أذكر، أن أبي خاف عليَّ من السقوط في الفراغ، حين لقَّم سلاحه المعطوب، وأطلق رصاصة خلَّبية من »سيمينوفه« القديم باتجاه شجر اللوز… مرفقاً الطلقة بنظرة خائفة من الوقوع في فخّ العصافير، الذي كان منصوباً فوق سطح البيت المحاذي لبستاننا القديم…
كل أفكاره كانت تُجمع أنه يخبِّئ أسراره عنّي، كأني الوحيد بين أبنائه الذي لا يتحدث عنه إلاّ في الغياب… مرّة صفعني على خدَّي في التاسعة من عمري، فذابت طراوة الخدّ مع دموع حبستها عنه أسبوعاً كاملاً… لم أكن أرغب في معرفة لماذا صفعني تلك الصفعة… لكني احتجتُ عمراً كثيراً بعدها وأنا أبكي لأنه لم يصفعني سوى صفعة واحدة قبل أن تلدني الحياة، مرّة تلوى أخرى…
ليس بين الأب وابنه علاقة وصاية، هكذا شاء أن يوهمني، لأن الحياة صفعات مؤكَّدة دون استنتاجٍ حقيقي بأنك تمارس حرّيتك، وتثبت كيانك، وتؤلف شخصيتك…
الصداقة غلاف طاعن في السّن، ترمي جوفها داخل المبنى لتؤسس معناها… ربما، لم أكن على اطلاع بحقيقة الصوت الذي دخلني وأنا أمارس غواياتي الصغيرة وأحلامي التي لا يدركها متسع لتتحقق، كان أبي يؤلف حسابه معي من ضمن تجارب عاشها وساقها الى جدول التداعيات.. فعرفت بعدها أن خساراته الكثيرة في الحياة جعلته ينظر الى الأشياء نظرة كائنٍ فضائي لا رغبة لديه في السقوط.. فأثمرها بي دون أن اعلم فائدة أن يكون الانسان عاقاً ليستولد معناه… كان يريدني في شكلٍ طبيعي، لكن على خلاف ما كان هو عليه جوهراً… فراح يبحث عن إعاقةٍ تجعلني أكثر فهماً لما سيأتي ويحرّضني على مواجهة المجهول لا المعلوم، وأنا في سن التاسعة لمّا أزل، لم أكن أدرك أن الحياة تصنعها الإعاقة لا السلامة…
ومنذ ذلك الوقت وأنا أتعلّم فنّ الإعاقة بالطرق السلمية التي شاءتها يد أبي وأصابعه الخمسة… لم يتوفر لي الوقت حين ذاك لأعيد ترتيب الصفعات التي يفترض أني أشتريها مقابل عمري وتعبي وشقاوتي التي تنازلتُ عنها لمصلحة فخ العصافير الذي يسكن البيت… حاولت أن أبيع كل حماقاتي ببندقية أبي الخلّبية التي لم أستطع دونها أن أفهم كيف يزهر اللوز على راحة الوقت ليستفيد من سؤال اللحظة للزهرة، لماذا تخرجين في عُبِّ الربيع وتغادرين مع ريح المسافة كأنثى أذهلها الجَماع في يوم ثلج.. كنت أجهل حينها أن العالم شيء والزهرة شيء آخر.. اليناع براءة مفتوحة على شرٍّ مستديم تقبل فيها نفسك على أنك جزء من الخطيئة التي لم تقترفها، والتي لا تعرف إذا كان الله اخترعها ليتمّم براعته في صياغة الكون…
لم تكن أمي تسأل نفسها ماذا تريد، كانت تجيب على أسئلة تخترعها لترضي متعتها، فتحاول الإيقاع بيني وبين أخوتي، بسؤال عنها… لم يكن من المسموح التعبير عن رأينا بالآخرين، فقد قررت لحظة غادر أبي الى منفاه، أن تحتكر سلطة الوعي مستفيدة من قدرة أهل زوجها على الإيقاع بها كطريدة مشبوهة في ظل غياب زوجها برسائل تكتيكية من عمّتي الى أخيها في الغربة عن أماكن خوفها الدائم من كلام الأقارب، مما دفعها الى مضاعفة كرهها لنفسها لتكون محطّ آمال الغريم المحتمل الذي لا تعرف من أين مكان سيطلّ لها… فراحت تكثّف أسئلتها لتعيد ابتكار خوفها مرة بعد مرة… حتى رست على امتلاك السلطة عبر التشبّث بأولادها والدفاع عنهم كلبوة شرسة في أزقّة المطارح الخطرة… فأصابها حب التملك لأولادها لتصنع منهم أسئلتها، الخائفة من أجوبة تلغي أجوبتها المسبقة…
وهكذا كان… بين أبو علي، وأم علي أسئلة لا حصر لها وجواب مشفوع بالتوتر والخوف من أجوبة لا تليق بسمعة الأسئلة؟!.
