»لا يأس مع الحياة«

سهير آل إبراهيم

يمتلك بعض الناس القابلية على التعامل بإيجابية مع ما يواجهونه من ظروف سلبية، لهم القدرة على التنقيب على بقعة النور المختبئة بين طيات العتمة، ومن اولئك سيدة التقيتها في أمسية اجتماعية ثقافية حضرتُها مؤخرا.
كانت الفقرة الرئيسية في تلك الأمسية مخصصة للسيدة آن ماري توماس، حيث حدثتنا خلالها نحن الحضور عن رحلتها نحو عالم البحث والكتابة في مجال التاريخ، وخصوصا التاريخ المحلي لهذه المدينة التي نعيش فيها وللمناطق المحيطة والقريبة منها. قالت ان اكثر مادة دراسية كرهتها عندما كانت طالبة هي مادة التاريخ ولم تتخيل يوما انها ستصدر كتبا في ذلك المجال.

اصيبت آن ماري قبل عدة سنوات بحالة مرضية أدت بالنتيجة إلى شلل يدها اليمنى وفقدانها القدرة على الحركة بشكل نهائي. تلك كانت صدمة كبرى بلا شك، لانها تستخدم يدها اليمنى وذلك الحال الجديد كان يشكل صعوبة كبيرة في ممارسة حياتها اليومية وعملها. قالت انها في البداية كانت ترقد في السرير وتشعر انها لا تختلف عن اي نبات اذ ان كليهما كائن حي غير قادر على الحركة.
رغم انها كانت غير قادرة على الحركة كما كانت سابقا، الا ان ذهنها لحسن حظها لم يتضرر، فلم تتوقف عن التفكير في ايجاد سبل تمكنها من العيش كما تحب، ولم يكن خيار العجز والاعتماد الكلي على الاخرين واردًا لديها. كانت آن ماري في تلك الفترة تمضي معظم وقتها بالقراءة، أو تشغل نفسها بتصفح مواقع الكترونية مختلفة، فبدأت تفكر بالقصور القديمة وبقايا الآثار الموجودة في هذه المدينة وفي المدن والقرى المحيطة بها، وصارت لديها الرغبة في البحث عن تاريخ تلك الاثار. قالت انها كانت تبحث في البداية عن ذلك التاريخ لمجرد حب الاستطلاع، ولكنها وجدت الأمر مشوق جدا، وصارت المعلومات التي تعثر عليها تقودها بالتسلسل من مكان إلى آخر، ومن عائلة وسلالة إلى غيرها.
جمعت المعلومات في كتاب، لكنه لم يلق قبولًا لدى دور النشر. قالت انها لم تشعر بالإحباط بل زادها ذلك الرفض عنادا، فقررت ان تطبعه على نفقتها الخاصة، وكانت تلك البداية التي أوصلتها إلى حيث هي الآن. لقي الكتاب الاول اقبالا شديدًا مما شجعها على اعادة طبعه، وفي نفس الوقت على الاستمرار بالبحث والكتابة. صدر لها إلى حد الان خمسة كتب، وتعمل حاليا على كتاب سادس قالت انه في مجال الخيال العلمي، فقد اخذت كفايتها من البحث والكتابة عن تاريخ هذه المدينة.
لا بد من القول ان ماري تدربت على استخدام يدها اليسرى، رغم صعوبة ذلك، الا انها لم تترك أي مجال يتسرب منه اليأس إلى نفسها، فصارت تكتب بيدها اليسرى مثلما تستخدمها لاداء احتياجاتها الاخرى. وقد قامت بتوقيع الكتب التي اشتريناها منها في تلك الأمسية، بيدها اليسرى طبعًا.

ذكرتني آن ماري بشخص آخر في مدينة قريبة، سمعت عنه قبل سنوات قليلة، حيث أصيب بمثل ما اصيبت هي به، وشُلّت يده اليمنى كذلك، والتي كان يستخدمها بشكل رئيسي. رفض ذلك الشخص ان يتدرب على استخدام يده اليسرى رفضا قاطعا، خوفا من الذهاب إلى الآخرة أعسر اليد فيؤتَ كتابه بشماله! الإعاقة إن وجدت فهي تكمن في ذهن الانسان وفكره في احيان كثيرة.

