موسكو تمهد طريق التسوية، أنقرة تعاند، والغرب يستيقظ من جديد

سوريا.. بيادق واشنطن!

محمد قواص (*)

عادت سوريا لتكون الشغل الشاغل للعالم. بدا أن البلد قد تُرك لـ  »أستانا« و »سوتشي« واللاعبين داخلهما، فصمّ الأوروبيون آذانهم وأغمض الأميركيون عيونهم تاركين للرئيس الروسي فلاديمير أن يخطط ويرسم ويفتك ويفاوض ويساوم ويناور ما شاء له ذلك، دون أي اعتراض. لم يعد الأمر كذلك، يدرك بوتين نفسه ذلك، على النحو الذي يجبره على إعادة التموضع وفق ما داهم خرائطه في الأسابيع المنصرمة.

موسكو-أنقرة: تجنب الصدام

ينقل مراقبون عن مسؤولين روس أن موسكو لا تخطط لصدام عسكري مع تركيا في سوريا، إلا أن القيادة العسكرية الروسية لم تعد تستبعد الأمر، خصوصا أن أجندات الطرفين باتت متنافرة ومتناقضة وأن تركيا تسعى للذهاب إلى حدود قصوى فد تمس خطوطا حمر لن توافق روسيا على اختراقها.

ويؤكد مراقبون أن التواصل الذي جرى بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان لم يستطع وضع ضوابط للتصعيد الحاصل في إدلب، خصوصا أن هذا التواصل السياسي سبقه تصادم بالنار أدى إلى مقتل أكثر من 30 جنديا تركيا في غارات شنتها طائرات النظام السوري ورد تركي واسع قالت أنقرة أنه أدى إلى تحييد مئات من جنود قوات نظام دمشق وأفراد من الميليشيات الإيرانية الداعمة.

التصعيد العسكري أيقظ العالم على الصفقة المحتملة

ويرى محللون في تركيا أن الرئيسين الروسي وتركي اللذين توصلا إلى إتفاق لوقف إطلاق النار في قمتهما الشهر الماضي، لم ينجحا قبل ذلك في وقف المواجهات لكن تواصلهما أشاع أجواء لدى البلدين بالحرص على عدم وصول الأمر إلى تصادم عسكري روسي تركي مباشر.

وأثناء احتدام المعارك حول إدلب تساءلت دوائر دبلوماسية حول معاني ما صدر بعد تواصل الرئيسين من أنه  »تم التأكيد على أهمية رفع كفاءة قنوات التنسيق بين وزارتي الدفاع في روسيا وتركيا«، كما في التأكيد  »على ضرورة اعتماد تدابير إضافية لتطبيع الوضع في شمال غرب سوريا (…) والاتفاق على تكثيف المشاورات واستكشاف إمكانية عقد اجتماع رفيع المستوى في المستقبل القريب«.

وتقول مصادر دبلوماسية مراقبة إن التململ الذي كشفته تسجيلات فيديو لعناصر من حزب الله حول  »خذلان« روسيا لهم في جبهات إدلب، قد يكشف عن اتفاق ما جرى بين بوتين وأردوغان يحدد خرائط الحركة العسكرية التركية التي يمكن للروس التغاضي عنها، وأن حديث أردوغان العلني عن أنه طلب من بوتين عدم اعتراض قواته في إدلب يمكن أن يكون دليلا آخر على وجود مثل هذه التفاهمات.

وكانت موسكو قد سعت إلى تبرئة نفسها من مسألة سقوط عشرات الجنود الأتراك قتلى في بيان أكدت فيه أنها  »لم تكن على علم بوجود جنود أتراك داخل الوحدات القتالية للجماعات الإرهابية التي استهدفها قصف حيش النظام السوري لها في في 27 شباط/فبراير بالقرب من بلدة بهون«. إلا أن المراقبين يرون أن البيان لا يقنع الأتراك، وأن روسيا تملك معلومات دقيقة حول تحرك الجيش التركي وتواجد مواقعه، حتى لو لم تكن هذه المعلومات مصدرها تركي. وتساءل هؤلاء عما إذا كانت تلك الضربات الموجعة للجيش التركي كانت مقصودة بغرض جر الأتراك إلى الانغماس أكثر في الحرب على النحو الذي شهدته إدلب في الأيام الأخيرة.

