المرأة تقتحم مواقع الثورة في العراق

الثورات ليست صرخات العبيد، وانما نداءات الأحرار

أمين الغفاري

اشتعلت الثورة في العراق منذ عدة أشهر، ومازال لهيبها يتصاعد، فلم يعد الأمر مجرد احتجاج، أو حتى انتفاضة، ولكنها ثورة قامت لكي تنتصر، وتقتلع جذور الفساد، وتراكم عمليات النهب المنظم، بعد ان تجذر التواطؤ بل والتآمر بين قوى دولية وأخرى أقليمية، وعملائهما المحليين على سلب ارادة الوطن ورهن استقلاله، وامتصاص قدراته، بل وحاولوا سلخه عن هويته القومية ذات يوم مضى.والثورات ليست صرخات العبيد، ولكنها نداءات الأحرار، فصرخات العبيد مكتومة، يبتلعها الهلع، وترتعد خوفا من البوح أوالاعلان، بينما نداءات الأحرار قوية، تمزق الصمت، وتصادر الخوف، وتذهب الى حد الزئير بصيحات الحق.ولم تتخلف المرأة العراقية عن ركب الثورة، بل اعلنت دعمها لمسارها، وانطلقت الى ساحة التحرير في العاصمة العراقية، والى العديد من المحافظات، وحملت السيدات المشاركات في المظاهرات عبر

أنت الثورة.. ونور العلم والحياة
وهم العورة.. وظلام الفكر والخيال

الشهور الماضية الأعلام العراقية، وصورالفتيات اللاتي اغتالتهن الأيادي الآثمة، في محاولة لأرهابهن أو ترويعهن لكي يتراجعن عن موقفهن في تأييد الثورة، ودعم اتجهاتها.لكن محنة العراق كانت أكبر من الخوف، وأشد سعيرا من الارهاب أو الترويع.لذلك كانت المواجهة بكل ابعادها، وكان هذا التدفق الشعبي الذي غصت به الميادين والشوارع، بالملايين من ابناء الشعب، وكانت المرأة تحتل مكانها ومكانتها.

المحنة قاعدة للتجمع والوحده

تعرض العراق لمحنة عاتية من القهر والحرمان، منذ الغزوالعسكري للتحالف الذي قادته امريكا للأراضي العراقية، ولم يكن الأمر مجرد غزولاحتلال قوى أجنبية، وانما كان الأمرأبعد من ذلك وأخطر.كان الأمرمحاولة لتفكيك العراق، وضرب قواه الذاتية وطمس تاريخه، وتدمير تراثه، وتصويره انه مجرد تجمع لطوائف دينية شيعية وسنية، دون هوية تجمع وقاعدة تربط وتفسر العديد من العناصر المشتركة بينهم، مما استدعى تدخل جامعة الدول العربية، مؤكدة الهوية العربية، وان العراق أحد مؤسسي الجامعة.لقد طالت بعد عملية الغزو والتخريب الممنهج في العراق، أركان المجتمع العراقي، وكان أبرز الأنهيارات التي حدثت انهيارالطبقة الوسطى في المجتمع، وقد انهارت مثيلاتها كذلك في دول أخرى، نتيجة لتلك المحن لتلك العاصفة المدمرة لما يعرف بالربيع العربي، والطبقة الوسطى هي عماد وركيزة أي مجتمع نحو التطور والتقدم والأبداع، كما أنها الطبقة الأكثر اتساعا، والأشد ثراء وعطاء في ميادين الفكر والعلم والفن والأدب، ومن ثم التحقت الطبقة الوسطى، بالطبقة الدنيا في هذا الوطن أو ذاك، ليفقد التطور والتقدم بذلك أحد دعائمه، واتسعت بذلك دائرة الحرمان في بلد يعج أساسا بالخيرات، وتصدرت المشهد على المسرح السياسي طبقة أخرى من هؤلاء المنتفعين بعضويات المؤسسات والهيئات والمجالس على تنوعها وتعددها، مما استنزف ميزانيات الدولة وخزينتها، وأصبح المساس بتلك المصالح بمثابة اعلان حرب لايغتفر.ان العراق الذي كانت تعرف أرضه ب(أرض السواد) نظرا لخصوبتها في الزراعة، وعوائدها الوفيرة، أصبحت مهددة بالتصحر، وتدهور الزراعة، وتحولت المزارع الخضراء الى مولات، تنتشر، ومعارض للسيارات تتزايد، ولا تخدم سوى الطبقة الجديدة، بما تقدمه وتعرضه، ولايقوى على الشراء، الا من امتلكوا ناصية المال والنفوذ، في سعار ملحوظ على النهم والاستحواذ، واما الى عشوائيات لايسكنها سوى المهمشين، ومن نهشتهم أنياب العوز والحرمان، وتتزايد تلك العشوائيات، لكي تخزن فيها في نهاية الأمر الممنوعات التي يحجبها القانون، ذلك ان لم تصبح مخازنا للسلاح تستخدم للتهديد والترويع أو في ساعات الحسم في بؤر الصراع على النفوذ أو السلطة.لذلك اندلعت الثورة، واشتعلت نيرانها، وهي في أصولها لم تكن سوى تعبير صادق عن عمق المحنة التي يعانيها الشعب، وبقدر عمق المحنة لدي عامة الناس كان وهج الثورة، وشعاعها المنير، الذي تجمعت على أضوائه جموع الشعب بكل عناصره وأطيافه سعيا للخلاص.

