شقيقتي هدى

رؤوف قبيسي:

يصعب على أي كاتب أوغير كاتب، أن يرثي شخصاً مقرباً، فكيف إذا كان الفقيد من لحمه ومن دمه. هذا ما أشعر به الآن وأنا أكتب عن شقيقتي الراحلة هدى. رثيت الكثيرين في حياتي، ولم يحدث أن رثيت أحداً من أفراد عائلتي، أومن أقربائي، لأنهم ما كانوا شخصيات عامة، حتى يهتم بهم الناس، ويعرفوا عنهم أشياء يسيرة أو كثيرة. لست مع ذلك، من الذين يرفعون من قدر عشيرتهم أو نسبهم، ليحققوا رغبة أو غاية أو منفعة. أكتب هذه الكلمات لنفسي، ولا يهمني إذا قرأها الناس، وأعرف في الوقت نفسه، أن أختي الهاجعة الآن في رقادها الأبدي بين التراب لا تسمعني، لذلك لن أخاطبها بكلمة واحدة.
رحلت أختي هدى وفي عينها الكثير من الحب، والكثير من الأمل، والكثير من الحنان. فاجأها السرطان الغادر، فواجهته بقوة إيمانها وصلابة إرادتها، ولم تستسلم، لكن الموت الذي هو حق ومقدرعلى كل مخلوق، يربح دائماً معركته الأخيرة مع الحياة، فخطفها منا، في وقت نحن في أمس الحاجة أليها وإلى حنانها. أقول »نحن«، واقصد أولادها، وأقرباءها، وكل من عرفها في الحياة وفي العمل. قبل زواجها عملت شقيقتي سنوات طويلة في »مصرف الرافدين« في بيروت، وبقيت تعمل لسنتين أو ثلاث حتى بعد أن انجبت أولادها. توفي زوجها وأولادها صغار، فثابرت على تربيتهم بعزيمة لا تعرف الفتور.
كانت تصغرني بسنتين، وكانت الصغرى بين البنات، فيما كنت أنا أصغر البنين، لذلك كانت بالنسبة إلي بمنزلة الأخت الرفيقة. معا نشأنا، ومعا لعبنا، ومعاً ضحكنا، ومعك بكينا. أعرف أن الأولاد يتخاصمون الخصام البريء، لكن لا أذكر في حياتي كلها أن تخاصمت معها. حين تركت لندن، لأجرب العيش في لبنان من جديد، كانت لي مثل أم حنون. كان سكني في بيروت، وكان بيتها ولا يزال في بلدة عرمون الواقعة على تخوم العاصمة. لا أذكر يوما مر ولم تسأل فيه عني. كانت تحمل إلي ما تصنع من ألوان الطعام، وكان يعز عليها أن تطعم أولادها ما لذ منه وطاب، من دون أن يكون لي منه نصيب، وحين كنت أطلب إليها أن تخفف من ذلك حرصاً عليها، كانت ترفض، مثل أم تصر على الاعتناء بولدها.
رحيل الأخت العزيزة لا يقل عن رحيل الأم، خصوصاً، إذا كانت آخر الشقيقات، وكانت هدى آخرهن في لبنان، لذلك أحدث رحيلها فراغاً في نفسي سيظل يلازمني لسنوات طويلة، فراغا جعلني أفكر في الحياة، وأسال نفسي تلك الأسئلة الوجودية الحارقة: لماذا نحن هنا ولأي هدف، وما معنى حياة تنتهي بالموت؟ هل تنتهي بالموت فعلاً، أم أن هناك حياة أخرى خارج هذا العالم الذي نراه ونشعر به، لكننا ما زلنا حائرين أمام غموضه، عاجزين عن فك طلاسمه؟ هكذا هي الحياة، تمضي بنا وكأن كل شيء دائم وعلى يرام، فإذا القدر يخبىء لنا ما ليس في الحسبان.
في منتصف التسعينات من القرن الماضي عملت ما في وسعي لأحضرها وأولادها إلى لندن. كنت يومها عاملاً في صحيفة »الحياة« بمنطقة »هامرسميث« في الطرف الغربي من لندن، وفي تلك المنطقة استأجرت لها شقة قريبة من مقر عملي، عاشت فيها أشهراً، ثم عادت إلى بيتها في لبنان، بعد أن شعرت أن لا بديل عن الوطن. تلك هي حال اللبنانين مع بلدهم الصغير. يشكون منه ويتنكرون له في أيام الشدة، ويرحلون عنه إلى أقاصي الدنيا، ثم لا يلبثون أن يعودوا إليه نادمين، كأن فيه شيئاً لا يجدونه في أي مكان آخر في العالم. أعتقد أن هذا شعور معظم الناس، تجاه أرض ولدوا فيها، وترعرعوا بين ربوعها، وهذا ما عناه ابو تمام بقوله:
»نقل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول/ كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه ابداً لأول منزل«، وما عناه شاعر آخر بالقول: »بلادي وإن جارت علي عزيزة/ وأهلي وإن ضنوا علي كرام«.
