أطفال العراق.. الضحية الصامتة للكارثة الإنسانية

د. ماجد السامرائي

يشكل ملف معاناة الأطفال في العراق من أخطر ملفات الانتهاكات الصارخة ضد المدنيين في العراق منذ عام 2003 ولحد اليوم. فقد قدم الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريس) قبل أربعة أسابيع تقريراً الى مجلس الأمن الدولي حول الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال في العراق وتحديداً خلال عام 2019 أشار فيها الى تعرض 2114 طفلا لانتهاكات جسيمة وموثقة من قبل » داعش والحشد الشعبي والقوات الأمنية والعسكرية العراقية والبيشمركة وقوات التحالف الدولي« في القتل والتجنيد فيما كان الحشد الشعبي وفق التقرير مسؤولاً عن النسبة الأكبر من حالات اغتصاب الصبيان، بحسب التقرير.

كالعادة لم تعقب الحكومة العراقية على هذا التقرير لأن الطبقة السياسية منشغلة بصفقات النهب والفساد وتقاسم السلطة، كما إن تعقيبات أعضاء البرلمان حول التقرير كانت ساذجة لم تواجه المشكلة الجوهرية لهذه الجرائم البشعة بحق أطفال العراق رغم إن هؤلاء البرلمانيين يتقاضون رواتب عالية لقاء مهمتهم في مجال حماية الأسرة العراقية التي تتعرض الى مختلف أنواع الانتهاكات. مما أعطى للناشطين والناشطات الحرية الأكثر في التعقيب دون أن يواجهوا بقوة المتسببين بتلك الانتهاكات. على سبيل المثال ما ذكرته الناشطة والباحثة في شؤون الطفل بشرى العبيدي التي قالت »إن أطفال العراق يتعرضون إلى انتهاكات كثيرة وكبيرة وبشعة، من ناحية عمالة الأطفال وزواج القاصرات وانتهاكات داعش الإرهابي فضلا عن انتهاكات أسرية ناجمة عن الضعف الاقتصادي والمشاكل العائلية« فيما يحاول بعض المسؤولين في حقوق الإنسان العراقية ربط انتهاكات حقوق الطفل العراقي بعصابات داعش الإرهابية وما ارتكبته من جرائم بخصوص تجنيد الأطفال في العمليات المسلحة، وتزويج القاصرات وبيعهن فضلا عن ممارسات التعذيب وغيرها. دون ذكر بأن المسيرة التاريخية لإنتهاكات الأسرة العراقية ومن ضمنها الأطفال تمتد الى أيام الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 مروراً بسياسات القمع والتشريد الأسري لحد اليوم. وإن ما يدور من صراعات حول السلطة جعله يتصدر القوائم الدولية في جميع أنواع الانتهاكات ضد الانسان بصورة عامة وليس للطفل وحده.
التقارير كثيرة وشهادات المنظمات العالمية المعنية بحقوق الإنسان، قد أكدت أنه في ظل الظروف الاستثنائية التي عاشها ولا يزال يعيشها العراق وخاصة تلك المتعلقة بالعمليات والنزاعات المسلحة قد أدت الى تعريض المراكز السكانية الى الانتهاكات خاصة في المحافظات والمدن التي عاشت تحت وطأة التهديد الدائم سواء من قوات الاحتلال أو الأجهزة الحكومية وعناصر الميليشيات، والمجاميع المسلحة، وعصابات الخطف والاتجار بالبشر، وصولا إلى احتلال »داعش«. حيث تم قتل وتشريد الملايين من العراقيين وكان نصيب الأطفال من ذلك الكثير رغم إدعاءات القائمين على الحكم التزامهم بالدستور العراقي الذي ألزم سلطات الدولة في المادة (30) منه بأن توفر للفرد والأسرة وبخاصة الأطفال والنساء الضمان الصحي والاجتماعي والمقومات الأساسية للعيش بحياة حرة، اضافة الى إدعاءاتهم بالالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحماية الأسرة والطفولة والتي وقع عليها العراق.

تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) »إن أكثر من خمسة ملايين طفل في حاجة ماسة للمساعدة في العراق« كما تثير الأرقام الرسمية العراقية مخاوف الكثيرين حول مستقبل الطفولة في هذا البلد، حيث ترتفع نسب الأمية والفقر بشكل لافت ويقع بعضهم ضحية لعصابات التسول والسرقة والمليشيات. وتكشف أرقام وزارة التخطيط العراقية أن الأطفال يشكلون ما نسبته 11 من الأيدي العاملة في السوق المحلية، وهو ما يمثل واقعا مدمرا لمستقبل الطفولة في العراق. حيث يعج سوق العمل بمئات آلاف الأطفال المتسربين من المدارس والذين يعملون في المعامل والحقول والمحلات والشوارع، فيما تحول البعض الآخر إلى متسولين أو باحثين عن الطعام والأغراض في مكبات النفايات، ويتعرض بعضهم إلى تحرش واعتداءات، يتم السكوت عنها غالبا خوفا من الفضيحة الاجتماعية. كما تظهر الأرقام الرسمية أن من بين ثمانية ملايين طفل عراقي في عمر الدراسة، هنالك مليونان لم يلتحقوا بالمدارس لعدة أسباب، منها نزوح عوائلهم أو انخراط بعضهم في سوق العمل، ولا يجد أغلبهم فرصا فيما بعد لإكمال دراستهم.
وكان من أكثر الأعمال رعباً ووحشية ما حصل خلال معارك »داعش« في مدينة الموصل حيث أعلن في حينه قائد عسكري أميركي أن تنظيم الدولة الإسلامية أجبر أطفالا ومعوقين على قيادة شاحنات مفخخة وتفجير أنفسهم وسط القوات العراقية. وسط تحذيرات عالمية مما سيصيب الأطفال الخارجين من تلك المعارك الوحشية من أمراض نفسية ستلازمهم طوال حياتهم والتي يقضونها في المخيمات التي لا تصلح للإستخدام البشري، كما يصعب على ذويهم العناية بهم بسبب معاناتهم من ذات الصدمة فيما ذكرت التقارير العالمية إن نحو 90 من الأطفال في الموصل تعرضوا لمشاهدة ذويهم وهم يقتلون بوحشية أمام أنظارهم، أو فقدوا أحدا من أسرهم خلال الصراع المسلح.
هناك إهمال من قبل الجهات الرسمية العراقية للأطفال وللإسرة وصل الى مستويات مخيفة تمثلت ببعض المؤشرات السريعة من بينها :
الفقر المدقع الذي تعيشه العوائل العراقية بما انعكس على الأطفال، حيث يصاب الكثير منهم بأمراض سوء التغذية أو بالأمراض المزمنة أو اضطرارهم للعمل في سن مبكرة.
الجهل وانحسار المستوى التعليمي للأطفال بسبب قلة المدارس وتقادم الكثير منها ومبادرة وزارة التربية إلى هدم عدد غير معلوم ما تسبب بتكدس الأطفال في عدد قليل من المدارس وانتشار ظاهرة التعليم الأهلي والخاص المكلف بالنسبة للأسر المتعففة، ما أنتج هجرة الأطفال من المدارس إلى سوق العمل أو غيره.