المرأة وقياس حركة التقدم في المجتمع

تتعدد المعايير التي يقاس بها حجم التطورفي حركة المجتمع.هناك قياس يعرف به المجتمع المتقدم بأنه المجتمع الأكثر استخداما للحديد، بمعنى أنه مجتمع ناهض من حيث الصناعة قادرعلى البناء والأنشاء والتعمير، وهناك قياس آخر في التعريف أنه المجتمع الأكثر استهلاكا للشيكولاتة، والمعنى واضح بأنه المجتمع الذي ينعم بالرفاهية في استهلاكه الى حد الترف في المنتجات التي يقدمها لأفراده، حتى وان كانت في مصاف الكماليات، ولكن هناك قياس ربما كان أكثر دقة واحكاما، وهو القياس الذي يدقق في مدى حجم الحقوق التي تتمتع بها المرأة في هذا المجتمع أو ذاك.تلك اشارة للمجتمعات المستنيرة فكريا، والتي تتجذر فيها النظرة الموضوعية الى المرأة باعتبارها النصف الثاني للمجتمع، وهي مع الرجل يمثلان الساقين اللتين يسير بهما المجتمع ويتحرك ويعمل وينتج ويتكاثر ليحقق بذلك مجمل طموحاته في العمران والتقدم والأزدهار.دخلت المرأة العراقية الى حلبة الصراع بين القوى الشعبية التي تتطلع الى التغيير، وبين تلك القوى الأخرى صاحبة المصلحة في الثبات على الوضع الراهن، بما يحققه من مكاسب سواء في المشاركة في السلطة أو في الأمتيازات المالية وكانت حركة الصراع تلك هي البؤرة الحقيقية لأندلاع الثورة، ولهذا كان ذلك السيل الجارف من المشاركة الشعبية، التي تتحصن بالحقوق المشروعة، وترفع راية الارادة الشعبية..الثورات لاتخرج رفاهية ولا تتولد عفويا، وانما تنفجر يأسا وضيقا، وطاقة لم يعد لها أي قدرة عن التغاضي أو الأحتمال.الثورة نوع من الأعتراض فاض به الكيل، ولكنه اعتراض – مع عنف شعاراته – اعتراض شديد النبل، لأن هدفه تصحيح الأوضاع، ومقاصده اعلان مبادئ الحرية والعدل والمساواة بين الشعب الواحد..تحولت الأصوات الناعمة الى أصوات زاعقة، والأوتار الرقيقة الى حناجر صارخة، فالكيل قد طفح، ولم تعد الطاقة لديها قدرات اضافيةعلى المزيد من الأحتمال.