آن ماري سيدة قوية الإرادة، صارعت المرض والإعاقة وتغلبت عليهما ولم تترك نفسها فريسة لليأس بل تكيفت مع وضعها الجديد وذلك كله يحسب لها ويستحق كل الإعجاب الاحترام، لكنها لم تحقق ذلك ولم تصل إلى ما وصلت اليه بمفردها، فهي تعيش في بلد يوفر الكثير من الوسائل لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة على ان يعيشوا كما يعيش غيرهم ممن لا تعيقه تلك الاحتياجات. اعتقد ان الإرادة وحدها لا تكفي للتغلب على المعوقات الكبيرة التي تصادف الانسان في حياته، خصوصا ان كانت تلك المعوقات صحية لا علاج لها.
الحكومات في البلاد التي تحترم الانسان تسمي الإعاقات التي يعاني منها بعض الأفراد احتياجات خاصة، وترصد الأموال والإمكانيات لتوفير ما يسد تلك الاحتياجات لأجل مساعدة الذين يعانون منها على ان يعيشوا حياة مستقلة، كلما أمكن ذلك، فلا يكونوا عبئا على غيرهم ولا يقضوا أعمارهم بالحسرات بسبب عدم تمكنهم من تحقيق ما يودون تحقيقه في هذه الحياة. اما في بلدي العراق فالأمر معكوس تماما، للاسف.

في وادي الرافدين، حيث خُطّ أول حرف في تاريخ الإنسانية، حيث إبتدع عقل الإنسان الذي سكن ذلك الوادي الخصيب الكثير مما ساهم في في خدمة الإنسان ومما لا يزال موجودا ومستخدمًا حتى يومنا هذا رغم مرور ألوف السنين، كالعجلة واستخدام الأقواس في البناء والصفر في الرياضيات والذي يعتبر عنصرًا مهمًا في البرامج التي يعمل وفقها الحاسوب وغيره من الأجهزة الذكية، نجد ولشديد الأسف ان من بأيديهم زمام الأمور يعملون جاهدين على إعاقة الإنسان وحرمانه من أن يعيش الحياة التي يستحقها ويتمناها.
يجد ويجتهد الانسان في الدراسة منذ طفولته، تدفعه احلام وأهداف يسعى لتحقيقها، لكن العراقي يتخرج من الجامعة ليجد نفسه قد وصل إلى نهاية طريق مسدود، يصطدم بجدار منيع من إنعدام فرص العمل فتصبح أحلامه عبئا ثقيلا بعد أن يدرك انها عصية على التحقيق في هذا الوطن الذي يُظلم فيه المجد النزيه ويُحارَب، ويكافأ فيه الفاسد والخائن.

مَن يطالب بحقوقه في وطني تأتيه الإجابة عبر فوهات البنادق. من يرفع ذراعيه حاملًا لافتة تضم بعض مطالبه قد ينتهي به الأمر بذراع واحدة، او بلا ذراع. من يقف ليجعل صوته مسموعًا قد ينتهي به الأمر على كرسي متحرك، ان حالفه الحظ طبعًا وحصل على كرسي يساعده على التنقل. اما من أغتيل من الشباب فقد بقيت احلامه بعده تدور في أحداق محبيه وتنهمر مع دموعهم.

دونت آن ماري في كتبها تاريخ حقبة عاشتها هذه المدينة، تاريخ قصور فيها ضمت بين جدرانها الكثير من الحكايات. يا ترى ماذا يكتب او ماذا سيكتب المراقب لاوضاع العراق في هذا الزمان، هل سيذكر في صحائفه أن أرواحا فتية مرت على هذه الارض وغادرتها بعد برهة من الزمان ليس من الإنصاف من تسمى حياة؟ هل يستطيع أن يحصي ويدون آهات الثكالى وحسرات اليتامى ونزف قلوب الحبيبات؟
يقال أن لا يأس مع الحياة، ولكن ألا يُفترض أن تكون هناك حياة أولا!

العدد 102 –اذار 2020