد (الفراغ)وعلينا نحن أيضا أن نملأه.

 

 

 

العدد 101 –شباط 2020