قضية المرأة.. قضيتان

قضية المرأة في العموم أو في المطلق، قضيةعالمية، ففي هذا المجتمع أو ذاك تلمح ظلما تتفاوت درجاته من مجتمع الى آخر لأوضاع المرأة، وافتئاتاعلى حقوقها، نجد في الغرب، وهو المقياس أو النموذج الدارج لصور التقدم، ومعايير النهضة، بمجرد أن تتزوج المرأة، فان اسمها يلحق باسم الزوج، وتتخلى عن اسم الأب والعائلة التي نشأت في احضانها، وتصبح السيدة فلان !. تلك هي المرأة في عالم الغرب، لكن المرأة في عالم الشرق، تحتفظ باسمها كاملا، لايتغير بتغير الحالة الأجتماعية، ولذلك فان مشاكلها من نوع مختلف، المرأة لها مشاكل مختلفة في الشرق، فالشريعة الدينية كفلت حقوقا ومكانه، وصانت لها ما يحفظ لها كرامتها وكبرياءها، ولكن من تصدوا لعمليات التفسير، جاروا على حقوق المرأة وفي المقدمة منها تعدد الزوجات، فهناك نص صريح في القرآن الكريم (ولن تعدلوا) ولكن جرى الألتفاف عليه، وللأسف رغم ان المرأة حصلت على حقوق الترشيح لعضوية المجالس النيابية في أكثر من بلد عربي، فانها فلم تتصد، ولو من خلال نائبة واحدة للدفاع عن حقوق المرأة في مجالات الأحوال الشخصية، على الأقل والتحقن بالقضايا العامة البعيدة عن قضايا الأسرة والمرأة، ولأن المسؤولية انيطت منذ أمد بعيد بالرجل، في سن التشريعات، بمعنى هيمنة المجتمع الذكوري، على الحكم وعلى التشريع فقد تحصن الرجل بقوانين وقواعد تنال من حقوق النصف الآخر وهو المرأة، مع كون المرأة ليست الزوجة فقط، ولكنها الأم والأخت كذلك، ومع أنها تتفوق بالأضافة الى مكانتها المكرمة أجتماعيا، في مجالات العمل والفكر والفن والأبداع. على الساحة العراقية نجد صورة مشرقة لأبداع المرأة حين تتملك الأرادة في أن تصبح أكثر من جزء فاعل في حركة المجتمع، حين تتهيأ لها الفرصة، بل انها سجلت تفوقا كاسحا ومميزا في مجتمعات أكثر تقدما وتطورا، وحصلت على العديد من الأوسمة والألقاب والمثال الصارخ على ذلك المهندسة العراقية النابغة الراحلة (زهاء حديد). فهي علم ينظر اليه بكل التقدير والأعجاب والأكبار، وهي في ماحققته من انجازات في عالم التصميمات والأنشاء تعد مدرسة كاملة في فن وحركة المعمار بأشكاله الهندسية المبهرة.

المرأة وحركة الثورة

الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية على مساحة من أي خريطة، وليس كذلك صفحة في الذاكرة تحكي قصة طفولة ومرتع صبا، وحركة شباب، ولا هو أيضا دائرة من الأقارب والأصدقاء، ومواطنون لهم نفس السمات، وتحكمهم حزمة من العقائد والتقاليد والأعراف لها في النفوس مكانة وتقدير، وفي الفكر مساحة من الاجلال والتعظيم.ولكن الوطن هو كل ذلك ويزيد علية قدر من الاستقرار يوفر الامان للمواطنين، وظل من العدالة يرفرف على الجميع، وحقوق متساوية من الأفراد لا ظلم ولا امتهان فيها، ولا اغتصاب للحقوق ولا اعتداء على المقدسات، ولا استعلاء من طبقة على طبقات، وحين يفتقر الوطن الى كل تلك المقومات لابد أن تلتهب المشاعر، وتتزاحم الأعتراضات، ولايكون هناك من مفر، سوى رفع راية العصيان، فتدق الثورة على الأبواب، ولايتخلف عن ذلك مواطن رجلا كان أو امرأة، فتى أو فتاة، فالوطن ملك للجميع، حقوقهم متساوية وأمانيهم مشروعة.

أنت الثورة وهم العورة

ان كل الأخبار الواردة عن العراق عبر وكالات الأنباء، أو شاشات التلفزيون والقنوات الفضائية تكشف عن هذا الأندفاع المذهل للعراقيين للمشاركة في تلك المظاهرات، وبشكل يتعذر وصفه، هناك الكثير من الشباب قد جاءوا إلى تلك المظاهرات وأخفوا خبر مشاركتهم عن عائلاتهم، كي لا يثيروا قلقهم لكنهم اكتشفوا أن أفراد العائلة قد سبقوهم إلى ساحات التظاهر، وتروي احدى المشاركات أن صديقتها التي أعدت  »سندويتشات« لتوزيعها على المتظاهرين واتصلت بها كي تأتي معي لتوزيعها في الساحة مخفية الأمر عن أمها وقائلة لها إنها ستذهب إلى صديقتها، لكنها اكتشفت عندما وصلنا إلى الساحة أن أمها نفسها قد سبقتها إلى هناك، وكذلك أخيها الذي كان قد أخبر أمه أنه ذاهب للعب كرة قدم مع أصدقائه.وكانت تلك الأم البسيطة تحمل أدعية وتوزعها علي الشباب كي تحفظهم من الأذى وهم في ساحة التظاهر.وتروي أخرى أنها شاهدت أمرأة كانت تقوم بتوزيع الطعام على المتظاهرين، وقد جاءت دون علم زوجها، لتكتشف أنه في الصفوف الأمامية للمتظاهرين، والتقيا قرب احد الجسور،

