علاوة المخاطر في الموازنة العراقية

عصام الجردي

بلاد الرافدين في محنة. الحجر البركاني يتجمّع على حضارة ما قبل التاريخ. شريعة حمورابي توقفت عن العمل من زمان. وبغداد العلم والعلماء، والأدب والشعراء، والنفط والماء، في قلب المعاناة المريرة. ما يتبدى اليوم من الغيوم السود فوق سماء العراق هو رأس أكمة الجليد. ويشاء القدر أن تتحول أرضه اليوم مختبرا لصراع مجهول الخواتيم، وبلا مستقرّ لسنوات قادمة. ملمح وحيد يبزغ. إنتفاضة شعب العراق في شوارع بغداد والقصبات العراقية الكبيرة، يطالب بالحرية والرغيف والعدالة والتقدم. وباستئصال آفة الفساد وبناء عراق يستحقه شعب، ودولة يستحقها وطن.
لم تعد المؤشرات الاقتصادية في معظم البلدان العربية قاعدة تقليدية وحيدة لبناء توقعات النمو والتنمية وفرص العمل والرفاه. كمثل البلدان المتقدمة، وتلك التي تتدرّج في سلّم الدولة العميقة في طريقها إلى تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية. باتت المخاطر الجيوسياسية في رأس روزنامة توقعات الاقتصادات الكلية. هذا شأن العراق اليوم، الرازح تحت تلك المخاطر. يضاف اليها ربما ما هو أوقع أثرا، يتصل بالدولة العميقة التي يفتقدها العراق منذ سنولت طوال، وتغُل يده في مجالات استثمار موارده الطبيعية والبشرية. أن يتحول العراق اليوم »رهين المحبسين« الولايات المتحدة وايران، وفي ظل مؤسسات دستورية خمولة وفاسدة على خلفية صراع مذهبي وطائفي، يعني أن الرحلة طويلة بعد كي يعبر العراق إلى الاستقرار. مفتاح جذب الاستثمارات والنمو وتطوير الاقتصاد.
بعقل المرابي الآتي من أسواق المضاربات العقارية والكازينوات، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد مقتل رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني، وأبي مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي، عزمه على فرض عقوبات اقتصادية شديدة على العراق، إن هو نفّذ قرارا صدر عن مجلس النواب وطالب بسحب القوات الأميركية من البلاد. وترمب حضّ بغداد على سداد مليارات الدولارات الأميركية التي أنفقتها بلاده على قواعدها في العراق. لم تكن هناك ردة فعل من طهران على تهديد ترمب. في صرف النظر عن موقف حكومة تصريف الأعمال العراقية المستقيلة من تنفيذ قرار مجلس النواب غير الملزم، فأي عقوبات »لم يروا مثلها من قبل« على ما قال ترمب، ستضع العراق في موضع دقيق جدا على المستويين المالي والاقتصادي. والمؤكد أن طهران ستدفع ثمنا كبيرا يضاف إلى تكلفة العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة عليها. فالعراق كان أنبوب الأوكسجين تتنفس منه طهران لجبه العقوبات الاقتصادية. التبادل التجاري لصالح طهران. ويبلغ حجمه الاجمالي نحو 13 مليار دولار أميركي سنويا حدا أدنى. المناطق الحرّة التي أقامتها طهران على حدودها مع العراق مكّنتها من تفعيل التجارة بالعملتين الايرانية والعراقية. وأسهمت إلى بقوة في تأمين السلع إلى الأسواق الداخلية الايرانية العطشى. هناك شكوك كبيرة في رواج بضائع يستوردها تجار عراقيون ويعاد تصديرها إلى ايران من جديد. وكل ذلك من خارج النظام المصرفي في البلدين. في المقابل يستورد العراق الغاز الايراني لزوم استيلاد نحو 45 في المئة من الطاقة الكهربائية ويستورد جزءا من استهلاك الكهرباء.
من المشكوك فيه، عدم عِلم واشنطن بالتجارة البينية الايرانية – العراقية. لكنها كانت تغض الطرف مراعاة لبغداد أكثر منها لطهران. وتتحدث مراكز البحوث أميركية عن سلع تكنولوجية بالغة الدقة تعبر بغداد إلى طهران، ومدرجة في رأس لائحة العقوبات الأميركية. لا يمكن التكهن في مستقبل الصراع الأميركي – الايراني في المنطقة وعلى العراق خصوصا. بيد أن وقوع العراق وقراره السياسي في يد طهران، وتبني الحكومة العراقية الحالية أو الجديدة قرار خروج القوات الأميركية، لن تُثني ترمب عن تنفيذ عقوبات على العراق ستلحق به أذى شديدا من شأنه غلق المنافذ على طهران وبغداد في وقت واحد. العراق يحظى بمهلة سماح لشراء الغاز والكهرباء من ايران. لو حظّرت واشنطن هذا الأمر ستُلحق ضررا بالغا بالفريقين. وهناك مجالات واسعة للعقوبات الأميركية على العراق في المجال العسكري وقطع الغيار لمقاتلات F16. 70 في المئة من الترسانة العسكرية العراقية من منشأ أميركي. أمّا لو شملت العقوبات القطاع المالي العراقي ورجال أعمال عراقيين، فالنتائج ستكون قاسية على الاقتصاد العراقي.
