خامنئي-ترامب: صراع أجندتين

لماذا انقلب الأميركيون على قواعد الاشتباك واخترقوا الخطوط الحمر مع إيران؟

لا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ أن العالم برمته يتموضع خلف حدث تاريخي لافت تمثل باغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. المسألة ليست حادثة عادية داخل صراع تقليدي بين الولايات المتحدة وإيران، والمسألة ليست تفصيلا يرتبط فقط بواشنطن وطهران، بل إن الأمر يشغل العاملون على رسم الخيارات الاستراتيجية في الصين وروسيا كما في أوروبا وآسيا. ولئن اعتاد العالم رتابة في النظام الدولي وتمردا محسوبا عليه، أو حتى توقا لإنتاج نظام دولي بديل، فإن ما ارتكبته الولايات المتحدة ضد إيران وجنرالها الشهير في العراق ثم رد إيران الصاروخي -الغير مزلزل- في العراق أيضا، وفّر أعراضا فجّة يُبنى عليها لتفسير واستشراف عالم اليوم كما عالم الغد.
وتدخل المنطقة في طور جديد سيعيد رسم الخرائط السياسية التي قلما اهتزت منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. تغير الشرق الأوسط، لا سيما منذ اندلاع »الربيع العربي«. تغيرت مصر وتونس وليبيا وسوريا، وتغير اليمن والسودان، وتغير لبنان والجزائر. لا يهم ما هو التقييم الإيجابي أو السلبي لهذا التغيير أو ذاك، إلا أن الثابت أن العالم كله يتغير، فيما لم يطرأ على النظام في طهران أي تغيُّر يذكر منذ الإطاحة بشاه البلاد عام 1979.
تغيرت الولايات المتحدة منذ اعتلاء دونالد ترامب »عرش« بلاده. تغيرت قبل ذلك بانتخاب باراك أوباما لولايتين رئاسيتين، بيد أن ترجل ترامب على رأس السلطة في البيت الأبيض، جاء متوِّجا لتحولات جرت داخل »الدولة العميقة« في الولايات المتحدة على النحو الذي ظهر في