فتيات العراق في انتفاضة ساحقة..من أجل العراق رجالا ونساء

على الرغم من أنه المكان الأخطر بالنسبة للمتظاهرين، إذ يمثل من يقفون هناك الساتر الأول والطليعة لهذا الزخم من المتظاهرين الذين كلما تقدموا، أبعدوا القوات الأمنية عنهم ومدى القنابل المسيلة للدموع عن ساحة التحرير. لذا يتحدى المتظاهرون القوات الأمنية (ويسمونها قوات مكافحة الشعب وليس مكافحة الشغب) ويحاولون دفعها إلى الخلف إلى منتصف الجسر مثلا. وقصص كثيرة يمكن أن تروى لهذه الأحداث العظيمة، بما فيها من انكار للذات، والعلو لمكانة الوطن، والمواطن.

ان الشباب دائما هم وقود الثورات، فهم الجيل الذي يرنو الى المستقبل، يتطلع الى الغد في التعليم، وفي العمل، وللآمال العريضة التي يصوغونها لأنفسهم. دخل الشباب الفتيان والفتيات الى حلبة الثورة، منددين بالأوضاع الجائرة، فما كان من أصحاب المصالح، ومن القوى المناوئة لحركة التغيير، والعبور بالوطن من المحنة التي تمتد الى مايقارب عقدين الزمن، الا أن رفعت راية التخلف أمامهم بدعواها للفتيات أنتن عورة، لها ان تحتجب وتنكفء على ذاتها، فظهورهن عورة، وأصواتهن عورة، وعليهن أن تستسلمن، وتقبعن وراء هذه الأستار من الأفكار المظلمة، التي لاتتفق وصحيح الدين، كما أنها لاتتفق مع سنن الحياة، ومع ضرورة بل وحتمية المشاركة في تحمل تبعات الأنتقال بالوطن من المحنة الى البناء والتعمير.تصدت الفتاة العراقية الى هذا المنطق المتخلف، وخرجت تحمل الراية (أنت الثورة وهم العورة)، ورايات أخرى تعلي من المفاهيم، وتسمو بها فكانت (لاتعلمونا شفاء الجسد فقط، ولكن علمونا شفاء الوطن)، و(أين حقي)، و(ثورة نسائية.. ثورة سلميه)، و(بالروح والدم نفديك ياعراق).. كما طالبت هتافات أخرى بتحقيق مطالب المتظاهرين وإعادة بناء العملية السياسية وتشكيل حكومة تمهد لانتخابات مبكرة. ان الثورات لاتحرر الأوطان فحسب، ولكنها تعيد تشكيل الأنسان أو المواطن، فهي تحفزه على المواجهة، وتصلب عوده أمام الأنكسار، وتحرر وجدانه من الخوف، كما أنها ترد الحقوق المسلوبة، وتصحح الأوضاع المقلوبة، وتعدل الموازين المختلة.

العراق ينتفض، وانتفاضته عارمة، وحين ينجز بتلك الانتفاضة ما يحقق تطلعاته، تكون الثورة قد انتصرت، ولك لابد من التأكيد على ان الثورات لاتفشل، حتى وان انتكست، فسوف تظل كامنة لكي تنفجر من جديد بصورة أكثر وهجا واشتعالا، لكي تحقق ماتعثرت في تحقيقه سابقا.الثورة قبس من النور يكمن في داخل الانسان بحثا عن الحق والعدل والمساواة، ويحركة على الدوام مادامت الأنفاس تتردد، ونبضات الحياة تتدفق وتعزف في اعلان صريح عن استمرار الحياة.

العدد 103 – نيسان 2020