معركة من أجل الاتفاق

ويرى خبراء عسكريون أن تركيا وروسيا يديران المعركة على قاعدة أنهما ذاهبان إلى اتفاق جديد في وقت ما، وأن لديهما مصلحة في تحسين شروط كل طرف في هذا الاتفاق حتى لو جاء على حساب حلفائهما.

ويعتبر هؤلاء أن استهداف مواقع ووحدات الميليشيات الإيرانية من قبل المسيرات التركية قد لا يكون خبرا سيئا بالنسبة لبوتين، كما أن تكبد قوات النظام خسائر محددة قد تمثل إشارة لنظام دمشق كما لطهران حول قواعد الممكن والمقبول التي تضعها موسكو والتي يمكن أن تنسحب على مستقبل العملية السياسية التي تسهر موسكو على إنتاجها في سوريا.

ويجري التحرك العسكري التركي في شمال سوريا متواكبا مع عبور سفينتين حربيتين روسيتين مسلحتين بصواريخ كروز من سيباستبول (القرم) عبر مضيق البوسفور في اسطنبول إلى مياه البحر المتوسط، على نحو يؤكد على الحرص على عدم تركيا بالحركة العسكرية الروسية حتى لو أنها يفترض أن تشكل تهديدا لأنشطتها العسكرية في سوريا.

وتراقب موسكو باهتمام المواقف الصادرة عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الداعمة للموقف التركي، كما تراقب أيضا ما يمكن أن تقرره واشنطن بشأن طلب تقدمت به أنقرة لتزويد تركيا بمنظومة باتريوت الأميركية للدفاع الجوي.

وكان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ قد دعا  »روسيا والنظام السوري إلى وقف الهجمات، ووقف الهجمات الجوية العشوائية (…) كما ندعو روسيا وسوريا إلى الاحترام الكامل للقانون الدولي«. وعلى الرغم من ارتياح موسكو إلى عدم وجود دعم أطلسي عسكري مباشر لتركيا، إلا أن بعض المعلومات تحدثت عن أن دقة الإصابات التي حققتها المسيرات التركية ضد أهداف تابعة لنظام دمشق وميليشيات إيران قد تعود إلى معلومات وإحداثيات سلمتها واشنطن لأنقرة، وأن موسكو تخشى أن توفر واشنطن لأنقرة أو حتى لفصائل المعارضة معلومات عن مواقع وتحركات روسيا في مناطق القتال مستقبلا.

ويقول محللون روس إن موسكو قد لا يزعجها قيام تركيا بالضغط على الأوروبيين في مسألة السماح للاجئين السوريين بالعبور نحو اليونان وبلغاريا، وأن موسكو قد ترى في الأمر استدراجا للاتحاد الأوروبي للموافقة على عقد صفقة مع روسيا لدعم العملية السياسية التي تخطط لها والاستجابة لمطالب موسكو في تمويل إعادة الأعمار.

ويضيف هؤلاء أن موسكو مستفيدة أيضا من استهداف القصف التركي للميليشيات الإيرانية في شمال البلد بقدر استفادتها من عمليات القصف المتكررة الصاروخية والجوية التي تقوم بها إسرائيل ضد مواقع إيران وميليشياتها حول دمشق وجنوب البلاد.

ويخلص هؤلاء إلى أن روسيا ما زالت تمسك بزمام الأمور، وأن الحركة العسكرية التركية تأخذ أمر ذلك بعين الاعتبار، وهو ما تحرص القيادة التركية على تأكيده من أنها لا تريد صداما تركيا روسيا وأن قنوات التواصل بين موسكو وأنقرة ما زالت ناشطة وأن فود البلدين تتبادل الزيارات والتشاور والتنسيق.