اغتيال قاسم سليماني: تهديد مباشر لنظام طهران

استحقاقات وملفات لاحقة. قطع ترامب »قدسية« التحالف الغربي وأيقظ داخله شياطين التناقضات التي كانت نائمة كرمى لعين الصراع البائد مع الاتحاد السوفياتي. اندثرت الحرب الباردة منذ عقود، وبات مشروعا أن يكشّر رئيس الولايات المتحدة عن أنياب غليظة ضد أوروبا وكندا والمكسيك والحلف الأطلسي، كما تكشّر الولايات المتحدة عادة ضد خصوم مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
تساكنت الإدارات الأميركية على المدى العقود الأربع الأخيرة مع »ظاهرة« جمهورية الولي الفقيه. قيل إن قواعد الحرب الباردة روّجت لقدوم زعيم »ديني« يحكم إيران بديلا لشاهها الضعيف، فيقف سدا منيعا ضد دولة »الإلحاد« في الاتحاد السوفياتي. قيل أيضا إن إيران دولة كبرى يصحّ تدجينها والحدّ من أخطارها ولا يصحّ خوض حرب ساحقة ضد نظامها. فحين حكم محمد مصدق البلاد بدعم الشعب الإيراني عام 1953، لم ترسل واشنطن جحافلها، بل إن وكالة المخابرات الأميركية تدبرت الأمر داخليا وأعادت الشاه من منفاه. وعليه لا يجوز اللعب في مصير دولة محورية في المنطقة تخدم في النهاية مصالح هذا الغرب، وإن كان خطابها العقائدي يبدو معاديا، لكنه بالنهاية لا يشكل خطرا وجوديا كذلك الذي كانت تشكله الإمبراطورية الشيوعية منذ صعودها وحتى زوالها الميمون.
كانت إيران الثورة عونا في الحرب التي شُنت ضد الاحتلال السوفياتي في أفغانستان، وعونا في حرب الولايات المتحدة ضد نظام طالبان هناك، وعونا في القضاء على نظام صدام حسين في العراق. موضوعيا، وقفت طهران في خندق واحد مع واشنطن في جهودها وحروبها في تلك المنطقة، على الرغم من أن شعار »الموت لأميركا« لم يسقط يوما، على الرغم من أن »الشيطان الأكبر« في واشنطن كان يُدرج إيران داخل »محور الشر« الشهير. وقد يطول الحديث عن تقاطع في المصالح وتبادل منافع خبيث لم يتوقف يوما بواجهات تعددت أشكالها وهوياتها، كان آخرها التحالف شبه المعلن، وبرعاية الجنرال قاسم سليماني نفسه، لمحاربة تنظيم داعش، لا سيما في العراق وسوريا.
لم تخرج إيران يوما عن خطوط الممكن والمتاح داخل خريطة مصالح الولايات المتحدة في العالم. كانت واشنطن تعتبر أن إيران عاملا يلعب دوما دور الشريك أو المساند، وأن ما تظهره طهران من عداوة قد تأخذ طابعا دمويا داخل هذا الميدان أو ذاك (تفجير السفارة الأميركية ومقر المارينز في بيروت مثالا)، لم ينف يوما التزام طهران بالحدود المعقولة للعبة الكبرى. بيد أن تمرد دونالد ترامب على الاتفاق النووي الذي عمل سلفه باراك أوباما بدعم كامل من المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية الأميركية على صناعته، أماط اللثام عن فلسفة جديدة داخل »الدولة العميقة« بدأت ترى الأمور بعين أخرى، وتقيس موقع أميركا في العالم، على قاعدة أنها الأقوى، وفق مكيال جديدة يأخذ بعين الاعتبار الخطر الصيني بصفته بات داهما »وقحا« يتطلب جراحات عاجلة.
باتت إيران ركنا من أركان المناورات المشتركة مع الصين وروسيا تارة في المحيط الهندي وتارة في بحر عمان. ذهب العراق الخاضع لنفوذ إيران لتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع الصين بقيمة 400 مليار دولار ولفتح حدود البلاد مع سوريا عبر بوابة القائم-بوكمال، بما يتيح لإيران فتح ممرها الاستراتيجي الشهير بين طهران وبيروت. بدا أن للتمدد الإيراني روائح صينية كريهة.
قد يكون من المخاطرة القول إن قرار ترامب بتفخيخ الاتفاق النووي من خلال انسحاب الولايات المتحدة، والذهاب بعد ذلك إلى فرض »عقوبات تاريخية« على طهران، وفق تعبير ترامب نفسه، لا يهدف إلا إلى استعادة إيران إلى الحضن الأميركي، كما كان أمر ذلك في عهد الشاه قبل الثورة الإيرانية. أرفق ترامب تهديداته دوما برسالة كررها بضجر أن بلاده لا تريد إسقاط النظام في إيران. لم يكن ترامب يكذب ولم تكن الولايات المتحدة ودولتها العميقة تريد ذلك. فالهدف بالنهاية هي سوق هذا النظام بالذات داخل تحالف تبنيه واشنطن في العالم يوقف المد الصيني الذي يتسرب عبر طريق الحرير ليقضي يوما على زعامة الولايات المتحدة في العالم.
لم تدعم واشنطن أي فصائل مسلحة ما برحت تقاتل ضد نظام طهران منذ عقود. ولم تتدخل يوما في صراع الأجنحة السياسية الداخلية في إيران لصالح هذا وضد ذاك. ولطالما كان موقفها محبطا مخزيا حيال الانتفاضات الشعبية التي شهدتها المدن الإيرانية بحيث كاد يكون غائبا أثناء