كان أخوتي يحزرون أنفسهم وجهاً واحداً، رغم اختلاف الأنوف، والآفام، ومسحة الأذن وسحنة الشكل والهدف، لكن العيون بدت متقاربة، تبعاً لبصمة جدّي الشيخ الأكبر الذي زرعها في جيناتنا… فغدا كل منهم يبحث عن إطار عاقل يعيد ترتيب وظيفة الجينة التي امتشقها من سلالة الأعيان، وقد أتت مخاوف أمي وأسئلتها وأجوبتها العديدة لتحمي بعض ما افتكروه عمقاً استراتيجياً في الدفاع عن سلالتهم وجيناتها حتى غدا العالم أضيق عليهم في التكوين والمعنى…
أذكر أن ابن عم شيخ العائلة دعاني لمساعدته في قطف رمّانة البيت التي كانت تطلّ على شباكنا، ولم أكن أدري أن مساعدته في قطف الرّمانة سيكلّفني تحوّلاً في شخصيتي لم تزل حتى وقتنا هذا، عشر ليرات دفعها لي ابن عمي ثمن صعودي الى جبٍّ من الأشواك جعل فرحتي تكبر حين أتيت البيت أعرض على أمي ما أعطاني إياه ابن عمي لمساعدته وأنا ابن الثماني سنوات…
كان الليل أطول عليّ حين حفَّت بشفتيها وتركتني الى موعد الاغتسال قبل النوم، وأخذت بقضيب رمّانها الذي لم أصل اليه في شجرة ابن عمي محضراً لجسدي العاري وهي تصدر كل غيّها المدفون داخل كهف المعنى، لتقول بضرباتها كيف تأخذ من ابن عمّك مالاً ثمن مساعدته، مساعدة الغريب لا ترسم بمقابل فكيف بإبن عمّك؟!
لم أكن أدري أنها تخبِّئ في داخلها سرطان الأقارب الذي لا يشفع لامرأة محاطة بكمية من الأحقاد والضغائن، ليأتي من »يعلِّم« عليها ويعطي ابنها عشر ليرات مساعدة له، فهي اعتبرتها رسالة موجهة الى البيت لمساعدته بطريقة كنت أنا وقودها، عشر ليرات كانت حينها ايجار عامل لمدة أسبوع على بيدر القمح…
إذاً، لم يكن المبدأ أني ساعدت ابن عمّي، فهي كانت تساعد الغرباء وهكذا علّمتنا، من ضمن قياس بديهي ورثته عن والديها، لكن جسدي كان بحاجة الى 100 جلدة من قضيب الرّمان الذي لم تطاله يدي على شجرة ابن عمي، كان يغزل على جسدي كطواحين الهواء وأنا في »دست« الماء معلّقاً بين صوتها ويديها وآذان الليل قبل استراحة المحارب…
لم أعرف كيف رتَّب جسدي وعيه ليستعيد حركة معناه، لكن كنت أصغر من الخوف وأكبر من المحو… إشارات ترسل من هنا وهناك لذوي القامات الصلبة وأنا الفتي أبحث عن ألمٍ أقل مما تحتاجه الرحلة.. يبدو أن اللحظة التي تلدنا أوسع نطاقاً من الحياة التي تأكل لحمنا وتسافر في دمنا وصرَّة أمانينا…
أنا نفسي أقل من نفسي، ليس لتثبيت علمي أو خبرتي في الغبراء الواسعة على قلّتنا، أو على صغر أحجامنا من »ناضور« يعلو عشرة آلاف قدم عن سطح البسيطة، وإنما لقلّة حياتنا وصبرنا في استنطاق وجداننا وبعض خلايا الفهم وجينات الوعي عندنا…
العلاقة بين السالب والموجب علاقة قاسية، تشبه كل شيء ما سوى التناغم، وليس الحب وجهاً واحداً لتصوّر العالم، كما أخبرنا السيد المسيح، هل يمكن أن تحبّ العالم بلا تصوّر؟ مسألة تحتاج الى معرفة كثيرة لتعيد ربط نزاع الكوكب مع نفسه، رغم ائتلافه…
أي عالمٍ يصطفُّ؟ حولَنا الناس بدنٌ، يقطعه سمسار الروح، يخيطه سمسار المتعة، يكسره سمسار الخوف…
الرغبةُ حرائر… والجسدُ إله…
ملكٌ هو فوق الملوك… يحمل عني القضايا، وأحمل عنه السلوك… كم صار كفن الأرض مطايا، والغياب بيوت.. والحضور أنثى المعنى، والزمن تابوت…
كيف أردُّ وصيّتي إليّ، وقد جهّلني الموت، عرّاني دفق الكلمات قبل سقوط الغبش الصوفي.. احتلتُ على حيرتي كي تبقيني شاخصاً على أفق الرؤيا… فتأجيل الواقع أزعج مخيلتي، وصرتُ أرتاب من بدني، إذا كان سيلبسني جسداً من ماءٍ أو حريق…
أنا كائنٌ سافرٌ في لظى الوقت، يقلقني حظي كلما أويت الى متعتي، أخشى السقوط من ضميري التائب كي لا يركلني العمر بندم محمي من عزرائيل… تفوتني المصادفة، ويصنعني الغياب، الحبّ أقسى شهوتي، ولو غلبني الجنس على ما عداه…
كان الجاحظ، وابن الرومي، والمتنبّي، وخليل مطران، وطه حسين، يسألونني لماذا أحببت تأبط شراً، والشنفرى، وديك الجن الحمصي، وأبو النواس، وسعيد عقل، ومحمد الماغوط ونزار قباني وأدونيس أكثر منّا؟؟؟
ماذا يجديك أن تتعب حظّك بما لا تشفعه لك الدنيا… ولكن إجابتي لم تستقرّ على منفذ للخلاص؟ هنا تدخّل سقراط وابن الفارض والنفّري وابن خلدون وابن سينا والكواكبي، وهايدغر وشيلر وفاغنر وغوته وهيغل وتولستوي، لكبح جماح سقوطي في فخّ الأجوبة المضلّلة… قالوا لي جينتك ترسل إشارات للكون، بأنك مستعار من فلك يبكي لعنته، وحتى اللحظة فأنت لا تستقيم… قد تكون مستعاداً من بريّة الزئبق؟ مَن يدري؟؟.
وأنا لا زلتُ أبحث عن علّةٍ تقيني متعة السقوط؟!
* فصل من عمل روائي سيصدر للكاتب
مرفق صورة أرض الزئبق