في حوار مع الشاعر مكرم غصوب

بيروت من ليندا نصار

يعتبر الشاعر مكرم غصوب من الشعراء اللبنانيين الشباب الذين أثبتوا حضورًا لافتًا في الوسط الثقافي اللبناني لما أبدعه من خيال ورؤيا استطاع من خلالهما أن ينظر بعين الدقة والمراقبة وأن يصغي إلى نبض الكون ليستشفّ منه نصوصًا شعريّة فلسفيّة تقول الحياة والإنسان والحب والموت… يطرح الشاعر في قصائده قضايا وجودية تبدّت في دواوينه وفيها بحث عميق ومطوّل عن الحقيقة المطلقة وعلاقة الإنسان بالله والموجودات بعد إعادة النظر بالموروث لإطلاق قصائد لا تشبه إلا كاتبها. علاقته بالشعر حوار داخلي ومناجاة فكرية وروحية في آن. يلجأ الشاعر في قصيدته إلى الرموز الأسطورية التي تثقل معانيه وبالخيال يخلق قصائد حرة تنتصر لقيم الحق والجمال والحياة كما أنّها تدور في فلك دهشة متكررة متجددة بعيدة عن النمطية وتدعو القارئ إلى التعمق أكثر لفهم أبعادها.

الشاعر مكرم غصوب

»الحصاد« التقت الشاعر مكرم غصوب وكان لها حوار معه:

كيف يمكن للكتابة أن تتصدى للألم والقلق فتكون علاجًا للروح وسط الصّدمات التي تحدث للشاعر؟

مكرم غصوب: على نار الكلمة أن تتقد بالألم والقلق والمسؤولية لتدفئ وتنير..جيّد أن يعالج الشاعر جراح روحه بالكتابة ولكن الأهمّ أن يعالج جراح روح مجتمعه بهذه الكتابة، أن يشفي مجتمعه من التفسخ الروحي وأن يكون من »هؤلاء الذين لهم القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمّة بأسرها«…وإنّه لعظيم الشاعر الذي يستطيع أن يحطّم مرآته ويتجاوز كلّ ما تعكسه من أنانية لأنّه حتّى المنارة حين وقفت أمام المرآة قالت لها: أيّتها الامّ العاقر، لا أرى فيك إلاّ نفسي!

تقول في ديوان »الطارق«: لا إرادة لي في الموت/لي إرادة في الحياة/ للموت سبب أساسي:الحياة/الحياة مقبرة الموت. نلاحظ هنا حبّ الحياة الذي يتشكّل بفعل إراديّ. هل يمكن اعتبار هذا الأمر دعوة لاتخاذ المواقف وتخطّي الضعف في ظلّ المعاناة والظروف الصعبة؟ وهل استطعت أن تقول آراءك عن الحياة والموت في القصيدة ؟
حين أدركت انّ الحياة مقصلة قطعت رأسي لكي أحيا…نعم حبّ الحياة قوّة مقاومة وقوّة فاعلة في الوجود، حبّ الحياة عاطفة مُدرِكة مُدرَكة، ولكنّه أيضاً حبّ للموت نفسه متى كان طريقاً للحياة، طريقاً للحقّ والخير والجمال. إنّه حبّ للفضيلة، للخلق، للإبداع، للمعرفة، للمسؤولية، للكرامة، للعطاء، للتفاني…ولا بدّ من التمييز بين العيش والحياة لأنّ العيش هو الموت الحقيقي »فالحياة لا تكون إلاّ في العزّ .. أما العيش فلا يفرّق بين العزّ والذلّ«. لذلك قلت: إن كان دخولنا إلى هذه الحياة عن طريق الخطأ فلنحسن خروجنا منها.
الحياة والموت أكبر من قصيدة وأصغر من الشعر. وأنا أحبّ الحياة حتّى آخر الشعر وأنتحر بها القصيدة تلو القصيدة…فلولا الشعر كيف أقول لها »أحبّك« ولولا الشعر كيف »أحبّها« ولولا حبّها كيف يكون الشعر؟

ديوانك الجديد »قالوا لي – وجوه وجوديّة«، الصادر حديثًا 2020، وجهات نظر تجمع بين المحسوس واللامحسوس فهو نوع من المناجاة أو حوار عميق ومحاكاة، وكأن مكرم غصوب يختصر فلسفة خاصة في الحياة ويتمثّل في الغياب والعاصفة والإنسان العابر وصولًا إلى الموت… ما هي الأمور التي ميّزت هذا الديوان عن غيره؟ وكيف تعرّف القارئ به؟
الوجوه الوجودية المحسوسة وغير المحسوسة التي اعترفت لي بمكنونها رأيتها من بعدين آخرين ليصبح لكلّ وجه ثلاثة وجوه بدءًا من الخيال صعوداً إلى الإله ونحو السؤال الذي يعيدني بدوره إلى الخيال مروراً بوجوه عديدة كلّ وجه منها يدلّني إلى وجه آخر وهذه الوجوه تشكل »نجمة كنعان« حيث يتحوّل البشري فيها إلى إله زمكانه بالسؤال رحم المعرفة المسؤولة وبالخيال رحم الخلق المتجدد، وراسمة شجرة المعرفة التي قالت لي: »من منكم بلا حجر، فليرجمني بالخطيئة«. كتاب قالوا لي ـ وجوه وجودية يطرح مفهوم العلاقة بعد هدمه كلّ الموروثات العمياء والأوهام المؤسسة لعلاقات البشري مع ذاته والارض والطبيعة والآخر المجتمع والسؤال الشكّ والوجود وبالتالي العلاقة مع »الله« ليعيد تنظيمها بصدق مصفّى ودهشة متجددة بالحبّ، كما يعالج مفهوم الحريّة الناتجة عن تلك العلاقات بجعلها حرّية ملتزمة لقيم الحقّ والخير والجمال، حرّية تحررنا من سجن جناحيها.