ويؤكد العقيد الروسي المتقاعد فيكتور موراكوفسكي، رئيس تحرير مجلة أرسنال أوتيتشستفا العسكرية (الترسانة الوطنية) أن هذه الحرب  »ليست ضد تركيا، بل تضع علامات جديدة للخطوط الحمر وقواعد جديدة للاشتباك«. ويلفت إلى أن روسيا ضمنت  »منع الاشتباكات بين الجيشين الروسي والتركي. وضمنت حرية الحركة للقوات الجوية الروسية ضد الجماعات الإرهابية في إدلب. وضمنت منطقة حظر الطيران للقوات الجوية التركية في سماء سوريا. وضمنت تنسيق حركة ونشر الوحدات التركية في المناطق السورية مع القيادة العسكرية الروسية. وضمنت تسيير دوريات مشتركة على الطرق المتفق عليها. وضمنت فرض حظر على نقل منظومات الدفاع الجوي المحمولة إلى جهات فاعلة من غير الدول«.

وتقول مصادر روسية مطلعة إن ورود معلومات عن وجود صواريخ أرض جو محمولة على الكتف في أرض المعركة يحملها عناصر من فصائل المعارضة السورية أغضب موسكو وأدى إلى إباحتها إثر ذلك شن هجمات مكثفة ضد مواقع تعرف أن الأتراك يتواجدون بها ما قتل 34 جنديا. وتضيف المعلومات أن تواصل بوتين أردوغان أعاد تصويب قواعد الاشتباك مقابل غض طرف روسي عن إنجازات يحتاج أردوغان إلى تحقيقها أمام الرأي العام التركي الداخلي.

أميركا تستفيق

بمناسبة المعارك في شمال البلاد أعاد الأميركيون اكتشاف سوريا. خفق قلبهم من جديد لكارثة إنسانية قديمة فراحوا يبالغون في إبداء الحنان وأوفدوا سفيرتهم لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، لتفقد ظروف المساعدات الإنسانية الأممية المقررة لإدلب في تركيا. ولزيارة تلك الشخصية بما تمثله وظيفتها داخل الأمم المتحدة، إشارة أميركية واضحة الملامح يشي بعودة الولايات للعب دور مباشر (من البوابة الإنسانية وما يليها) في سوريا.

لم يأبه الأميركيون قبل خمس سنوات حين أسقط الأتراك مقاتلة روسية، وأوعزوا للحلف الأطلسي أن يدير ظهره، بحيث بدا أردوغان معزولا عن تاريخ بلاده الأطلسي، متجردا من أوراق القوة في معالجة الأمر مع نظيره في الكرملن. فجأة أعادوا، أيضا، اكتشاف تركيا، وصدعوا رؤوسنا، تصريحا وراء تصريح وموقفا وراء آخر، في التعبير عن دعم أنقرة وتأييد سلوكها في سوريا.

أوروبا أيضا استيقظت مرتين على الشأن السوري.

مرة حين راحت عواصمها، ولأسباب تتعلق بتوجس الاتحاد الأوروبي من حقد بوتين عليه ونزوعه منذ الحدث الأوكراني على اختراق محرمات أمنه الاستراتيجي، تصدر مواقف الإدانة ضد ما ترتكبه روسيا من انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا، مستنكرة بالمناسبة الهجمات التي تقوم بها قوات نظام دمشق في شمال سوريا.

ومرة حين أعاد أردوغان فتح بوابات بلاده أمام عبور آلاف اللاجئين السوريين باتجاه اليونان وبلغاريا، أي باتجاه أوروبا موقظا أوروبا على كابوس اللجوء الذي ما زالت تعانيه.

لم يخرج الموقف الأميركي صدفة. جاء رد الفعل الغربي اللافت فوريا على فعل روسي مباغت. أرادت موسكو حسم مسألة إدلب عسكريا. منحت النظام السوري والميليشيات التابعة لإيران الضوء الأخضر لإنهاء الحالات المتبقية في أرياف حلب كما في محافظة إدلب، على نحو يضع تركيا تحت أمر واقع جديد.

استندت موسكو على ما حققته من علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية مع أنقرة، على نحو بدت معه تركيا مغادرة لحلفها الغربي مستغنية عن التسليح الأميركي (باتريوت) لصالح الروسي (أس 400)، فيما بدا أن  »السيل التركي« الذي يجر الغاز الروسي نحو أوروبا بات ضامنا لولاء أردوغان وصحبة لبوتين وصحبه.

