الفـن ودوره.. سلاح للتنوير.. وأيضا للتسلية والترفيه، وكذلك للتلفيق والتزوير

أمين الغفاري

الفن أقرب لقلوب الناس من السياسة، وتأثيره في الوجدان بالغ العمق قبل تأثيرالسياسة في العقول، فالفن هو الجمال في بساطته وألوانه ومن ثم البحث في تفاصيله وأركانه، أما السياسة فهي في الغالب البحث في الأزمات وعلاتها والغوص في تحليلاتها وأهدافها، والفن هو الخيال في الحلم والأبتكار في اليقظة. أما السياسة فهي المصالح وأشكالها، وكذلك الحسابات وأبعادها، وعلى ذلك فان مخاطبة الجمهور من خلال أدوات الفن، أكُثر مباشرة وأجدى تأثيرا من تلقينهم عبرالخطب والندوات والحشو بالمعلومات ناهيك عن غلظة المصطلاحات، وطرح الأرقام والمعادلات. الفن هو السهل الممتنع، فهو الموهبة في تلقائيتها، والنمو في حرفيتها بالدراسة والصقل، كما أنها تتعمق في أداء رسالتها بالثقافة والمعرفة، وألأمثلة في ذلك كثيرة ومتعددة في استخدام الفن بلغته السهلة، وايقاعاته الكاشفة، في شرح تعقيدات السياسة وغموضها مما سنأتي

الشاعر احمد شوقي
أضيفت لأبياته أبياتا للنفاق.. بعد رحيله

عليه لاحقا.
الفن والتاريخ
على جانب آخر لاينبغي لنا أن نعتقد ان المعالجات الفنية للأحداث التاريخية، تعني أن ذلك هو التاريخ بحذافيره، وأن ما نشاهده هو الوقائع بكل صدقها. فالفن أيضا له رؤاه، في المعاجات الفنية التي يقدمها وما تقتضية ايضا لضمان صدق الرؤى. أنه يلجأ من اجل ايصال الرسالة التي يريدها لأضافة مشهد او حتى شخصية غير حقيقية، حتى تتعزز الفكرة الأساسية التي هي محور العمل وبوصلته، ولكن بشرط أن لاتتجاوز، فتجور حتى على جوهر الأحداث ووقائعها وكأنها تشكل تاريخا خارج وقائع التاريخ، وان حدث ذلك التجاوز، فنحن حينها أمام تزوير كامل لمصداقية التاريخ وضرورة احترامها والحرص عليها ليس من أجل الحفاظ على التاريخ ومغزاه فقط، ولكن لأحترام العمل الفني نفسه ومدى مصداقيته أيضا.

نماذج من الأعمال الفنية التاريخية ومعالجاتها
فيلم ناصر 56 (1996 تم عرضه)، يدور موضوع الفيلم، خلال فترة محددة، من تاريخ الثورة المصرية، حين قام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو1956، باعتبارها قناة مصرية تجري داخل الأراضي المصرية، وقام بحفر مجراها المواطنون المصريون عن طريق السخرة، وقد زهقت أرواح الكثير منهم خلال عمليات الحفر أثرعمق الأرض ومشقاتها، مع ضعف البنية وهزال التغذية، ومع ذلك فان عوائد القناة لم تصرف بشكل عادل، فقد استحوذ على الغالب منها أصحاب الأمتيازات من الدول الأوروبية، وكان عبدالناصر يسعى لبناء (السد العالي) وهو مشروع يحقق الكثير من الانجازات لمصر سواء في ري الأراضي أو توليد الكهرباء وماسيترتب عليها من انشاء للمصانع أو دخولها للريف، وقد سحب البنك الدولي وامريكا وبريطانيا تمويلهما لمشروع السد لأسباب سياسية بالطبع وفي مقدماتها رفض الأحلاف الأستعمارية، وكان عبدالناصر في حاجة لموارد القناة لتمويل السد. عالج الفيلم ذلك الموضوع موضحا تضحيات المصريين في حفر قناة السويس، ومن أجل ذلك أضاف لأحداث الفيلم شخصية المرأة الصعيدية العجوز التي التقت عبدالناصر، (قامت بتمثيلها الفنانة أمينة رزق) لكي تقدم له ملابس جدها الذي اقتيد ضمن عمال السخرة لحفر القنال، واستشهد، ضمن من استشهدوا في تلك الفترة، وقالت له أنت صعيدي مثلي، وعارف ماذا يعني التار (الثأر)، وانت لما أخدت القناة أخدت بتارنا من اللي ظلمنا، ولذلك أنت أحق الناس باستلام خلقاته (ملابسه). ومد يدة وصافحها وقال لها معزيا (البقية في حياتك) باعتبار ان العزاء لايقبل الا بعد ان يتم الأخذ بالثأر. هذه الشخصية، وذاك المشهد لا أصل لهما في الوقائع التاريخية، ولكنهما يدخلان في اطار وسائل الأيضاح، والتأكيد على قيمة التأميم، وباعتبار ان القناة مجرى مائي مصري، وأن التأميم لم يكن عملية سرقة كما ادعى وزير الخارجية الفرنسي في ذلك الوقت(كريستيان بينو) في مقابلته مع السفير المصري في باريس، وقد رد عبدالناصرفي خطاب له على الوزير الفرنسي قائلا (امبارح وزير الخارجية الفرنسي قل حياه »قل أدبه« على السفير المصري في باريس، وأنا لن أرد عليه، ولكن سأتركه للأخوة الجزائريين علشان يلقنوه درس في الأدب) كانت الثورة في الجزائر مشتعلة. فيلم الناصر صلاح الدين (1963 تم عرضه). قامت بانتاج هذا الفيلم شركة (لوتس) للأنتاج وصاحبتها الفنانه(آسيا داغر) وكان مرشحا لأخراجه المخرج عز الدين ذو الفقار، ونظرا لحالته الصحية آنذاك فقد رشح المخرج يوسف شاهين لأخراجه، وأخذت المنتجة بهذا الترشيح. كتب قصة الفيلم يوسف السباعي، وقام بعمل المعالجة الفنية كل من نجيب محفوظ وعزالدين ذو الفقار ومحمد عبد الجواد، وكتب السيناريو عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف شاهين، كما كتب الحوار يوسف السباعي وعبدالرحمن الشرقاوي. وتدور فكرة القصة حول الصراع بين الصليبيين وصلاح الدين

