السُخرية السياسيّة

 أصواتٌ في مواجهة القمع، عند بعض نماذج من الشعراء العرب المعاصرين

نسرين الرجب- لبنان.

السخريّة فنٌ أدبيّ قديم قائم بذاته، تتسع دلالة السخريّة وفق رؤية الإنسان الساخر، وتتنوع إلى مناحٍ مختلفة، هناك السخريّة الشخصيّة (الهجاء السلبي)، وهناك السخرية الهادفة (النقد بهدف الإصلاح). للسخريّة جذور في معظم آداب الشعوب، وفي الأدب العربيّ كان وما زال لهذا الفن نصيب من الجماهيريّة.

قديمًا تنابذ العرب، على مختلف مشاربهم ومنهم أدباء وشعراء، بالألقاب فقالوا: (الجاحظ وأصل التسمية تعود لصاحب المؤلفات الكبرى في الأدب والنقد، عمرو بن بحر وسمي بالجاحظ لجحوظ عينيه. وقالوا أبو نواس وأصل التسمية تعود للشاعر الحسن بن هانئ، نواس بالضم من النَّوْس وهو تذبذب الشيء وشدة حركته، و(ذو نُواس) سمي بذلك لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه. وأبو هريرة وهو من رواة الحديث عن الرسول (ص) وأصل التسمية عبد الرحمن بن صخر الدوسي، كان له هرة يعطف عليها ويحنو عليها، وتذهب معه إلى أي مكان يذهب إليه، فكُنّيَ بأبي هريرة وهريرة تصغير لكلمة هرة، تأقلم هؤلاء وغيرهم كُثر مع ألقابهم، حتى لم يعد أحد يستشعر أثر السخرية فيها!
تنوعت مظاهر السخرية في المجتمع العربي القديم، فظهرت الشعوبيّة: سخر العرب من الفرس والعكس كذلك. وهَجا الشعراء بعضهم بعضًا، هجوا الأنساب والأعراق، وحتى الأعراض، ومن الشعراء الذين ساروا في طريق الهجاء »جرير« و »الفرزدق«.
كان النسب يعني الكثير للعرب فوجد بعض الشعراء فيه مفخرة، وآخرين سبّب لهم عقدة نقص، انعكست في هجائهم كرهًا وحقدًا اتجاه الآخرين، ومنهم »أبو مُلَيْكة جرول بن أوس بن مالك العبسي«، المشهور بلقب »الحطيئة« قيل إنّه لقّب بذلك لقصر قامته وقُربه من الأرض، وهو شاعر مخضرم عايش الجاهليّة والإسلام، ولم يتوقف عن هجائه حتى آخر أيّام حياته وتضمن هجاءه مضامين الاحتقار والاستهزاء والحط من شأن المهجو، حتى أنّه هجا نفسه عندما لم يجد من يهجوه: »أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه/ فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله«.
إذًا، السخرية موجودة منذ القدم، وأصبح استخدامها إحدى أهم السِمات الجماليّة المميّزة لنصوص الشعراء الحداثيين، إلا أن دواعيها ومضامينها اختلفت، فهي نوع من النقد الواعي الممزوج بالغبن والمظلوميّة والقهر في مواجهة التسلّط والظلم. هي حدث اعتراضي وثقافة نقديَة تشكّك في السائد والمتّبع، وتقدّم في سياق يحكمه قانون خارجيّ كاريكاتوريّ هزليّ، وتهدف إلى التغيير.

سيتناول هذا المقال على تواضعه الشديد، بعض وجوه السخريّة السياسيّة عند بعض نماذج من الشعراء العرب المعاصرين.
إحدى أهم أساليب تطور السخريّة في الشعر العربي الحديث أنها لم تعد شخصيّة، الشاعر فيها لا يسخر من الصفات الخُلقيَة والعرقيَة لخصمه، ولا يتطرأ للشخصيّ بل للموقف، للقضيّة التي تحرّك الرأي العام وتُثير انفعاله، وتهدّد معاييره القيميّة، على الرغم من أن بعض الشعراء في عصرنا الحالي جعلوا العرق واللون والشكل معيارًا للحطّ من مقدار المخالَف في الرأي، وهو دليل على ضعف الحجّة وضيق مخيّلة القائل.
كان للسياسة في عالمنا العربي، نصيبًا وافيًا من النقد الساخر والتحريض في الأدب والشعر بالتحديد، تحدّث الكاتب الأستاذ حسين الراوي(1) مترجماً حالة الكاتب العربي الساخر في قوله:
»ساهمت الأنظمة العربية القمعية بأجهزتها ومخبريها وسياطها وسجونها وأصفادها وتخلّفها في ظهور فن الكتابة الساخرة وانتشارها في الوطن العربي، الكاتب العربي يذوق مُرّ الخيبات والخذلان والانكسار والضعف كإنسان عربي ليل نهار من المحيط إلى الخليج، ولأن سياسة القهر وتكميم الأفواه والطبقية والمحسوبية وضياع الحقوق كلها صقلت الكاتب العربي، وبالذات ذلك الكاتب الذي راح يغمس رأس قلمه في قلب وجعه ليكتب سخريته بألوان حزنه وألمه وضيقه وشتاته، وصدق الماغوط حينما سُئل ذات مرة عن ماهية السخرية؟ فأجاب: إن السخرية هي ذروة الألم«.