بوتين وأردوغان: اتفاق الضرورة

والواضح أن حسابات بوتين لم تكن خاطئة وأن ما جرى بعد ذلك مرده إلى انقلاب حقيقي في حسابات العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة. حتى أردوغان نفسه بدا متفاجئا من هذا التطور الذي طرأ على موقف واشنطن. تواصل الرئيس دونالد ترامب معه مكررا الدعم والود والغضب من سلوك موسكو. خرج وزير الخارجية مايك بومبيو ليقول كلاما حاسما حازما:  »نقف مع تركيا وندعم جهودها في سوريا«. وراح المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري إلى توجيه إنذار إلى موسكو من بوابة أنقرة من أن الهجوم الروسي في حلب وإدلب يمثل  »تحديا لوجود الولايات المتحدة في المنطقة«.

واشنطن تدعم أنقرة

ليس دقيقا أن المواقف الأميركية كانت شكلية. اعتمد أردوغان على هذه المواقف بالذات للذهاب بعيدا في حملته العسكرية، واعتمد على ما ترسله واشنطن من معطيات إلى موسكو تُفهم روسيا ورئيسها الطبيعة الحقيقية للتهديدات الأميركية. وفيما يدور جدل حول جدية وسائل الدعم الأميركية الأطلسية (لا سيما مع اللغط المتعلق بمنظومة باتريوت) التي لا تظهر للعيان، بدا أن دقة التصويب على الأهداف التي أطاحت بها مسيرات تركيا تنهل معلوماتها من معطيات استخباراتية أميركية أطلسية متقدمة.

فهم بوتين هذا التحول جيدا. فهم أن واشنطن وحلفاءها لا يتحركون دفاعا عن أردوغان الذي لا تسرهم خياراته ولن يغفروا له ابتزازهم من روسيا، بل لأسباب أخرى تتعلق بمستقبل سوريا ومصالحهم في المنطقة.

فهم أن الغرب أدرك أنه إذا ما باتت روسيا مستعجلة لحسم الوضع عسكريا في سوريا، وبالتالي فرض أمر الواقع الروسي في سوريا على العالم أجمع، فإن واشنطن التي حشرت بضعة مئات من جنودها شرق الفرات لمآرب لا تتعلق بالإرهاب او حتى مزاعم حماية آبار النفط، لن تسمح بتسوية روسية في سوريا لا تأخذ بعين الاعتبار ما تخطط له الولايات المتحدة في المنطقة.

التقط الرئيس الروسي الإشارة الأميركية جيدا، ربما أكثر من الأتراك أنفسهم. أعاد الاعتراف بمصالح تركيا شريكا في مستقبل إدلب، وبالتالي يجوز لها أن ترسم بالنار خرائط هذه الشراكة. واضطر إلى رفع مستويات التنسيق بين موسكو وأنقرة إلى مستوى القمة بين الرئيسين، لعل في ذلك ما يبعد ظلال شريك أميركي قد يكون ثقيلا عليه في سوريا. وعلى الرغم من أن شهر تركيا لسلاح اللاجئين ضد الاتحاد الأوروبي الذي يمقته، إلا أن بوتين يخشى، مع ذلك، أن يستدرج هذا الاستفزاز أوروبا للانخراط مباشرة في الشأن السوري بصفته شأنا بات يشكل خطرا مباشرا على أمن أوروبا واستقرار بلدانها.

حدود الموقف الأميركي

تساءل مراقبون في الولايات المتحدة عن مغزى الإشارات التي ترسلها الإدارة الأميركية إلى أطراف الصراع في سوريا بعد إعلان وزير الدفاع عدم وجود خطط أميركية لإعادة الانخراط العسكري داخل هذا البلد.

واعتبر هؤلاء أن من شأن ما يشيعه البنتاغون من عدم اهتمام بأي أنشطة عسكرية مقبلة الترويج لأجواء قد تفهم على نحو خطير من قبل تركيا وروسيا وإيران كما من قبل النظام السوري المتورطين بشكل مباشر بالحرب المندلعة في سوريا، خصوصا في شمال البلاد على تخوم محافظة إدلب.