محمد عبد الوهاب
حين يخترق جمال الشعرالوجدان وتطرب له الآذان
فلا تطلب تفسيرا أو تعليلا لمعاني الكلمات

الأيوبي حول بيت المقدس، وخوض معركة حطين وتحرير بيت المقدس في النهاية من الصليبيين وتوقيع معاهدة الرملة وعودة ملك انجلترا ريتشارد قلب الاسد لبلاده. نأتي لاحدى شخصيات الفيلم الحقيقية وهو(عيسى العوام)وكان مسلما كما ترجح الكثير من المراجع التاريخية، ولكنه ظهر في الفيلم باعتباره مسيحيا، وكان من المقربين لصلاح الدين، والمغزى هنا واضح، وهو التدليل على عدم التفرقة بين الأديان في عصر الخلافة الاسلامية، ونلاحظ هنا ان المعالجة لموضوع الفيلم جرت على يد أساتذة في فن الرواية مثل نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي، كما انها على الجانب الفني كانت لدي المخرجان عز الدين ذوالفقار ويوسف شاهين، أي ان المعالجات الفنية كانت في اطار لايمس الوقائع التاريخية الموثقة، وبذلك يمكن التسامح فيها من أجل وضوح الفكرة، لامن أجل طمس معالم الحدث التاريخي. قام بدور عيسى العوام الفنان الراحل صلاح ذو الفقار.

الفن وقضايا التبرير والتلفيق
الفنون والآداب هي زينة الدنيا، وبهجتها، وهي همسها الرقيق، ولحنها العذب. أنها – بلا جدال- الأيقاع الجميل ان لم يكن الفاتن لخطوها وحركتها. لكن الفن والأدب أيضا لهما مزالقهما وفتنتهما الضارية، مهما كان للفن والأدب من قيمة وجلال. في قصيدة علي محمود طه (كليوباترا) أبيات من الشعر نصها (يا ضفاف النيل بالله، وياخضر الروابي/هل رأيتن على النهر فتى غض الأهاب/ أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب). قام عبدالوهاب بتلحينها رغم أنه لايفهم تلك الشطره(كالخمرة في النور المذاب)و لذلك عني بسؤال الشاعر عن معنى تلك الشطرة، فقام المؤلف بسؤاله(هل تجد وقعها في اذنك جميل؟) فأجاب عبد الوهاب نعم هي جميلة، فقال الشاعر (أن الفن لايفسر أو يعلل مادام مقبولا). لكن الشعر أن كان مقبولا في جماله، فهل هو كذلك حين يتم تسخيره في النفاق أوللتلفيق؟ في قصيدة لأمير الشعراء (أحمد شوقي) مشهورة باسم (إِلامَ الخُلفُ) كتبها في اطار حركة الصراع بين الأحزاب المصرية وعمق الخلافات بينها في عهد الملك فؤاد، وقد تناسوا القضية الوطنية بينما البلاد ترزح تحت حكم الأحتلال، وسقوط الشهداء طلبا للجلاء، وتحرير السودان، وتقول في مطلعها :

إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما :: وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ :: وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما
وَأَينَ الفَوزُ لا مِصرُ اِستَقَرَّت :: عَلى حالٍ وَلا السودانُ داما
وَأَينَ ذَهَبتُمُ بِالحَقِّ لَمّا :: رَكِبتُم في قَضِيَّتِهِ الظَلاما
شَبَبتُم بَينَكُم في القُطرِ ناراً :: عَلى مُحتَلِّهِ كانَت سَلاما
تَرامَيتُم فَقالَ الناسُ قَومٌ :: إِلى الخِذلانِ أَمرُهُمُ تَرامى
شَهيدَ الحَقِّ قُم تَرَهُ يَتيماً :: بِأَرضٍ ضُيِّعَت فيها اليَتامى
أَقامَ عَلى الشِفاهِ بِها غَريباً :: وَمَرَّ عَلى القُلوبِ فَما أَقاما
بِكَ الوَطَنِيَّةُ اِعتَدَلَت وَكانَت :: حَديثاً مِن خُرافَةٍ أَو مَناما

، ومن المعروف أن (أحمد شوقي) قد رحل في عام 1932 أي في عهد الملك فؤاد، ولم يعاصر الملك فاروق على ألاطلاق، ومع ذلك نجد أن عبدالوهاب حين شاء أن يقوم بتلحينها وغنائها عام 1947، قد أضيفت للقصيدة عدة أبيات، تطالب الملك الجديد الشاب أن يدركها جراحا، ويخلصها من ذلك الخلاف باعتباره موطنا للوئام.
فيا فاروق أدركها جراحا :: أبت إلا على يدك إلتئاما
فكم شر حسمت وكم بلاء :: وكنا لا نرى لهما انحساما
وأنت أعز بالدستور شأنا :: وأرفع خلف هالته مقاما
من أمر أو نصح بالأضافة.. لاندري، ولكننا نعرف ان تلك الأضافة لم ترد في ديوان أحمد شوقي
وهو منشور ومعروف.
شاعر.. له باع في مدح الملوك الرؤساء
مهما كان تقييمك لمواقفه السياسية، الا أنك لابد من أن تسلم بموهبته الشعرية، ورقة التعبير لديه، بل وافتتانك برومانسيته التي تخاطب الاحساس والمشاعر. أنه الشاعر صالح جودت(1912 – 1976)
كتب للملك فاروق عدة اغنيات منها (أنشودة الفن.. الفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه / والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه) وقصيدة (أنشودة الشباب.. من كتر غيرتي عليك في القلب خبيتك / وقلت لك يا فاروق القلب دا بيتك / شبابك نفحة من الجنة / تهني الرح وتسعدها)

الشاعر صالح جودت
حين تتحول الموهبة الى مجرد صنعه بلا روح

، وللملك عبدالعزيز آل سعود حين زار مصر عام 1946.. يا رفيع التاج من آل سعود/ يومنا أجمل أيام الوجود، موكب الخير من البيت العتيد/ جاء يختال على النيل السعيد، فاذا الفاروق موفور الشباب/ راح يستقبل بالبشر أخاه، أنت والفاروق للشرق منى/ وعلى كفيكما أحلامنا). غنى فريد ألأطرش من كلماته في زواج الملك حسين من الملكة دينا عبدالحميد (يأ أغلى من أمانينا / وأحلى من أغانينا / يا زينة الدنيا يادينا، يادرة في بلد حرة / وتاج عالي وشعب أصيل، دعانا هاتف البشرى/ وجينا من ضفاف النيل، باسم الشعب والثورة /نقدم ليك تهانينا، يا أحلى

 