المرشد علي خامنئي: صراع منطق الثورة ومنطق الدولة

»الثورة الخضراء« عام 2009 التي خرجت احتجاجا على تزوير مزعوم أعاد انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية. ولم تعلق كثيرا على انتفاضة المدن الإيرانية الصاخبة بين عامي 2017-2018 والتي أجمع ساسة إيران، المحافظون والمعتدلون الإصلاحيون، على وصفها بالغوغاء، ولم تعلق إلا بالحد الأدنى الداعي إلى احترام حقوق الإنسان في الموقف الذي اتخذ، وعلى لسان وزير الخارجية مايك بومبيو خصوصا، في مواكبة الانتفاضة الأخيرة في البلاد.
لا تريد واشنطن إسقاط النظام. ولا تريد أن تدعم أو تساعد أو تعظّم شأن أي معاندة داخلية لهذا النظام. لا تريد الولايات المتحدة القضاء على نظام إيران على منوال ما فعلت أو ساعدت ضد أنظمة مثل العراق وأفغانستان وليبيا ويوغسلافيا.. إلخ، ولا تريد العمل على فرض نظام موال على أنقاض نظام معاد، بل تريد من هذا النظام بالذات أن يكون متموضعا وفق حالة جديدة تتعامل بلغة مصالح الدولة وليس فوضى الثورة. كانت اتفاقية أوباما النووية تحضّر إيران لولوج مرحلة تطبيع مع العالم وفق شروط الراهن التي تجاوزت ظروف إنشاء روح الله الخميني لجمهوريته. اصطفت شركات العالم على أبواب هذا السوق الواعد في إيران أملا في أن تغلق طهران صفحة وتفتح أخرى تجعل من الوصل بين واشنطن وطهران مصلحة إيرانية. لكن ذلك لم يحصل.
لم يطلب ترامب إلا اتفاقا جديدا مع إيران. أوحت مطالب بومبيو الـ 12 الشهيرة ما هو المطلوب من إيران. طهران قرأت هذه المطالب جيدا وأدركت أن تحول البلد إلى دولة وإنهاء عصر الثورة سيحدث تحولات اجتماعية سياسية ثقافية كبرى تطيح بلزومية ولاية الفقيه وبنيانها في نظام البلد. لم يتغير شيئا في أداء طهران لم يتغير شيئا في خطابها ولم يتغير شيئا في مغامرتها في التعويل على أمبراطورية خارج الحدود كان قاسم سليماني مهندسها وراسم خرائطها.
ضربت »الدولة العميقة« في الولايات المتحدة على خشبة الستاتيكو القديم. نفذ دونالد ترامب مُحرّما فأزاح من إيران واجهة كبرى، وربما الواجهة الأولى لإيران الثورة.
في تغريدة محمد جواد ظريف بعد الردّ الإيراني ضد قواعد عين الأسد وأربيل الأميركية في العراق (الرد انتهى) منطق إيران الدولة الذي يفيد بأن الرسالة وصلت. في هذا الوقت ما زال المرشد (الرد صفعة غير كافية) ينفخ من موقعه السامي رياح ثورة مترنحة.
غير أن هذا الأداء الإيراني المترنح انكشف فورا على الرغم من كمّ التصريحات النارية التي انطلق قبل أن تطلق صواريخ إيران صوب قاعدتي عين الأسد وأربيل في العراق ضد الأهداف الأميركية هناك. فخلال أقل من 24 ساعة على اغتيال سليماني تراجعت منابر إيران عن التهديد برد مزلزل ساحق وراحت تهمس برد »مدروس« قد يجري الاتفاق حوله بالرعاية المعلنة للوسيط السويسري.
