الدورة الثانية للمهرجان الوطني للمسرح اللبناني

6 عروض والأمور متروكة للتجريب

بيروت – عبيدو باشا

المهرجان الوطني للمسرح اللبناني بدورته الثانية (8/2 شباط 2020). لم تترجم الدورة الثانية الدورة الأولى. لا منوال هنا، لكي يقال أن الدورتين سارتا على ذات المنوال. كل ما يتعلق بأسئلة الكتابة والإخراج والتمثيل والسينوغرافيا المسرحية، لا يخرج من معجم واحد. تركت الأمور للتجريب. الأمور متروكة للتجريب على الدوام. لا أصل ولا فرع. لا نموذج ولا نسخ. هددت الأوضاع الدورة الثانية بالإلغاء. لا بالتأجيل. حين إتخذ القرار بالتأجيل، بدا أن من إتخذ القرار لا يتكلم لغة أهل البلاد. بسبب تأثيرات الثورة أو الإنتفاضة أو الحراك، لا على سلوك الفرد ولا على الفرديات اللبنانية، بل على الراهن وخضوع البلاد لمتطلباته.
واحدة من أمور الإنطلاق إلى الدورة الثانية، أن بعض المحطات الهامة بالدورة الثانية ماتت على طريق الأحداث المتفجرة بالمؤسسات وعلى الطرقات. هكذا : نزل عدد العروض المشاركة بالمهرجان من تسعة عروض إلى ستة عروض. لأن ثمة من ترك البلاد إلى غير رجعة من الأفراد بفرق العمل المسرحية. ولأن ثمة من وجد أن المشاركة جزء من عمليات تقويض الإنتفاضة، بتقويض الإجماع العام حول الإنتفاضة. إنتهت الموسوعة المهرجانية إلى ستة عروض. العبابيد لهشام زين الدين وماشاء ويل لغابي يمين والمعلقتان للينا عسيران وأصل الحكاية لكولكيتيف »كهربا أو جماعة كهربا«، من قفزت من حقبة الفرجة الثقافية العادية إلى حقبة الفرجة الما بعد درامية. ثم »الشاطر فؤاد« لفؤاد يمين و »مجدرا حمرا« ليحيى جابر وأنجو ريحان. الأخيرتان مونودرامتان، واحدة رجالية والأخرى نسائية. لا علاقة للجندرة هنا. جل ما بالأمر أن النصوص المتعددة، قامت على ذهنيات المفارقة لا التفارق. حين إقتضى الأمر حضور رجل، حضر الرجل. وحين إقتضى الأمر حضور إمرأة، حضرت الإمرأة.
قام المهرجان على أكبر قدر من الكثافة والتنوع. خرج المهرجان متلبساً بالمغامرة. مغامرة الهيئة العربية ووزارة الثقافة في لبنان ومجموعة الهيئة العليا للمهرجان. ذلك أن كل شيء يهتز، حتى العشب إهتز بلبنان تحت أقدام المتظاهرين. غير أن قرار إقامة المهرجان، قرار تلخيص حياة بالحياة. لا طيف مسرح، حين راح المسرح يخرج من تكنيكات العار. تكنيكات وسمت بها كل الأعمال والأشغال خارج خوض الزمن الجديد بالإنتفاض على الإرث السياسي القديم. لأن جميع من إقترب من المهرجان لم يلبث أن أدرك أن المهرجان جزء من الحرب المعاصرة على الفساد بالدعوة إلى خروج المسرح من معبده المقدس إلى أوسع الصناعات الواقعية والتخييلية. لأنه لم يقتصر على طلب المعرفة، حين تجلى كركن من أركان المدينة يُعرِّف الديمقراطية كما تعرف الديمقراطية عن نفسها. ولأن من وقف وراء المهرجان لا غاية له سوى وضع كل أنواع الرياضيات الملهمة بصالح فكرة التأسيس والإنطلاق من التأسيس إلى التكريس. تكريس لا يسمح للمسرح بالدخول بالصمت ولا يسمح للصمت بالقضاء على أشكال التعبير. هذا واجب الفنان. هذا سلوك الفنان غير المنضوي وغير المحارب تحت أية راية سوى راية الناس، من عرتهم السلطة السياسة على مدى الثلاثين عاماً الماضية. هكذا كسب لبنان دورة مهرجانه الثانية، صنيع خارج عقد النقص الدارجة. طرح معادلة غيرمجردة وهو يتماوج مع الريح العنيفة بدون أن ينكسر أمامها.