من أغنانينا / يازينة الدنيا يادينا). كتب قصيدة قامت بغنائها أم كلثوم يطالب عبدالناصر عام 1967 بعدم التنحي (قم واسمعها من أعماقي.. فأنا الشعب.. ابق فأنت السد الواقي لمُنى الشعب.. ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب.. أنت الخير وأنت النور.. أنت الصبر على المقدور.. أنت الناصر والمنصور.. ابق فأنت حبيب الشعب) وحين رحل عبدالناصر كتب قصيدة وجهها الى السيدة زوجة عبدالناصر تحت اسم »الى أم خالد« يقول فيها (كانت الناس على النعش قلوباً تترامى / وتنادى : لم لا يحييه من يحيى العظاما؟ / لم لا يبقيه كالنيل وكالشمس دواما؟ / ورجعنا نشرب الدمع ونقتات الرغاما /ونلوم الموت لكن نحن أولى أن نلاما /كم قتلناه افتئاتاً واختلافاً وانقساما / وكأن الموت قد ضيعه منا انتقاما). بعد رحيل عبد الناصر، بدأ أنور السادات بتغيير السياسة المصرية واتجاهاتها، ولذلك بدأ الهجوم على عبدالناصر، وكان صالح جودت في طليعة الكتاب الذين تولوا تلك المهمة، فكتب مقالا في المصور عام 1974 تقريبا بعنوان (على من نطلق الرصاص..؟) هجوما على عبدالناصر ومرحلته، وزامله في ذلك مجموعة من الكتاب منهم انيس منصور وابراهيم سعده وجلال الحمامصي. وكان رمزا للكراهية لعبدالناصر.
شاعر ظل امينا على الفكر رغم تغير المناخ
على النقيض من ذلك كان الشاعر الرسام الفنان(صلاح جاهين) الذي كتب أجمل وأرق وأعزب وأسمى المعاني على الصعيد الوطني والبناء الجتماعي والتحالف السياسي العمال والفلاحين، ومن أعماله التي لاتنسى رغم تغير الظروف والمناخ الذي بدأ مع الأنفتاح الأقتصادي والتخبط السياسي عام 1974 فلم يحد عن خطه، ولم يخن موهبته. كتب صلاح جاهين عبر عشرون عاما من منتصف الخمسينات حتى منتصف السبعينات تلك الروائع. (بالأحضان يا مصانع يا مزارع بالأحضان / يا حصاد الثورة يا حلم وعلم) والمسؤولية (مفيـش محــال والعـــزم معـانـا/ والعـلـــــــم بينــــور دنيـانـا/ والفكــــــــر بيجسم أحلامنـــا / قـدامنـــا شـايفينهـا وشـايفانــا / شـايفيـن رايتنـــا ف حضــن النسمـة / مكتــوب حروفهـــا بمليــــون ورده/ علـى صـــدر بلـــدة عربيـــــة /معــرفـــش مـن أى الأقطــــــار/ صنـــاعة كبـــرى ملاعـب خضـرا/ تمـاثيـل رخـام ع الترعــة وأوبـرا/ فــى كــل قريـــــة عربيـــــة /دى مـاهيــش أمـانـى وكـلام أغانـى/ده بـر تانــى قصــادنـا قــريـب / يـا معـداويـة. ياأهلا بالمعارك (للافراح والرفاهية ح نمد طريق ع النيل/ اسمه فى الأشتراكية التصنيع التقيل/ بس نضاعف انتاجنا /أضعاف أضعاف أضعاف/وندبر مهما احتاجنا ونحارب الإسراف/وبقرش الإدخار نتحدى الإستعمار/و نقيم جدار جبار يحمي حياة العاملين، ورغم ادعاء الحاقدين أنه أصيب بالأكتئاب بعد نكسة67، وعاد عن تقييمه الأول، فان ذلك ليس صحيحا فقد نشر في ذكرى ميلاد عبدالناصر في 15 يناير عام 75 قصيدة في جريدة الأهرام عنوانها.. رسالة من قلب قلب قلب مصر الى جمال عبدالناصر. (في عيد ميلادك نذكرك ونقولك بنؤيدك/وبنوعدك يا أيها المصري العظيم /مهما غبت حنوجدك / ومهما مت مصر حترجع من تاني وتولدك. توقيع شعب مصر.
وأخيرا
الفن سلاح بتار وجبار، وتكمن قوته في نعومته وسحره، ويمكن ان يساهم – بصدقه – في بناء الحضارت، ويرسخ قيمها ومبادئها، ويشعل جذوتها، ويرفرف عاليا في سماء الأنسانية كالعلم الخفاق، ويمكنه أيضا – بتزويره وتلفيقه – أن يكون أداة للتهميش والأنحدار، والعبث بالعقول

الشاعر صلاح جاهين
الموهبة تكتسب جمالها من عمق اخلاصها وصدق مفهومها

قبل القلوب، ولذلك قال ابن خلدون (حين تهبط الحضارة وتتدنى في قيمها، فان أول ما يتأثر بذلك هو فن الغناء).

العدد 102 –اذار 2020