وحين هددت المليشيات التابعة لإيران في العراق ولبنان واليمن بالرد الموعود، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاجل بالإعلان عن خطط واشنطن برد ساحق داخل إيران نفسها (52 هدفا مرصودا). وعليه فإن واشنطن استعادت برشاقة زمام المبادرة، فيما بدت طهران متخبطة مرتبكة، تستعين بترسانتها اللغوية، علّها تعوض ما نال من هيبتها ووقارها.
تفوقت الولايات المتحدة على العالم في ما تمتلكه من قوة اقتصادية هائلة، تقلق دولة عظمى كالصين وتجمعا دولي كالاتحاد الأوروبي، حين تلوّح بعقوباتها الاقتصادية. ذهبت الصين إلى اتفاق تجاري مع العملاق الاقتصادي الأميركي، فيما دول حلف شمال الأطلسي تذعن لمطالب ترامب برفع نسب مساهماتها في ميزانية الحلف العسكري الغربي، وتسعى دول أوروبية لإيجاد أرضية ترفع عن منتجاتها رسوم ترامب الجمركية الصاعقة.
لم يكن باستطاعة إيران أن تواجه العقوبات الأميركية المفروضة عليها. انهارت المكابرة، وبدأت كافة منابر النظام في طهران تعترف بأن العقوبات قاسية تخنق البلد. بدا أن طهران تخسر في هذه الساحة وبدا أنها تبحث للرد والدفاع في ساحات أخرى.
عملت إيران على استجداء مواجهة عسكرية ما مع الولايات المتحدة. اعتقدت أن إسقاط طائرة مسيرة أميركية من أحدث طراز في العالم ومن أغلاها ثمنا بصاروخ بخس فوق مياه الخليج (يونيو الماضي)، سيستدرج رداً أميركيا يتيح لإيران الاستمتاع بنعمة الأزمة العسكرية مع الدولة الأكبر. كان الهدف هو تحويل السجال من جدل حول برنامجها النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية ونفوذها »المزعزع للاستقرار في المنطقة«، وفق التعبير الأميركي الغربي، إلى انهماك دولي في كيفية إنهاء المواجهة العسكرية الثنائية على نحو يرفع إيران إلى مستوى الندية مع الولايات المتحدة، وبالتالي الذهاب إلى طاولة المفاوضين كمقاتلين يبحثون وقفا لإطلاق النار.
حاولت إيران تحقيق الأمر في الأشهر الأخيرة من خلال هجمات متعددة قامت بها ميليشيات عراقية موالية لطهران ضد القواعد الأميركي في العراق دون أن تحظى طهران بالمواجهة الأميركية الإيرانية الموعودة. بدا أن أذرعها في سوريا ولبنان مكبّلة بقرار دولي عام (تشارك به روسيا) يتيح لإسرائيل التعامل بحزم وحسم مع أي أخطار إيرانية تظهر هناك.
ويجوز القول إن طهران كانت تسلك منهجا صحيحا متكئة به على قواعد لعبة اعتادت عليها خلال العقود المنصرمة.
منذ أزمة الدبلوماسيين الرهائن في السفارة الأميركية في طهران، مرورا بخطف الرهائن وتفجير ثكنة المارينز في بيروت، انتهاء بتمدد النفوذ الإيراني في ميادين المنطقة، كانت إيران تلاحظ بتلذذ سلوكاً أميركيا يتراوح بين الانسحاب والتراجع والصمت البناء. حتى أن الولايات المتحدة التي لطالما وُصفت بـ »الشيطان الأكبر« في أدبيات »الثورة« الإيرانية، سعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى عقد صفقة الاتفاق النووي مع إيران، والتي تشكل في خفاياها تسليماً بقدر جمهورية الولي الفقيه، وتحضّر لشراكة أميركية إيرانية لمّح إليها أوباما نفسه.