لجنة إختيارالعروص الفنية ولجنة التحكيم. تألفت اللجنة الأولى من مسرحيين وإعلاميين معروفين. رندة الأسمر (ممثلة)، بيار أبي صعب (ممثل وإعلامي)، وليد دكروب (أستاذ جامعي وسينوغراف). تألفت لجنة التحكيم من بطرس روحانا (مخرج وممثل)، زاهي وهبي (شاعر وإعلامي)، ندى بو فرحات (ممثلة)، لينا خوري (استاذة جامعية ومخرجة)، ناجي صوراتي (استاذ مسرح ومخرج مسرحي). بين اللجنتين زارت فاعليات المهرجان. تحرك وحرك على خشبة مسرح المدينة، حيث إحتشدت الجماهير على مدى سبعة أيام بعيداً من عجرفة الإقتصاد على حياة اللبنانيين. لأن حضور المسرحيات مجاني. لا شرط إلا أن يحضر المُشاهد إلى مسرح المدينة قبل العرض بساعات، لكي يحفظ كنبته وحضوره بالحصول على بطاقته بالمجان من فرق العمل الجاهزة هناك.
نفذ الجمهور الوصايا البسيطة لكي يشارك بالفاعليات المهرجانية. خمسة الآف مشاهد على مدى ستة عروض وحفل غناء أحيته المطربة حنين وفرقتها الموسيقية. ثم : وزعت جوائز المهرجان على مستحقيها. بدا أن ليست الأيام تكفي كلما مر يوم من أيام المهرجان. الأجمل : تلك الوجوه بالزحام. وجوه لا أطياف وجوه. وجوه لا تريد إلا أن تقفز عن غصن الأوضاع الأسود، الصعب، إلى غصن المسرح الرطب. غصن لا يوقع الأحداث بالعقم. غصن يلون حياة الناس بالحياة لا بالفناء. استقل الجميع باخرة المسرح، حيث قدمت العروض على متن الباخرة بعيداً من كلام إرهاق المواطن بالديون.
لم يرد المشاهدون سوى رؤية العالم. عالم لا يموت وسط العالم المحتضر. تسنى لأصحاب الرغبة بتحقيق رغبتهم. رغبة مشتركة، تعرف من هو المجنون ومن يحيط بالمجنون من المجانين. المسرحيون مجانين وناس المسرح مجانين. مهرجان مجانين، أدرك الجميع فيه أن للجميع الحق بالتعبير بأي طريقة للتعبير. الصورة الكلية أكثر من مجرد فكرة. لا تزال الصورة تكرر إضمار لبنان للكثير من حكمه وتتراته اللغوية. التعدد والتنوع بالمقدم. لم يخلع لبنان خصائصه ولاصفاته بعد. هذا ما أكدته العروض. كل عرض رسالة شاعر طامح. شاعر يقف على السر العميق. سر غامض إلا أنه غير ملتبس : حين لا يخشى الإنسان المجازفة جهراً، لن يقع باللغو ولا باللغة السيئة. خمسة الآف مشاهد في بقعة من العالم، يريدون رؤية العالم على طريقتهم، بدون تفريق بين مبدع فرجة ومتفرج.
الكتاب الجيدون هنا. المخرجون الجيدون، الممثلون، الممثلات. الأخيرات كاسحات الحضور. بعرض ما شاء ويل ست سيدات يحكمن على وليم شكسبير بالذكورية. نساء خبيرات بأحوال الرجال وتسلط الرجال على العالم، يتسلحن بشكل مسرحي أعده غبريال يمين بشكل عملي وعلمي لا على محاضرات نظرية. بارودي، أو مسرحية ساخرة لم تجفف فيها البصريات المواد الواقعية ولا الواقعية البصريات. لا صعوبة ثبت هنا مع جولييت والليدي ماكبث والإمرأة الشرسة من مسرحية »ترويض الشرسة« وديزدمونة من مسرحية عطيل. إبداع بالآداء والإنفعالات. معاناة الأرواح النسائية يضبطها الإحساس، يضبطها الإيقاع، تضبطها المقولات والمتع البصرية. واحدة من أجمل مسرحيات السنوات الماضية، حيث دفع يمين السيدات إلى التراسل مع شكسبير بدون وجوه جافة والأجساد المبرمجة كالروبوتات. لم يسمح يمين بوجود ثغر يسدها المتلقي. وسع خيال يثير الإنتباه. كما هو الحال في مسرحية المعلقتان. نص حسن مخزوم الأول (فاز بجائزة المهرجان عن كتابة النصوص) قدم رواية عمودية لسيدتين تعلقان بأحد المصاعد بواحدة من فترات التقنين المفاجئة بالعاصمة اللبنانية. حوار يحدد معايير الحياة في بيروت الحية بين الوهم والوهم. مسرح عبث من واقع لا يزال مستمراً على نمطه القديم، بحيث أوهم النمط بوجود أنماط. كلام على الحياة والموت