ولفتت مصادر أميركية قريبة من وزارة الدفاع الأميركية أن المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة ما زالت تدرس خياراتها المقبلة في المنطقة على ضوء ما تعرضت وما تتعرض له السفارة الأميركية في بغداد، وعلى ضوء تواصل إطلاق الصواريخ باتجاه القواعد العسكرية التي تتواجد داخلها القوات الأميركية في العراق.

دونالد ترامب: تحول الموقف الأميركي لصالح أنقرة

وأضافت المصادر أن أي تطور في المهمات الأميركية في سوريا يأخذ المشهد برمته بعين الاعتبار، من ضمن استراتيجية شاملة للدفاع عن مصالح واشنطن في المنطقة ومنع عودة تنظيم داعش، كما التصدي للخطر الإيراني في المنطقة، ومواجه تجاوز روسيا للحدود التي تهدد  »الحضور الأميركي« في الشرق الأوسط، وفق تعبير المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري.

لا انخراط عسكري أميركي

وكان وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر قد أبلغ الكونغرس بأن إدارة الرئيس دونالد ترامب لا تفكر في إعادة الانخراط عسكريا في الحرب الدائرة حاليا في سوريا. ويأتي تصريح الوزير الأميركي متناقضا مع المواقف التي أطلقها ترامب ضد الهجمات التي تقوم بها قوات النظام السوري بدعم من سوريا ضد مناطق بالقرب من حلب وإدلب تسببت بعمليات نزوح جماعي مقلقة (تقول الأرقام أن الأعداد وصلت إلى أكثر من مليون شخص). وتوحي تصريحات إسبر للمهتمين بشؤون سوريا أن المواقف الأميركية ستبقى نظرية لا تتجاوز حدود التصريحات في شأن طبيعة التموضع الأميركي في أزمة سوريا العسكرية والإنسانية الراهنة.

وترى مصادر دبلوماسية أن الالتباس المرتبط بموقف وزير الدفاع يزيد من نسبة الغموض في استراتيجية الولايات المتحدة بشأن ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من دعم لتركيا في حملتها الحالية في سوريا.

وتضيف المصادر أنه لم يصدر حتى الآن عن البنتاغون ما يفيد بأن واشنطن تخطط لتقديم الدعم لتركيا على الرغم من تلميح المبعوث جيفري بذلك بعد زيارة قام بها إلى أنقرة اجتمع خلالها مع المسؤولين الأتراك.

وكان إسبر قد أشرف على انسحاب القوات الأميركية من شمال سوريا استجابة لقرار ترامب في هذا الشأن. وقد جرت عملية الانسحاب بعد اتصال هاتفي جرى بين الرئيس الأميركي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في كانون الأول/ديسمبر 2018، ما أتاح لاحقا توغل القوات التركية إلى الأراضي السورية، وخصوصا إلى داخل المناطق التي كان الأكراد المنضوين داخل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ووحدات حماية الشعب يسيطرون عليها. وأبقت واشنطن قوات لها في مناطق انتاج النفط في شرق الفرات.

وقال إسبر لأعضاء الكونغرس إن المهمة الأميركية المحدودة التي تضم 600 جندي لا تزال تركز عملياتها على هزيمة فلول تنظيم داعش وتعمل على عدم عودته. وأضاف الوزير خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، الأربعاء أنه  »لم يكن هناك نقاش حول إعادة الانخراط في الحرب الأهلية«، مؤكدا أنه  »في هذه المرحلة لا أرى أي احتمال بأننا سنعود على طول الحدود«.

ورأى إسبر أنه  »من الواضح أن الوضع أصبح أكثر تعقيدًا في محافظة إدلب في الوقت الحالي نظرًا لاجتماع العديد من الجهات الفاعلة«. إلا أن مراقبين استنتجوا أن دوائر الإدارة الأميركية لم تتوصل إلى قرار نهائي بشأن الدعم الممكن أن تقدمه إلى تركيا لدعم موقف أنقرة حيال موسكو داخل سوريا.

