اليابان. الدور الدولي في عام 2030

أ.د. مازن الرمضاني*

تفيد المقارنة بين تأثير عناصر القوة في الجسد القومي الياباني وعناصر الضعف فيه ان مخرجات الأخيرة تتراجع امام الاولى. والى هذا الواقع أدت ثلاثة متغيرات مهمة: أولا استمرار تمتع اليابان بقدرة مالية عالية تتيح لها التعامل الكفوء مع عناصر ضعفها. ثانيا وصول جيل جديد من صناع القرار أكثر انفتاحا على العالم واعمق ادراكا بجدوى التفاعل والانغماس في التفاعلات الدولية إلى قمة الهرم السياسي الداخلي، ثالثا تصاعد وتائر الانفتاح العالمي على اليابان،وهوالامر الذي افضى إلى تقليص فجوة العلاقة بين القوة والمعنى التي تعاني منها اليابان منذ زمان.

لذا لا تنبع الفاعلية الدولية اليابانية من فاعلية داخلية متعددة المصادر حسب وانما ايضا من ادارة ذكية وكفوءة للسياسة الخارجية. ويؤكد الواقع ان هذه السياسة انتقلت، لاحقا من التركيز على تحقيق اهداف اقتصادية منشودة إلى الجمع المتوازن بين هذه الاهداف واخرى سياسية واستراتيجية ضمن اطار رؤية واضحة وبعيدة المدى لكيفية تحقيق الغاية النهائية لمشروعها القومي في الريادة والقيادة الآسيوية.

فخلال زمان ما قبل عقد السبعينيات من القرن الماضي ذهبت اليابان إلى تبني سياسة الابتعاد النسبي عن الانغماس السياسي في التفاعلات الاقليمية والعالمية فضلا عن توظيف الحماية الامنية الامريكية لها. وقد ساعدت هذه السياسة اليابان على توظيف تلك الامكانات التي كانت ستذهب لضمان امنها القومي بجهد ذاتي لاغراض دعم البناء والنهوض الاقتصادي والبحث عن الاسواق للتصدير والاستثمار المباشر. وتبعا لهذه السياسة تميزت السياسة الخارجية لليابان انذاك بتناقض واضح بين الاعجاز الاقتصادي والتبعية الامنية.
على ان هذا التناقض كان مرحليا. فمع ان اليابان استمرت تتماهى مع السياسة الخارجية الامريكية جراء مخرجات معاهدة الأمن المشترك المعقودة بين الدولتين عام 1951 وتعديلاتها اللاحقة بيد انها راحت ولاسيما بعد ان استطاعت تحقيق قفزتها الاقتصادية في السبعينيات تتحول ببطء نحو تبني استراتيجية طويلة المدى مفاد مضمونها ان: »… يلحق الاخرون باليابان بدلا من ان تتبع اليابان الاخرين«.

إن تكريس اعتماد الاخرين علي اليابان افاد في وقته بنزوعها إلى دعم اعجوبتها الاقتصادية باخرى ذات علاقة بالامن القومي والقرار السياسي المستقل. ومما شجع على ذلك المعطيات التي نجمت عن انتهاء الحرب الباردة عام 1991. فانتهاء هذه الحرب وإن حرر اليابان كغيرها من دول المعسكر الغربي من تحدياتها إلا ان مرحلة ما بعد هذه الحرب افضت إلى تحديات جديدة اخرى ومنها التحدي الصيني. ففي اليابان كما في غيرها من دول شرق اسيا ينتشر هاجس مفاده: »ان الصين اذا ما نهضت فانها ستدوس بقدميها على الجميع«. ومن هنا ينبع الصراع الكامن بين العديد من هذه الدول والصين.

ولاحتواء تحديات مرحلة ما بعد الحرب الباردة راحت اليابان وعلى وفق مفهومها للنظام الدولي تعمل على مستويين: الاول تصعيد انغماسها في التفاعلات السياسية الدولية. والثاني تنمية قدراتها العسكرية الذاتي..