والتحكم والفخاخ، في مصعد لا يثبت. متوازن بأوقات، مائل بأوقات، متدحرج بأوقات، وسط صالة يأخذ فيها الفراغ الحد الأعلى من الوجود (حازت جائزة السينوغرافيا). وهم المنظور المسرحي هو الأساس في »المعلقتان«. لا تأثيرات صوتية. صوتا الفتاتين وصوت عامل شركة الصيانة. مستوى من العمل غير الشائع بالمسرح اللبناني. كما هو مستوى »أصل الحكاية«. غطى العاملان بالمسرحيةعمق المسرح بلوحة رسما عليها ما لم يرسمه الدسك في مقدم المسرح، حيث تحول المسرح إلى إطارين. واحد بالخلف وواحد بالأمام. حكاية التكوين، تكوين العالم من خلال الرسم والطين، لمَّا راح المؤديان يعملان على خطوط النظر وهما يعجنان الأشكال، الإنسانية والحيوانية، أمام الجمهور. بداية خلق العام وصولاً إلى الطوفان وإطلاق نوح سفينة نجاة الحياة ببحر المطر الرباني. مسرح إليزابيتي في »ماشاء ويل«، مسرح عبث في »المعلقتان«. برفورمونس مسرحي في »أصل الحكاية«. بالمسرحية الأخيرة موسيقات إثنية والكثير من إحتمالات التأويل وطقوس وحسيات ووقائع من الأساطير. الأساطير التوراتية والكنعانية والبابلية. مؤديان يعجنان حالات وحالات بأيديهم العارية.
تحكم العرض بالمشاهدين ولجنة التحكيم، حتى أثار جدالاً واسعاً ومنح جائزة أفضل عرض متكامل وجائزة أفضل إخراج وهو يستعمل المستويات والوسائل (الرقص، الآداء، الموسيقى، الرسم، الأقنعة، المنحوتات). وظف العرض لتحريك العالم يالسينوغرافيا والديكور، ما جعل الجمهور يعيش تجربة مسرحية سحرية، ساحرة. حين وقفت المونودرامتان على التقشف ومخارج الممثلين وقواهم. تعامل الممثل والممثلة بعيداًمن تغيرات المناظر والأشكال المقعرة وتغطية الخلفيات بالرسوم أو الألوان أو الديكورات. مونولوغات، ما دامت المونولوغات لا تشكل عوائق أمام أنسيابات السرد ما يقوم عليه هذا النمط من المسرح. فن التحكم بأرضية الخشبة فاز بجائزتي أفضل ممثل (فؤاد يمين عن الشاطر فؤاد) وأفضل ممثلة (أنجو ريحان عن »مجدرة حمرا«). لا تقنيات جديدة. لأن التقنيات محشودة بالأجساد. لعب يمين دور رجل مستجوب، حين لعبت ريحان أدوار نساء جنوبيات عديدات بدون استخدام أقنعة.عند ريحان الآداء يتعلق بما يتخطى الشعور إلى القدرة على التحكم الكلي بماكينات الشخصيات وأرواحها. لا ميل للأمان بآدائها، بعكس آداء فؤاد يمين.
المسرحية الأخيرة بالمهرجان (العبابيد) لم تحز جائزة، لأنها إنبنت على فكرة التقيد بالحدود التقليدية. جودة العمل الفني تحدده إيجاد الطرق والحلول العادية. بدايات وقفلات بحكاية زيارة وزير لقرية وإضطراره إلى التبول بأحد منازلها، ما يعتبره سكان القرية ميزة وامتيازاً. مثال واقعي لا فانتازيا، حين حضرت الأخيرة قليلاً ما سمح بتحفيز الخيال. غير أنها لم تلبث أن غربت بصالح تلفيق المواقف. لا علو خطر ولا تخفيض خطر. هكذا أضحت المسافة واضحة بين المنتج الهندسي والمتلقي، بعيداً من الحلول المسرحية المبتكرة.
حفر المهرجان حفرته بطول أذرع على مساحة المدينة. مدينة كلما أذنت شمسها بالغروب أشرقت من جديد. لن تخيل الظلال بالأرجاء إلا لأن الشمس هناك، الشمس بالأفق. بالأفق : الدورة الثالثة من المهرجان الوطني للمسرح اللبناني على مسافة أشهر. الموعد : تشرين الثاني من العام الجاري 2020. الدورة ترضع الأخرى. الأعمال تثبت جودة الفن. ذهب المسرح إلى الشعر، ذهب الشعر إلى الأسلوبية. شيء فاتن، لا مقدر. مقاومة الموت بالفن، إنبثاق البناء الإيقاعي من الكثافة والكثافة من البناء الإيقاعي.

 

العدد 102 –اذار 2020