وكانت تقارير أميركية تحدثت قبل سنة عن احتمال فرض عقوبات اقتصادية على العراق بعد أن تمّ تشريع فصائل الميليشيات العراقية الموالية لطهران. الأمر الذي دفع الادارة الأميركية إلى تعديل خططها لتقليص وجودها العسكري في قواعدها العراقية. طهران تدرك لا شكّ، أن أي عقوبات على بغداد ستقفل في وجهها المنافذ على الخارج. وسترفع منسوب الغضب الشعبي العراقي عليها وانتفاضة الشارع العراقي التي تطالب علنا بسيادة العراق وقراره السياسي عن طهران. ما يزيد من قلق الحكومتين العراقية والايرانية، موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي سارع إلى دعم الموقف الأميركي بعد اغتيال سليماني والمهندس، ونبّه طهران إلى أن أي ردّ فعل متهور على العملية. كل ذلك رغم التباعد في المواقف الأميركية الفرنسية من الوضع في المنطقة. دول أخرى في حلف الناتو فعلت الأمر نفسه.
بعيدا من التطورات الجيوسياسية الأخيرة واحتمالاتها المالية والاقتصادية على العراق، لا يزال الاقتصاد يعمل على المال وليس على النمو. موازنة 2020 ستشهد أكبر نسبة من العجز المالي منذ عقود. مشروع الموازنة الذي لم يصدر بقانون عن مجلس النواب بعد، والمقدّر مقيما بالعملة الأميركية بنحو 135 مليار دولار، تصل تقديرات العجز فيه إلى 32 مليار دولار أميركي. ولنا أن نلحظ أن المشروع أسقط الكثير من النفقات على الاستثمار والبنى التحتية والخِدمات. يعني ذلك موازنة من طبيعة مالية أكثر منها اقتصادية. وهذه ليست الوصفة المثالية لمحركات الاقتصاد والنمو وفرص العمل. وهو ما يحتاجه العراق في الوقت الحاضر. موازنة 2020 في حاجة إلى المزيد الدين لتمويل العجز. وفوائد الدين لن تكون ميسّرة لعوامل عدة أقلها اثنان. أمّا الأول، لأنها موازنة نفقات جارية على جيش العاملين في القطاع العام بانتج أقل وأعباء أعلى. وليست نفقات استثمارية. والمطلوب العكس. أي تقليص حجم العمالة في القطاع العام وخلق فرص عمل في القطاع الخاص المنتج. وأمّا الثاني، فلأن علاوة المخاطر الجيوسياسية تتظهر هامشا اضافيا في معدلات الدين السيادي. ولا بد أن تكون مصحوبة بارتفاع الفوائد التجارية والاستثمارية في القطاع الخاص. أي الوصفة السيئة الطاردة الاستثمار والنمو. يضاف إلى ذلك، أن مشروع الموازنة أقرّته حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة. وهناك من يطالب بمناقشته في مجلس النواب لإقراره. هو مظهر من مظاهر الخلل في المؤسسات الدستورية في العراق. فمشروع الموازنة واحد من أهم التشريعات التي تصدرها مجالس النواب في العالم. ما لم يكن أهمها على الاطلاق. مشروع الموازنة العراقية لسنة 2020 أعدته حكومة مستقيلة. بينما ستنفذه حكومة جديدة لا يد لها في المشروع بحجمه وعجزه وأهدافه. وبالتالي، فالحكومة الجديدة المفترضة ليست مسؤولة عن نتائج موازنة لم تُعدّها ليحاسبها مجلس النواب أو ليسائلها. ولا يغيّر في الواقع أن يكون مشروع الموازنة أُنجز قبل استقالة حكومة عبد المهدي. لو تألفت الحكومة الجديدة ومثلت أمام مجلس النواب لحيازة الثقة، فسيكون عليها اعادة النظر بمشروع الموازنة واستئخار صدورها بقانون. وسيكون التمويل استثنائيا موقتا من المصرف المركزي العراقي في انتظار قانون الموازنة. والمصارف المركزية أسوأ مصادر التمويل.
يقدّر صندوق النقد الدولي أن يصل الدين العام العراقي في 2020 إلى 138 مليار دولار أميركي. أي أبعد من 60 في المئة المعدل المعياري الدولي إلى الناتج المحلي الاجمالي. حسنا فعل مجلس النواب العراقي الذي منع الحكومة الاقتراض بالعملات الأجنبية. بيد أن اعتماد الدينار العراقي مصدرا للدين، سيتوقف على قدرة الادارة المالية على إحداث توازن في نسبي في الموازنة، وتحقيق فائض في الحساب الأوّلي. للحدّ من العجز وخلق النقود التضخمية. وفي ضؤ تراجع الحوافز الاستثمارية فالكتلة النقدية بالدينار العراقي المستولدة من تمويل العجز عرضة لتتحول طلبا على الدولار الأميركي والعملات الأجنبية. وبالتالي مزيدا من الضغط على سعر صرف الدينار.

العدد 101 –شباط 2020