اولا تصعيد الانغماس في التفاعلات السياسية الدولية
منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي والسياسة الخارجية اليابانية تشهد انغماسا متصاعدا في التفاعلات السياسية الدولية:الاقليمية والعالمية. ولم يقتصر هذا الانغماس على تطوير العلاقات التقليدية مع ثمة دول هنا وهناك حسب وانما شمل ايضا بناء وتطوير علاقات مع دول اخرى ولاسيما في عالم الجنوب.
فاما عن العلاقات التقليدية مع دول اسيوية وأوروبية وأمريكية، تنطلق اليابان في تعاملها مع هذه الدول من رؤية تتأثر بواقعها الاقتصادي-الاجتماعي الذي يتوزع على طبقات تعلو الواحدة الاخرى. ولهذا ترى اليابان العالم موزعا عموديا على طبقات من الدول يقوم بين جلها سباق مفتوح من اجل السمو والريادة الدولية. وتأثر بهذه الرؤية. عمدت اليابان إلى بناء علاقتها مع الدول المؤثرة على صيغة المثلثات على ان تكون هي بمثابة الضلع الأساس في كل منها. ولعل ابرز هذه المثلثات الاتي: 1. مثلث اليابان- تايوان- كوريا الجنوبية 2.مثلث اليابان-الصين- روسيا الاتحادية 3. مثلث اليابان- الولايات المتحدةالامريكية- المانيا.
فاما عن المثلث الاول فهوذلك الذي يتميز بالعلاقة الجيدة لليابان مع اطرافه: تايوان وكوريا الجنوبية. ومما ساعد على ذلك:
* اندفاع السياسة الاقتصادية الخارجية لليابان نحو الاستثمار المباشر والمكثف في عموم منطقة شرق آسيا وبمخرجات جعلت هذا المثلث قاعدة للزخم الاقتصادي في هذه المنطقة.
* نمو اعتمادية عموم اقتصاديات دول شرق آسيا على اليابان وعلى نحو جعل ميزان المدفوعات بين اليابان وهذه الدول يتميز ومنذ عام 1970م بالعجز المستمر لصالح اليابان.
* نزوع اليابان الى بناء تكتل اقتصادي في عموم حوض الباسفيكي بقيادتها ليس فقط سبيلا لتطوير العلاقات الاقتصادية المتبادلة وانما ايضا من اجل ان يكون مدخلا عمليا لاحتواء الشك الكامن بين الدول الآسيوية ولفض عقدة الصراعات الاثنية المتجذرة في هذه الدول.
واما عن المثلث الثاني فهو يشمل علاقة اليابان مع الصين وروسيا الاتحادية والتي تتراوح بين معطيات التعاون والصراع جراء تماثل وتناقض مصالحها.
فاليابان والصين يلتقيان في تبنيهما لقيم ثقافية ودينية واحدة اضافة إلى ارتباطهما بشبكة مصالح اقتصادية واسعة ساعد على نموها السريع حرصهما المشترك على تطوير العلاقات الثنائية وتحقيق مصالح مشتركة. على ان علاقة التعاون بين الدولتين تتزامن مع معطيات تحد منها. فاضافة إلى تأثير التجارب التاريخية السابقة بين البلدين في مدركاتهما حيال بعض ومن ثم الخشية المتبادلة يدفع السعي الصيني إلى اعادة بناء الصين الموحدة الكبرى إلى سياسة يابانية مناهظة لان تكون الصين هي القوة المؤثرة في حصيلة تفاعلات منطقة الحوض الهادي.
وفضلا عن ذلك ينطوي اختلاف نوعية علاقة اليابان والصين مع الولايات المتحدة على تأثير ينطوي على الحد من علاقتهما المتبادلة. ولنتذكر ان اليابان تُعد جزءا من النظام الراسمالي العالمي الامرالذي ادى الى ارتباطها به عبر علاقة خاصة لم تحل دونها خصوصية النظام الراسمالي في اليابان. وبهذا الصدد يقول بات شوت في كتابه السادة الجدد: »ان هذه العلاقة اريد بها ان تكون سبيلا لتوظيف قدرات النظام الراسمالي العالمي لصالح تأمين الارتقاء الدولي لليابان«.
وكما هو الحال مع اليابان تقف الولايات المتحدة الامريكية هي الاخرى بالضد من الطموحات القومية الصينية و/او ان لا تكون قائدة لدول عالم الجنوب كما اكد ذلك بريجينسكي هذا فضلا عن تأثيرالمدخلات الاقليمية الاخرى الكابحة لتطورالعلاقة الامريكية -الصينية.
اما عن العلاقة اليابانية- الروسية الاتحادية فعلى الرغم من ان عدم الفصل بين السياسة والاقتصاد يشكل حجر الزاوية لانماط التعاون بين الدولتين إلا ان هذه العلاقة تعاني من توتر ممتد بسبب استمرار قضية جزر ارخبيل الكوريل شمال شرق هوكايدو في اقصى الشمال الياباني دونما حل. ذلك بسبب رفض روسيا الاتحادية اعادتها إلى السيادة اليابانية ادراكا منها لاهميتها الاستراتيجية بالنسبة لها.
إن نجاح اليابان في بناء علاقات متطورة ومتوازنه مع الصين وروسيا الاتحادية سيساعدها على بلورة تجمع شمال شرق آسيا الذي يتميز بالقدرات الخاصة لاطرافه، فضلا عن دعم فاعلية دورها في المثلث الثالث الآتي.
واما عن المثلث الثالث الذي يربط اليابان بالولايات المتحدة الامريكية والمانيا الاتحادية،فعلاقة اليابان مع اضلاعة الاخرى تتميز بتباينها. فبينما هي متطورة مع الضلع الالماني لاسباب تاريخية تعود إلى مخرجات الانفتاح المتبادل على بعض منذ عهدي الميجي في اليابان وبسمارك في المانيا خلال نهايات القرن الثامن عشر اضحت العلاقة مع الضلع الامريكي تجمع بين خصائص التعاون والصراع الكامن، هذا تبعا لتأثير المعطيات السائدة في وقته.
فعلى العكس من واقع هذه العلاقة حتى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي التي كانت حسب آراء عديدة من بين افضل العلاقات الامريكية مع دول العالم، هذا جراء مخرجات متانة العلاقات الامنية والاقتصادية بين البلدين. على ان هذه العلاقة المتميزة بدات ولاسيما منذ الحظر النفطي العربي عام 1973 بالتدهور التدريجي. فادراك اليابان في وقته ان الولايات المتحدة لا تترد عن ترك اليابان تعاني وحيدة من هذا الحظر اسس البداية لسياسة يابانية اخذت تتجه لاحقا إلى ان تكون اكثر استقلالية عن الولايات المتحدة الامريكية.
وقد رفدت هذا التوجه معطيات لاحقة اخرى ومن بين اهمها انتهاء الحرب الباردة. فانتفاء التحدي السوفيتي افضى عمليا إلى تآكل الحاجة اليابانية للحماية الامريكية. وجراء هذا التآكل توافرت اليابان على هامش اوسع من الحركة المستقلة ساعد عليه نوعية قدراتها الاقتصادية فضلا عن تأثير تياران داخليان مهمان: الاول تطلع إلى اعادة اعلاء شان الثقافة اليابانية(الشنتو) والأصولية البوذية بعد ان كان الاحتلال الامريكي لليابان قد عمد إلى نشر الثقافة الامريكية بديلا عنها. اما التيار الثاني فقد دعا إلى انهاء التبعية اليابانية للولايات المتحدة الامريكية. ومن هنا لم تكن كلمة لا التي تقولها اليابان،احيانا في الاقل لصناع القرارالامريكي، بمعزل عن تيار داخلي داعم لهذه الكلمة.