كانت شقيقتي هدى إمرأة بسيطة عادية وفي غاية التواضع، سمات جعلت منها أختاً بكل معنى الكلملة، وأماً بكل معنى الكلمة. لم تخلبها المظاهر، ولم تغرها المفاتن، وكانت حياتها متواضعة حرة ممتازة. أتساءل وأنا أكتب هذه الكلمات: هل كان في شقيقتي ما يمكنني القاء الضوء عليه، ليخرج حديثي عنها من الإطار الشخصي، إلى الإطار العام، وتكون فيه فائدة عامة للناس، أو لمن يقرأ كلامي عنها هنا في أقل تقدير؟ لو أردت أن اشير إلى خصال محددة في شخصيتها لوجدت فضائل كثيرة، منها الكرم ومنها الوفاء، ومنها حب الناس، كل الناس. لكن الفضيلة الكبرى التي تعلمتها منها، ويمكن أن تكون امثولة للناس هي التفاني. مات زوجها غرقاً في باخرة كانت تمخر عباب بحر السنغال، وترك لها ثلاثة أولاد صغار، فبقيت أرملة ونذرت حياتها لهم، وتفانت في تربيتهم، وكانت حريصة كل الحرص على أن يكونوا مسالمين متواضعين، كما كانت متواضعة ومسالمة.
قبل سنتين حل في جسدها المرض القاتل، فبقيت تداري نفسها بكل جرأة، متنقلة بين بيتها والمستشفيات. كانت تعرف مقدار حبي لها وحرصي على راحتها، وخلال تلك المدة كنت أتصل بها من مقر إقامتي في أوروبا، ولم اسمعها يوما تئن أو تشكو، وفي كل مرة كنت أسألها عن حالها كانت تقول لي: أنا بخير، صحتي جيدة والحمد لله. كنت أعرف ، واولادها يعرفون، والذين كانوا من حولها يعرفون، أن جيوش المرض الخبيث كانت تفتك بجسدها يوما بعد يوم، لكنها لم تكن تبالي! الشيء الوحيد الذي كان يشغل بالها، هو ان لا يكون رحيلها عن الدنيا فاجعة على أولادها، لأن حبها لهم كان فوق العادة، وفوق الوصف، وفوق الوصف أيضاً كان حزني على فراقها. يعزيني أنني كنت إلى جانبها في الاسابيع الأخيرة من حياتها، ساكنا في بيتها في عرمون، وكان يؤلمني أن أرى ضوء حياتها يخبو يومأ بعد يوم. في اليوم الذي تلى رحيلها، في السابع من الشهر الماضي، ضربت لبنان عاصفة هوجاء، وبدأ المطر يسقط مدراراً، واستمر سقوطه ساعات طويلة. شعرت ونحن على خطى جثمانها في الطريق بين بيروت وقريتنا التي في الجنوب.كأن السماء كان تبكي عليها، وتمنيت أن لا يتوقف المطر. حين وصلنا، آثرت البقاء بعيداً عن مكان الصلاة على روحها، وعن مراسم نقل جثمانها إلى الحفرة. أدركت أن في ساعة مثل هذه الساعة، لا يعود للواقعية مكان، ولا للجرأة مكان، يغلب الحزن الدفين كل شعور آخر، إلى درجة لا تريد العين بعده أن ترى شيئاً، ولا أن تسمع الأذن شيئاً حتى بكاء البكائين، وصلوات رجال الدين، ورحمة المترحمين.
لن أطيل الحديث عن أختي الحبيبة هدى. حكايتي معها شرح يطول، بدأت من يوم ولادتها، ومن يوم مجيئي إلى هذا العالم. حكاية لا يجلو سرها غير القدر الذي جعلها أختاً لي، وجعلني أخأ لها، وما هذا الذي دونته الآن عنها، إلا نقطة من بحر المشاعر الإنسانية التي يشترك فيها جميع البشر، والذي لا حد له ولا قرار.