السياسة التي تسوس مواطنيها بالقهر والإذلال، ولا تحترم حقّهم في العيش الكريم، يواجهها الشاعر بالسخرية ويُمعن في تحقيرها.
يسخر الشاعر محمد الماغوط من السلطة التي تنتهك حقوق المواطنين البسطاء، وفي مسرحيته التي كتبها بعنوان: »العصفور الأحدب« يسخر من السلطة التي تلاحق الجماهير دائمًا لأنها خائفة من وجود مؤامرات يمكن أن تحاك ضدها.
وفي ديوانه الذي يحمل مفارقة عجيبة »سأخون وطني« يسخر بمرارة من واقع الوطن العربي :
»يا إلهي، كل الأوطان تنام وتنام، وفي اللحظة الحاسمة تستيقظ، إلا الوطن العربي يستيقظ ويستيقظ، وفي اللحظة الحاسمة ينام!«
وهو يرى أنّ الثورة الفاعلة والمحقة تصنعها جماهير واعية تحترم مواطنيتها، فينطلق بذلك من مشهد الصعود والنزول من الباص ليقول إن الإنسان الذي يستهين بأبسط القوانين كيف لحاله أن يكون في الثورات:
»لم أستطع تدريب.. عربي واحد على صعود الباص من الخلف والنزول من الأمام فكيف بتدريبه على الثورة«.
من سخرية الأقدار أن ما قيل هو صالح لعدة عقود من الزمان، فالعالم العربي ما زال يرزح تحت وطأة الاستعمار الغير مباشر: »كل طبخة سياسية في المنطقة أمريكا تعدها، وروسيا توقد تحتها، وأوروبا تبردها، وإسرائل تأكلها، والعرب يغسلون الصحون«.
السخرية الواعية المسؤولة هي أداة من أدوات التوجيه والنقد، ولا شك أنها تضع الإصبع فوق الجرح، وتبيّن مكمن الضعف والخلل، ولكن بشكل وأسلوب غير مباشر. (مقتبس)

الأنظمة المُتخاذِلة
يتّخذ الشاعر محمد الماغوط موقفًا واضحًا وحاسمًا من التطبيع، ويقول : »ألا وقد يكون هذا زمن التشييع والتطبيع والتركيع، زمن الأرقام لا الأوهام والأحلام ولكنه ليس زماني. سأمحو ركبتي بالممحاة، سآكلهما حتى لا أجثو لعصر أو تيار أو مرحلة. ثم أنا الذي لم أركع وأنا في الابتدائية أمام جدار من أجل جدول الضرب وأنا على خطأ. فهل أركع أمام العالم أجمع بعد هذه السنين وأنا على حق«؟
كم يحتاج زمننا للكثير من أمثال الماغوط الذي تمسك قولًا وفعلًا بموقفه الرافض للتتخاذل والاستهانة بالحق ولم ينبطح بحرف أمام الأعداء المتربصين شرًا بالأمة.
وعن هذا الموقف النابض بالكرامة عبّر الشاعر أمل دنقل: »إنّها الحرب!/ قد تثقل القلب/ لكن خلفك عار العرب/ لا تصالح.. / ولا تتوخّ الهرب!«
تتخذ السخريّة شكلا من أشكال التناص عندما تتداخل مع مفاهيم نفسيّة أو دينية أو فكريّة لتشكل منها موضوعًا ونقدًا يلذعُ قوما أو فئة، هي سخريّة غاضبة، فقد يبدو أن دال السخرية » يدل على شيء لكن نعلم من دآل آخر أنه في الواقع يدل على شي آخر«.
في قصيدة »القدس عروس عروبتكم« للشاعر مظفر النواب، وهو شاعر ثائر متمرد قاسى ظلم السجون وعايش حرقة المنافي، وكان شاعرًا ملتزمًا بالقضايا القوميّة والسياسيّة، يوصّف بجرأة سرديّة تهكميّة بالغة ونقد لاذع وتصوير مقذع، تخاذُل الحكّام العرب واستهانتهم وتفريطهم بالقضية الفلسطينيّة، يقول:
» القدس عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل حجرتها/ ووقفتم تسرقون السمع وراء الأبواب/ لصرخات بكارتها/ وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا/ وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض/ فما أشرفكم… لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم/ إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم«