السيد حسن نصر الله: هدف إخراج الوجود الأميركي من المنطقة

ليس ذنب قاسم سليماني أنه كان واثقا بالثوابت الأميركية التي تربى عليها منذ أن قامت الجمهورية الإسلامية عام 1979. الرجل كان يتحرك بكل حرية يرسم خرائط الصراع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان دون أي اعتراض من واشنطن. كان أمر الصمت الأميركي يشبه الرعاية الكاملة للتمدد الإيراني في كل المنطقة. ولطالما قيل إن التواطؤ الأميركي الإيراني بات أكبر وأكثر صلابة منذ أن أفتى منظرو المحافظين الجدد بأن السنّة، بعنواينهم المتعددة، باتوا إثر اعتداءات 11 سبتمبر منتجين للعداء الدائم للولايات المتحدة، فيما أن الشيعة، بعنوانهم الوحيد في إيران، هم حلفاء كامنون. سقط نظاما العراق وأفغانستان بالتعاون الكامل مع إيران، وهيمنت طهران على بغداد بتواطؤ كامل مع واشنطن.
بدا أن الولايات المتحدة أنهت »التعاقد« مع إيران. تغير الزمن وبات متجاوزا لحضور سليماني ومهماته. صار العالم بأجمعه يريد تجاوز »الاستثناء« الإيراني، وبالتالي تجاوز واقعة سليماني وميليشياته. يكفي تأمل مواقف الصين وروسيا، المفترض أنهما حليفان لإيران، كما تأمل موقف أوروبا، المفترض أنها متعاونة مع إيران، لنفهم أن مقتل سليماني هو قرار دولي نفذته مسيرّات أميركية.
وعدت إيران برد مزلزل. لكن ذلك الرد سيكون مزلزلا بالنسبة لكل الحالة الإيرانية التي تمددت في المنطقة. ستذهب إيران إلى طاولة المفاوضات التي يمعن ترامب في مدّها بعد اغتيال سليماني. لا تملك إيران، بعد رفع الرعاية الأميركية الدولية لتمددها، إلا الذهاب مهرولة لعقد اتفاق مع إدارة ترامب، بالذات، صونا لنظام بدا أن تصفية سليماني تمثل أعراض تهديد لبقائه.
كانت إيران تعوّل على عامل الوقت لعلّ المرشح دونالد ترامب يفشل في الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح منافس ديمقراطي يعيد إحياء إرث أوباما و »حنانه« تجاه إيران. كانت إيران تهدد ترامب المرشح بخيار عسكري لطالما وعد ناخبيه بتجنبه. بيد أنه وفي ليلة اغتيال سليماني، بدا أن واشنطن هي التي تستدرج طهران للحرب، وبدا أن ترامب المرشح بات يعتبر أن معركته مع إيران هي حصانه الرابح داخل حملته الانتخابية.
شيء ما حصل في واشنطن لم يعلمه سليماني فاجأ النظام، بحرسه ومحافظيه ومعتدليه في طهران. هو انهيار إيراني بامتياز. ولى عصر الثورة الإيرانية. من يقتل سليماني يملك أن يقتل كافة الرؤوس التي كانت تعمل تحت إمرته في كل المنطقة. ومن يقتل أكثر الجنرالات قربا من الولي الفقيه، يبلغ طهران بأن ما زعمته واشنطن من عدم وجود خطط لإسقاط النظام قد يصبح متقادما، وأن هيبة الولايات المتحدة في صراعها الطويل الأمد مع الأخطار الاستراتيجية الكبرى، لا سيما تلك التي تمثلها الصين مثلا، يستدعي إزاحة بيدق عن رقعة اللعب الكبرى.
قد يصعب المغامرة في تقديم رؤية واضحة عن مآلات الصراع وشكل العالم في المستقبل القريب. بيد أن نظرة سريعة على براكين المنطقة في سوريا واليمن وليبيا، كما ذلك الصراع المستجد حول الغاز في البحر المتوسط، كما مآلات الصراع الدولي العام مع إيران، كما مستقبل الولايات المتحدة نفسها مع أو بدون ترامب رئيسا، كما مستقبل أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يدفع بالمراقب إلى توقع نضوج خرائط إقليمية دولية تؤسس جديا لنظام دولي جديد. وفي حكمة الأمور بأن مصير الأمم يصنعها البشر وأن تضارب مزاج رجلين، علي

دونالد ترامب: الحرب ضد إيران حصان المرشح للرئاسة

خامنئي ودونالد ترامب، قد يصنع مصير المنطقة.

كانت إيران الثورة عونا في الحرب التي شُنت ضد الاحتلال السوفياتي في أفغانستان، وعونا في حرب الولايات المتحدة ضد نظام طالبان هناك، وعونا في القضاء على نظام صدام حسين في العراق. موضوعيا، وقفت طهران في خندق واحد مع واشنطن في جهودها وحروبها في تلك المنطقة، على الرغم من أن شعار »الموت لأميركا« لم يسقط يوما، على الرغم من أن »الشيطان الأكبر« في واشنطن كان يُدرج إيران داخل »محور الشر« الشهير. وقد يطول الحديث عن تقاطع في المصالح وتبادل منافع خبيث لم يتوقف يوما بواجهات تعددت أشكالها وهوياتها، كان آخرها التحالف شبه المعلن، وبرعاية الجنرال قاسم سليماني نفسه، لمحاربة تنظيم داعش، لا سيما في العراق وسوريا.