3- فقدان الأمن نتيجة أنشطة الجماعات المسلحة الإرهابية التي طالت عملياتها الإجرامية الأطفال بشكل مباشر وتسببت بتعطل مفاصل الحياة في الكثير من الأحيان وفي محافظات ومدن كاملة في وقت من الأوقات.
4- الواقع الاجتماعي غير المستقر فقد شاعت ظاهرة التفكك الأسري وتصاعدت مستويات الطلاق في منحنى عامودي خطير جداً، وغلبت المفاهيم القبلية على أسس المدنية.
5- تعرض الأطفال للاعتداءات الجنسية وإجبارهم أو أغواهم لارتكاب أعمال غير أخلاقية كالبغاء أو التسلط الجنسي بمقابل أو بدونه. وشيوع ظاهرة الرق وبيع النساء خصوصاً خلال فترة احتلال »داعش«.
6- شيوع ظاهرة الاستغلال الاقتصادي للأطفال إذ يضطر العديد من الأطفال إلى العمل في سن مبكرة في أماكن يرتادها البالغين ويتعاطون بعض المواد الخطرة على الطفل كالتدخين والخمور.
7- انتشار ظاهرة التسول باستخدام الأطفال أو قيام الأطفال أنفسهم بدفع وتحريض من البالغين بالتسول إذ تنشط بعض العصابات المنظمة التي تدير نشاطات التسول باستغلال الأطفال في التسول ما يعرضهم لخطر الموت أو المرض، والأشد سوءً استغلال الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة كالمقعدين وذوي العاهات وغيرهم في هذه الأعمال.
8- الإساءة للأطفال في الأوساط التي يرتادونها كالأسواق ووسائط النقل العام وبيئة العمل، فعندما يتواجد الطفل في أي مكان يتعرض لسماع كلمات ويشاهد بعض الأفعال التي لا تتلاءم مع سنه مما يؤثر في المستقبل على نمو جسم الطفل أو يلحق بها الضرر الفادح.
لعل من مخاطر الهيمنة الإيرانية على العراق تنفيذ مخطط طائفي استهدف الأطفال واليافعين في عمليات إعدادهم دينياً. فقد أشار تقرير الخارجية الأمريكية لحقوق الإنسان في العراق خلال عام 2018 الى أن مليشيات الحشد الشعبي افتتحت العشرات من المعسكرات ومراكز التدريب الخاصة بتجنيد الأطفال العراقيين وتدريبهم ومن ثم إرسالهم إلى سوريا ولبنان واليمن للقتال في صفوف المليشيات الإيرانية، وتحرص طهران ومليشياتها على أن تكون تلك المراكز في شكل مدارس شرعية ومراكز تدريب تستهدف تجنيد العراقيين من سن السابعة وحتى عاما. وتنتشر المدارس والمراكز في بغداد وغالبية المحافظات العراقية، وتعمل على غسل أدمغة الأطفال، وكسب ولائهم العقائدي والسياسي، ويتولى ضباط من فيلق القدس الجناح الخارجي للحرس الثوري التدريس فيها. وتنظم هذه المراكز رحلات سفر لهؤلاء الأطفال إلى إيران، بهدف تجنيدهم في صفوف فيلق القدس وجهاز الاستخبارات، واستخدامهم لتنفيذ عمليات استخباراتية وعسكرية في دول المنطقة.

الحلول العاجلة بخطة استراتيجية
لا يمكن لهذه المشكلة أن يتم حلها بصورة جزئية، لكونها تتعلق بنظام سياسي وبلد تتوفر فيه الحدود الدنيا من الاستقرار. رغم ذلك فهناك منظمات وهيئات نشاط مدني في العراق كثيرة تتصدى لهذه القضية رغم إمكاناته المحدودة والتي لا تتعدى التشخيص والتحذير واقتراح العلاجات السريعة. ولهذا يتطلب تظافر جهود الهيئات الدولية الحقوقية والقضائية بالتحرك العاجل لإنقاذ الطفولة في العراق، ووقف الانتهاكات الجارية بحقها، وتكليف ممثل أممي يتولى ابلاغ المجتمع الدولي بحقيقة الجرائم المرتكبة بحق الطفولة العراقية، تمهيدا لإدانة مرتكبيها، ومن ثم القيام بحملة عالمية لإنقاذ وإغاثة أطفال العراق بشكل ملموس وجذري باتجاه تحسين الواقع المعيشي للفرد والأسرة وبخاصة الأطفال.