أزمة الباتريوت

وكانت تركيا قد تقدمت بطلب للولايات المتحدة لتسليحها بنظام باتريوت الصاروخي للدفاع الجوي لحماية قواتها داخل سوريا من الغارات الجوية التي تشنها مقاتلات

هل تفرج واشنطن عن صواريخ باتريوت لتركيا؟

سورية وروسية على المواقع والأرتال التركية في شمال سوريا.

وما زال الجدل يدور في الولايات المتحدة حول مسألة تزويد تركيا بالباتريوت، وهي منظومة سبق لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن رفضت بيعها لأنقرة، لا سيما أن لجوء تركيا إلى الاستعانة بمنظومة أس 400 الروسية المنافسة أثار غضبا في واشنطن وأدى إلى اتخاذ قرار بطرد تركيا من برنامج انتاج مقاتلة أف 35 الأميركية.

وقد نشر البنتاغون ثلاثة أنظمة باتريوت داخل المملكة العربية السعودية إثر اتهام إدارة ترامب لإيران بأنها استهدفت منشآت أرامكو النفطية في هجوم صاروخي في أيلول/سبتمبر الماضي. ويدرس مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية إمكانية نشر صواريخ باتريوت في العراق بعد أن أدى هجوم صاروخي باليستي إيراني في يناير الماضي (ردا على مقتل الجنرال قاسم سليماني) إلى إصابة 112 جنديًا أمريكيًا بارتجاجات خفيفة في الدماغ.

وفي وقت سابق، أعلن البنتاغون عن طلب بقيمة 200 مليون دولار للعام المقبل لدعم مقاتلي المعارضة السوريين في مواجهة داعش، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وتقل هذه الميزانية بـ 100 مليون دولار عن تلك التي اعتمدت العام الماضي.

وتقول بعض المصادر الدبلوماسية إن ما يصدر عن البنتاغون يؤكد للطرف الروسي أن واشنطن ما زالت متمسكة بنهج عدم ممارسة ضغوط على روسيا على نحو يرفع من مستوى تشدد موسكو حيال أنقرة، بالمقابل لا يمكن لتركيا حتى الآن الركون إلى موقف أميركي جدي بإمكانه أن يقلب موازين القوى في تركيا على النحو الذي أوحت به تصريحات المسؤولين الأميركيين في الأسابيع الأخيرة.

أردوغان الحائر

يستنتج المراقبون من الزيارة التي قام بها الرئيس التركي إلى بروكسل الشهر الماضي أن الرجل، وبعد القمة التي عقدها مع نظيره الروسي، أراد إعادة خطب ود المنظومة الغربية، من خلال التماس مع الحلف الأطلسي والإتحاد الأوروبي. أعاد أردوغان التذكير بأن تركيا بلد أطلسي وراح يعد بتطوير علاقات بلاده مع أوروبا. والظاهر أنه لم يكن مرتاحا للاتفاق الذي عقده مع بوتين.

فالاتفاق لا يمثل انتصارا لأردوغان. يعلم الرجل أن حربه السورية لا تحظى باحتضان داخلي، وأن حلفاءه المزعومين غربا لا يحبونه وأن حليفه المزعوم في روسيا لا يثق به. يعلم أيضا أن ضريبة الجغرافيا التي يمثلها موقع تركيا على الحدود مع سوريا هي رقم صعب لا تستطيع روسيا وأوروبا والولايات المتحدة وحتى إيران إلا أخذها في الحسبان، وأن قوة هذا الرقم تأتي من تنافر مصالح روسيا والغرب في العالم ومن تنامي التوجس، في واشنطن خصوصا، من صعود روسي لم بعد مقبولا وبات يمس حدودا محرمة.

يلعب أردوغان مع بوتين داخل هذه اللحظة الزمنية التي قد لا تتيح له هامشا للمناورة في لحظات قادمة. سيكون على روسيا والولايات المتحدة أن تعيد تحديد نقاط التوازن من جديد وترسيم حدود الممكن والمستحيل بينهما، بما سيضيق حتما من خيارات أردوغان لاحقا.