قد يكون من المخاطرة القول إن قرار ترامب بتفخيخ الاتفاق النووي من خلال انسحاب الولايات المتحدة، والذهاب بعد ذلك إلى فرض »عقوبات تاريخية« على طهران، وفق تعبير ترامب نفسه، لا يهدف إلا إلى استعادة إيران إلى الحضن الأميركي، كما كان أمر ذلك في عهد الشاه قبل الثورة الإيرانية. أرفق ترامب تهديداته دوما برسالة كررها بضجر أن بلاده لا تريد إسقاط النظام في إيران. لم يكن ترامب يكذب ولم تكن الولايات المتحدة ودولتها العميقة تريد ذلك. فالهدف بالنهاية هي سوق هذا النظام بالذات داخل تحالف تبنيه واشنطن في العالم يوقف المد الصيني الذي يتسرب عبر طريق الحرير ليقضي يوما على زعامة الولايات المتحدة في العالم.

منذ أزمة الدبلوماسيين الرهائن في السفارة الأميركية في طهران، مرورا بخطف الرهائن وتفجير ثكنة المارينز في بيروت، انتهاء بتمدد النفوذ الإيراني في ميادين المنطقة، كانت إيران تلاحظ بتلذذ سلوكاً أميركيا يتراوح بين الانسحاب والتراجع والصمت البناء. حتى أن الولايات المتحدة التي لطالما وُصفت بـ »الشيطان الأكبر« في أدبيات »الثورة« الإيرانية، سعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى عقد صفقة الاتفاق النووي مع إيران، والتي تشكل في خفاياها تسليماً بقدر جمهورية الولي الفقيه، وتحضّر لشراكة أميركية إيرانية لمّح إليها أوباما نفسه.

تحفّظ العرب

راقبت الإدارة الأميركية بقلق موقف حلفاء الولايات المتحدة في العالم أثناء حالة التوتر القصوى بين إيران والولايات المتحدة في الأيام الماضية. وعلى ضوء تلك المواقف تعيد إدارة الرئيس دونالد ترامب رسم خريطة مستقبل الصراع مع إيران، خصوصا أن الدوائر الدبلوماسية باتت تشعر أن القوة الجبارة للولايات المتحدة ليست كافية لفرض رؤية سياسية على إيران دون تضامن واسع وكامل من البلدان الصديقة للولايات المتحدة.
وترى مصادر دبلوماسية أن حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لطالما ألحوا على واشنطن اتخاذ موقف صارم ضد إيران وسلوكها المزعزع للاستقرار والمهدد لبلدان يفترض أنها تاريخيا داخل الخندق الأميركي، لكنها فوجئت بأن ما صدر في المنطقة من مواقف كان أقل حدة مما هو منتظر.
وتتفهم هذه المصادر توجس دول المنطقة من المقاربة المقلقة التي اعتمدها الرئيس السابق باراك أوباما، ليس بسبب عمله على مد قنوات اتصال مع طهران قادت إلى انتاج اتفاق فيينا النووي مع إيران الموقع عام 2015، بل لأن الرئيس الأميركي لم يستشر دول المنطقة ولم يأخذ هواجسهم بالحسبان، وجعل حلفاء واشنطن في المنطقة يشعرون أن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذا الاتفاق إلى بناء شراكة إيرانية أميركية وفق قواعد ثبات عقائد النظام الإيراني، وأن هذه الشراكة العتيدة تأتي على حساب مصالح بلدان المنطقة وأمنها واستقرارها.