كما يجب سن تشريعات تحمي الطفل في العراق وبالخصوص قانون الطفل على أن يتضمن هذا القانون الآليات اللازمة لتفعيل الحقوق الدستورية والطبيعية للطفل وعلى رأسها توفير الحماية من جميع المخاطر التي تتهدد حياته وتوفير الضمان الاجتماعي والصحي بما يقي الأحداث من جميع المخاطر. وتوفير الضمان الصحي والاجتماعي للأسرة العراقية، وهذه مسؤولية تتحملها الحكومة العراقية تطبيقاً للدستور لتشمل الأطفال وبخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة أو ممن فقدوا آباءهم أو ممن تعرضوا لانتهاكات الجماعات الإرهابية. ووضع خطة استراتيجة لإعادة الأطفال المتسربين الى مدارسهم، بعد قيام حملة وطنية لبناء المدارس الجديدة وتوفير »المقاعد الخشبية« للمدارس الحالية حيث يفترش الطلبة الأرض في ظل البرد القارص. وأن تتكفل وزارة الدخلية والأمن الوطني بملاحقة العصابات ممن تستغل الأطفال أو تعتدي عليهم.
ورغم هذه الصورة السوداء، لكن هناك مبادرات فردية داخل العراق تؤشر على بقاء قيم التكافل الاجتماعي، ومن بينها مثال المواطن العراقي (هشام الذهبي) الذي بادر منذ إثني عشرعاماً وبجهوده الفردية الى فتح مركز متواضع في العراق لإيواء اليتامى ورعايتهم تطور ليصبح ذو سمعة عالية حيث فاز بجائزة »صناع الأمل« وحظي بتكريم لائق من قبل قبل حاكم دبي محمد بن راشد. وقد قال عن فكرته باحاديث صحفية »بدأت من وحي الأطفال أنفسهم.. أطفال_الشوارع.. عندما كنت أراقب تحركاتهم وحياتهم من بعيد وكيف كانوا يدمنون على الممنوعات ويعيشون الضياع كله، حتى قررت الدخول في معركة لم أكن أعلم تبعاتها لكنها نجحت« وبسبب تعلقه بالأطفال استأجر داراً صغيرة جمع فيها 47 طفلاً تكفل برعايتهم ونظم عيشهم وأدخلهم الحياة العملية بكامل تفاصيلها من خلال صفوف لتعلم الخياطة والحلاقة والعمل على الحاسوب وغيرها من الحرف، إلى جانب ممارسة هواياتهم في الرسم والموسيقى والرياضة وحتى الصحافة والإعلام، حيث أسس إذاعة داخلية يبدأ بثها في الصباح الباكر، تنبه الأطفال وساكني الدار أن وقت الاستيقاظ حان، ومن ثم تعريف كل شخص بواجباته لهذا اليوم، كل هذا جاء بجهود وأموال ذاتية ساهم بها متبرعون من أموالهم الخاصة. تخرج من البيت العراقي للإبداع حتى الآن 150 شخصاً، دخلوه أطفالاً وغادروه شباناً، لهم عملهم وحياتهم الشخصية والزوجية لبعضهم. وأعطى بعضهم بطاقته الشخصية لبتمكنوا من دخول الحياة بصورة قانونية. والمفارقة أنه لم يدخل الفتيات إلى داره خشية من لومه أو انتقاده أو حتى إتهامه من قبل البعض باستغلالهن في أمور أخرى، وهو ما اعتبره تناقضاً يعاني منه بعض أفراد المجتمع بقوله: »تترك الفتاة في الشارع ولا نعرف إلى ماذا تتعرض من ضغوطات أو تحرش، ولا يتقبل المجتمع إيواءها في بيت يؤهلها لعيش حياة طبيعية. كل ما طلبه من الحكومة العراقية توفير أرض ليقيم عليها مركزاً متكاملاً للطفل يحتوي على دار للأيتام الذكور وآخر للفتيات وثالث للمسنين، إضافة إلى مركز للاستشارات النفسية. وممنوعاته الثلاثة التي لا يفضل التعامل معها هي الأحزاب السياسية والمنظمات الأجنبية والحكومة«.

العدد 102 –اذار 2020