ثانيا التطلع نحو بناء قدرة عسكرية فاعلة.
على الرغم من ان شروط الاستسلام الياباني في عام 1945 تضمنت ان لا تتوافر اليابان على قدرة عسكرية إلا ان الحاجة الامريكية لها في الخمسينيات من القرن الماضي دفعت إلى السماح لليابان بانشاء قوة للدفاع المدني وباسلحة خفيفة. وبمرور الزمان وعبر سياسة تميزت بالتوظيف الذكي لهذه الحاجة، فضلا عن التأثر بدعوات داخلية الى التسلح استجابة لتحديات المستقبل ارتقى الاستعداد العسكري الياباني إلى افاق ارحب ولكم ضمن نسبة 1.0 من الناتج المحلي الاجمالي. فاليابان لم تعد قوة عسكرية آسيوية مهمة وبانفاق عسكري بلغ في بداية عام 2020 نحو 50.3 بليون دولار فحسب وانما ايضا دولة تتوافر على امكانية تصنيع السلاح النووي.

ولا نرى ان تصنيع هذا السلاح سيكون مرغوبا به يابانيا في المستقبل المباشر أو القريب بيد انه قد يصبح ممكنا عندما تضحى المعالم النهائية للمرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1991 أكثر وضوحا. وعليه نتفق مع تلك الآراء التي تؤكد ان اليابان عندما تقرر ان تكون قوة نووية فانها تستطيع هذا جراء توافرها على الأسباب المالية والتكنولوجية والسياسية التي تسمح لها بذلك. فماليا هي تستطيع تحمل مخرجات زيادة انفاقها العسكري بدون اعباء. اما تكنولوجيا فقدراتها تتيح لها تحويل جانب من صناعتها المدنية الى اخرى عسكرية. وخصوصا تلك التي تتميز بخصائص الاستخدام المزدوج. واما سياسيا فهي دولة مشروع حضاري قديم يتطلع الى الريادة والقيادة في اسيا.
وحتى تتبلور المعطيات التي تؤدي الى ذلك من المحتمل ان لا تترد اليابان عن امتلاكها للسلاح النووي دون ان تخشى رد الفعل الاقليمي والعالمي على ذلك. وهذا ان حصل، فانه سيجعلها مالكة لمصادر التأثير الاساسية في القرن الحادي والعشرين: الاقتصادوالقوةالعسكرية والمعرفة ومن ثم تضحى احدى القوى التي سيتشكل منها النظام الدولي بهيكليته المحتملة: الاقطاب المتعددة.

وفي ضوء ما تقدم من المستبعد اقتران مستقبل اليابان في عام 2030 بمشهد الانكفاء على الداخل، ولا كذلك بمشهد القيادة المنفردة لعموم حوض الباسفيكي(الهادي)وانما بمشهد تكريس الفاعلية الدولية سبيلا لاحقا لتحقيق الغاية القومية اليابانية في الريادة الآسيوية.
وفي ضوء ما تقدم نتساءل: لماذا لم نعمد نحن العرب إلى توظيف الحاجة اليابانية المتعددة والممتدة في الزمان لاهميتنا الاقتصادية والجيواستراتيجية ومن ثم الارتقاء بعلاقتنا معها إلى آفاق ارحب خدمة لاهدافنا الداخلية والخارجية؟. ومع اهمية هذا السؤال إلا اننا لسنا بصدد الاجابة عنه في هذا المقال.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

العدد 102 –اذار 2020