هل اغتيال سليماني ينهي ظاهرة أذرع إيران في المنطقة؟

وقد لاحظ معلقون أميركيون أنه في الوقت الذي كانت تعد فيه الولايات المتحدة العدة لاحتمال شن حرب شاملة ضد إيران، أظهرت دول المنطقة كافة، لا سيما الدول الحليفة لواشنطن، معارضة لهذه الحرب، وأصدرت بيانات تدعو فيها إلى خفض التصعيد والحوار من أجل تجنيب المنطقة أهوال الحرب.
وفيما اعتبر مراقبون أن هذه المواقف تكتيكية غير صادقة وتهدف إلى تقديم واجهة سلم صورية، تبلغت الدوائر الأميركية الرسمية مواقف من دول المنطقة تحث فيها الولايات المتحدة إلى عدم الذهاب إلى الخيارات القصوى في الصراع مع إيران، بما أقنع المراقبين في واشنطن أن البيانات الصادرة تمثل الموقف الحقيقي الذي لا يريد أن تغرق المنطقة في حرب مجهولة النهايات.
وتتحدث تقارير في العاصمة الأميركية عن بداية تواصل حصل بين إيران ودول الخليج وعن تبادل رسائل بين عواصم المنطقة وطهران وعن وساطة عمانية قام بها الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في السلطنة يوسف بن علوي، وحتى عن وساطة حملها الرجل إلى طهران

بعد أسبوع على زيارة قام بها إلى واشنطن قبل اندلاع الأزمة الأخيرة.
وتنقل مراجع أميركية عن مصادر عربية أن بلدان المنطقة التي خاب أملها من إدارة باراك أوباما، عوّلت كثيرا على إدارة سلفه ترامب لتصحيح مسار منح إيران شرعية أميركية للهيمنة على كل المنطقة. وتضيف المصادر أن دول الخليج رحبت بالمواقف المتشددة التي اتخذتها الولايات المتحدة منذ قرار الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات قاسية على إيران، إلا أنها لم تفهم بعد ذلك التردد المقلق الذي اتسمت به إدارة الرئيس ترامب ضد استفزازات خطيرة قامت بها إيران، سواء من خلال تفجير سفن في مياه الخليج أو خطف ناقلات نفط أو إسقاط طائرة مسيرة أميركية أو استهداف منشآت أرامكو بصواريخ تقول واشنطن نفسها إن مصدرها إيراني.
وتقول هذه المراجع أن دول المنطقة سعت بشكل متواضع إلى إعادة التواصل مع إيران بغية إرساء حد أدنى من التعاون التقني مع إيران دون أن يرقى الأمر إلى مستوى التعاون الأمني الكبير الذي دعا إليه الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف. وتقول تقارير أميركية أن قنوات تواصل أسفرت عن تخفيض مستوى العنف في اليمن وتبادل الأسرى وتنشيط الآمال لعقد محادثات تنهي الحرب هناك بالسبل السياسية، وأن كل هذه الاتصالات كانت تجري بالتنسيق مع الحليف الأميركي.
ويرى خبراء أن إيران لم تكن جادة في نسج علاقات ود صادقة مع دول المنطقة، لكنها كانت معنية في إظهار تباين في الموقف منها ما بين دول المنطقة والولايات المتحدة، ومهتمة في تسريب معلومات حول أي تواصل حقيقي أو مزعوم يجري مع دول المنطقة بغية تقوية أوراقها ضد الأميركيين، وتحصين جبهتها الداخلية من خلال الترويج إلى أنها دولة مهمة وليست معزولة. حتى أن طهران روجت بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني أن قائد فيلق القدس كان يحمل ردا إيرانيا على وساطة يقوم بها العراق بين الرياض وطهران، وهو أمر تم نفيه من قبل العراق.
وتؤكد مصادر قريبة من وزارة الخارجية الأميركية أن مواقف دول المنطقة ساهمت في الضغط على ترامب لضبط الأداء العسكري الأميركي وكبح جماح أي توسع في العمليات العسكرية وعدم الرد على قيام إيران بقصف قاعدتي عين الأسد وأربيل في العراق بالصو

هل يسحب ترامب قوات بلاده من العراق

اريخ الباليستية. لكن هذه المصادر تؤكد أن دول المنطقة ما زالت لا تثق كثيرا بخطط ترامب المقبلة حيال إيران، خصوصا أن حساباته كمرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة قد تجعله يقبل بطاولة مفاوضات مع إيران تأتي باتفاق يتناسب مع أجندته دون الأخذ بالاعتبار مصالح دول المنطقة التي تريد أن تكون هذه المرة حاضرة داخل أي مفاوضات.

 

(*) كاتب سياسي لبناني

محمد قواص (*)

 

العدد 101 –شباط 2020