ما هو الخيط الوثيق الذي يجمع دواوينك؟ وماذا أضاف إليك الشعر؟
بين »كذبة صَدَف« الصادر في العام 2008 و »قالوا لي« الصادر في العام 2020، إثنا عشر عاماً من القلق الوجودي…من الكذبة حتّى الوجوه عبوراً بالتداعيات والدوائر.
»الصبي الختيار« الذي ثار على صوت الوهم في الصَدَفة وركب أمواج البحر بحثاً عن الحقيقة، هو نفسه الذي تحدّى الموت محاولاً هَدم الخراب في »نشيد العدم« قبل أن يحاول في »الطارق« خلق »إلهه الزمكاني« الذي رسم معالم وجهه في »قالوا لي« من خلال الوجوه الوجودية التي كلّمته فعلّمته…وما زال يبحث عن الحقيقة التي لم يظهّرها إلاّ الشعر. الشعر الذي تنفّسه هواءً فأشعل ناراً في داخله أحرقتنه وأعادته إلى انتمائه تربة تشرّبت ماء الحياة شعراً لينبت قمحاً »غنوصياً« جديداً…

متى يطمئن الشاعر إلى ما يكتبه؟
يجب أن يعتزل الشاعر الكتابة عندما يطمئن إلى ما يكتبه.
الكتابة الحقيقية ثورة الكلمة على الكلمة حتّى تصبح القصيدة وطناً ويصبح الوطن قصيدة.
الكتابة الحقيقية فعل خيانة كما الخلق، الحبّ، التجدد…كما الموت والحياة. نعم هو فعلُ خيانة ونخون لنكونَ أوفياء.
الكتابة الحقيقية صدق مع الذات وأصعب التحدّيات الصدق مع الذات.

لا ننكر الصراع الذي يعيشه الشاعر مع اللغة التي تضيق بالمعنى. إلى أيّ مدى أسعفتك اللغة في كتابة هذا النوع من الشعر وخصوصًا لجهة الاقتضاب والتكثيف الذي اعتمدته في القصائد؟
قالت لي اللغة: »على كل من ليس لديه أكثر من »الكلام« أن يصمت«. وقال لي الشعر: »تريد أن تصبح شاعراً، قلّ جديداً أو أصمت«. فاعتنقت الصمت حتّى حبل بي وأنجبته لغة أحاول بها تجاوز اللغة، لغة يحتويها المعنى ولا تحتويه فأذوب انا فيها وتذوب هي فيه كذوبان الملح في الماء…أو كومض النجوم في السماء…لغة بمفردات بسيطة أحاول أن أتوحّد من خلالها بالكلمة والرؤيا، نيّئة أدوّرها كما يدوّر الفاخوري بطين يديه الفراغ في قلبه، قليلة، أقلّ من القليل، أحاول أن اقول بها أكثر من الكثير، دالّة تدور بنا حلزونياً من دلالة إلى دلالة أعمق فأعمق حتّى العميق العميق، أبعد فأبعد حتّى البعيد البعيد إلى ما وراء المدى، إلى الصمت المديد، صمت ما قبل البدء حيث كان أو حين كان »الكلمة« فلا فرق«…

في هذا العصر ووسط كل التناقضات الحياتيّة التي تحيط بالمبدع، ما الذي يجعل شعرك قريبًا من المتلقي بكل ما يحمله من مواضيع وقضايا فكرية وفلسفية؟
أحاول في كتاباتي أن أرسم نافذة يطلّ القارئ من خلالها إلى أعماقه وإلى المدى في آن، وبرغم كلّ الانحطاط الذي نعيشه ما زلت أؤمن أنّ في داخل كلّ إنسان شاعرية وتوق إلى العمق الإنساني والمدى والوجودي…في كلّ عقل أسئلة نائمة أحاول إيقاظها وأخيلة مسجونة أحاول تحريرها…
حين يكون الشعر كالبحر يستطيع أيّ قارئ أن يقصده، منهم من يتشمّس على شاطئه ومنهم من يعوم على سطحه، منهم من يركب موجه ومنهم من يغوص في أعماقه حتّى أعمق من الشاعر نفسه…

العدد 102 –اذار 2020