حين اتفق الرئيس الروسي مع نظيره الأميركي باراك أوباما عام 2015 على رعاية الجراحات التي سيقوم بها بوتين وجيشه في سوريا، كان ذلك بناء على نجاح موسكو قبلها في  »تنفيذ« رغبة واشنطن في تجريد نظام دمشق من ترسانته الكيماوية. غير أن تنامي النفوذ الإيراني في سوريا في مواسم العهد الروسي في سوريا في السنوات

أزمة اللاجئين: سلاح المأساة في يد اللاعبين الكبار

الأخيرة، قلل من ثقة واشنطن بقدرة موسكو على  »تنفيذ« خطط الولايات المتحدة، خصوصا أن قوى إيران وميليشياتها باتت من أدوات روسيا ومواردها للاستئثار بالمجال الاستراتيجي في سوريا.

أعادت واشنطن تحريك  »بيدقها« التركي على رقعة الشطرنج. أدرك بوتين ذلك. تواصل الرئيس الإيراني حسن روحاني مع نظيره التركي. لم يصدر عن طهران موقف مدين لتركيا، وأوفد حزب الله مدير عام الأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم للتفاوض مع نظيره التركي لوقف التدهور في العلاقات مع أنقرة. بات سكان  »أستانة« محاصرين بعبق أميركي مقلق وخبيث.

وظف الأميركيون الروس في لحظة لتدبير شأن سوريا في وقت أعرضوا فيه عن أي تدخل. ويوظف الأميركيون الأتراك في لحظة جديدة لتدبير شأن سوريا في وقت عادت فيه سوريا لتكون شأنا ملحا داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية الأميركية كما داخل العواصم الأوروبية جميعها.

لم يأبه الأميركيون قبل خمس سنوات حين أسقط الأتراك مقاتلة روسية، وأوعزوا للحلف الأطلسي أن يدير ظهره، بحيث بدا أردوغان معزولا عن تاريخ بلاده الأطلسي، متجردا من أوراق القوة في معالجة الأمر مع نظيره في الكرملن. فجأة أعادوا، أيضا، اكتشاف تركيا، وصدعوا رؤوسنا، تصريحا وراء تصريح وموقفا وراء آخر، في التعبير عن دعم أنقرة وتأييد سلوكها في سوريا.

لم يخرج الموقف الأميركي صدفة. جاء رد الفعل الغربي اللافت فوريا على فعل روسي مباغت. أرادت موسكو حسم مسألة إدلب عسكريا. منحت النظام السوري والميليشيات التابعة لإيران الضوء الأخضر لإنهاء الحالات المتبقية في أرياف حلب كما في محافظة إدلب، على نحو يضع تركيا تحت أمر واقع جديد.

استندت موسكو على ما حققته من علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية مع أنقرة، على نحو بدت معه تركيا مغادرة لحلفها الغربي مستغنية عن التسليح الأميركي (باتريوت) لصالح الروسي (أس 400)، فيما بدا أن  »السيل التركي« الذي يجر الغاز الروسي نحو أوروبا بات ضامنا لولاء أردوغان وصحبة لبوتين وصحبه.

والواضح أن حسابات بوتين لم تكن خاطئة.

التقط الرئيس الروسي الإشارة الأميركية جيدا، ربما أكثر من الأتراك أنفسهم. أعاد الاعتراف بمصالح تركيا شريكا في مستقبل إدلب، وبالتالي يجوز لها أن ترسم بالنار خرائط هذه الشراكة. واضطر إلى رفع مستويات التنسيق بين موسكو وأنقرة إلى مستوى القمة بين الرئيسين، لعل في ذلك ما يبعد ظلال شريك أميركي قد يكون ثقيلا عليه في سوريا. وعلى الرغم من أن شهر تركيا لسلاح اللاجئين ضد الاتحاد الأوروبي الذي يمقته، إلا أن بوتين يخشى، مع ذلك، أن يستدرج هذا الاستفزاز أوروبا للانخراط مباشرة في الشأن السوري بصفته شأنا بات يشكل خطرا مباشرا على أمن أوروبا واستقرار بلدانها.

العدد 103 – نيسان 2020

(*) كاتب سياسي لبناني