أمة خرجت للناس.. وما عادت
ساهمت السخرية السياسيّة في تمثيل الوضع الراهن في العالم العربي، فأعطتنا صورة واضحة عن القضايا التي تثقل على العربي عيشه، وساهمت في توجيه المطّلع لإدراك الخفايا السياسيّة العربية والعالميّة التي تتحكم بمصيره، تُعد السخريّة آلية من آليات توظيف التناص، فهي تتخذ من حدث اجتماعي أو سياسي موضوعًا تُعلن من خلاله موقفها النقدي الساخر من تداعياته، كما نجد ذلك في مقطع شعري، للشاعر نعيم تلحوق حيث أظهر الشاعر سخريته ونقده اللاذع لأمة العرب:
»أمة خرجت للناس/ وما عادت، / سوى وبأطرافها.. / خيوط الفاجرات عند الضحى.. «.
المقطع يحمل دلالة السخرية من واقع العرب الماجن، المُشرذم، والذي يتلهى بأمور دنياه غافلًا عن الخطاب القرآني الذي يأمرهم بالعمل بالمعروف وينهاهم عن المُنكر، فالعربي متخاذل تجاه قضايا الأمة المصيريّة.
انطلق الشاعر أحمد مطر من تجربة القهر والتعذيب، إلى السخريّة كنمط ثابت في شعره السياسي، ولكنها سخريّة هادفة تمثل قضية الإنسان المظلوم والمحروم من حق المواطنة والمعرّض لكل أشكال الاستعباد وانتهاك الحقوق في وطنه.
تحت عنوان »إصلاح الزراعة«: »قفزة نوعية في الاقتصاد/ أصبحت بلدتنا الأولى/ بتصدير الجراد/ وإنتاج المجاعة«.
السلطة الحاكمة تسحق الشاعر بلامبالاتها فيسحقها هو بسخريته من أساليبها القمعية: »لقد شيعت فاتنة/ تسمى في بلاد العرب تخريبا/ وإرهابا/ وطعنا في القوانين اللإلهية/… اسمها في الأصل الحرية«. فهو يرى أن »السلاطين كلاب/.. «، يمارس الشاعر نقدا سياسيًا اجتماعيًا مُعاشًا.
ومن الشعراء الذي انتقدوا التهاون والقصور العربي في الدفاع عن قضايا الأمة، الشاعر مظفر النواب:
»يا حكاما مهزومين/ ويا جمهورا هزوما/ ما أوسخنا/ ولا أستثني أحد«
يتميّز النواب في شعره الساخر بقدرته على الإضحاك والإبكاء، والتصوير بدقة للدلالة على مواطن الخلل والتمتع بحس الفكاهة، فيسخر النواب من القمم العربية التي تعكس تقاعس وجهل الحكام:
» قمم/ معزى على غنم/ جلالة الكبش/ على سمو نعجة/ على حمار/ بالقدم/ وتبدأ الجلسة/ لا ولن / ولم..«.
الشاعر الساخر ذا عقل واع يرى بعين البصيرة، ينتقد الأنظمة الغاشمة، ويثير مكامن الخلل بقصد الإصلاح، فهو يتناول القضايا بشجاعة.
ينتقد الشاعر نعيم تلحوق، الحكّام المتخاذلين، ويصب عليهم جام غضبه فيتهمهم بالعجز ومحدودية الطموح:
»إني من قرفي / أبصق في وجوهكم/ وأقول من ولد ليحبو/ مهما حاول، لن يمكنه الطيران؟«
تتعالى متكررات السخريّة، وتتلازم مع الضحك في الكثير من المشاهد، تتخذ هذه السخرية دلالاتها من معجم الحال العربي المخزيّ والغيْر مُستَتِب، يوجّه الشاعر المحتقن بالغضب والقهر الإهانات للحكام العرب، ولأصحاب رؤوس الأموال، والشعوب المستسلمة للواقع المتخاذل، وللأنظمة المطبّعة، لجأ الشاعر العربي إلى استخدام أسلوب السخرية والضحك الكرنفالي لينتقد بشاعة هذا العالم وحقارته في التعامل مع الشعوب المغلوبة.

1 ـ (حسين الراوي، مقال: السُخرية… ذُروة الألم، 9/6/2008، الرأي الالكترونية)

العدد 102 –اذار 2020