أسوأ ميراث اقتصادي ومالي تواجهه الحكومة البريطانية الجديدة

الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية

* تباطأ الاقتصاد البريطاني بشكل كبير منذ تولى حزب المحافظين السلطة قبل 14 عاماً

* ديون الدولة إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1961

* يتوقع بنك إنجلترا أن يرتفع التضخم بشكل طفيف مرة أخرى في الأشهر المقبلة

أما وقد أنهت الانتخابات البريطانية 14 عاماً لحزب المحافظين في السلطة لصالح حزب العمال بزعامة كير ستارمر، فإن أسوأ ميراث اقتصادي ومالي منذ الحرب العالمية الثانية تواجهه الحكومة الجديدة يتطلب منها أن تأخذ خيارات صعبة.

لقد صرخ الناخبون البريطانيون من أجل التغيير بسبب سياسات التقشف وأزمة تكاليف معيشية، ونظام صحة عامة

يعاني البريطانيون من أزمة في تكاليف المعيشة ومن ارتفاعات في الأسعار

المتهالك، وضعف في النمو، وبلوغ العبء الضريبي أعلى مستوياته بعد الحرب العالمية الثانية، واقتراب نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي من 100 في المئة للمرة الأولى منذ الستينات.

تراكمت مشكلات بريطانيا منذ الاستفتاء على خروجها من الاتحاد الأوروبي عام 2016، ثم وباء كورونا. حتى أن المحافظين فقدوا لقبهم التقليدي كحزب المسؤولية المالية بعد أن تسببت ليز تروس في انهيار الجنيه الاسترليني خلال فترة ولايتها القصيرة كرئيسة للوزراء في عام 2022.

ورغم معاناة الاقتصاد، كانت هناك علامات إيجابية في الآونة الأخيرة. إذ خرج من الركود هذا العام، مع نمو الناتج المحلي الإجمالي بشكل أفضل من المتوقع بنسبة 0.7 في المئة في الربع الأول بعدما كان سجل تراجعاً لربعين متتاليين في النصف الثاني من العام 2023.

إلا أن هذه البداية القوية لعام 2024 لم تلغ التوقعات الصعبة. وهو ما ألمح إليه بنك إنجلترا الذي اعتبر أن النمو القوي في النصف الأول من العام كان بمثابة انتعاش من الضعف الذي شهده العام الماضي وليس فترة مستدامة من التوسع.

وسيحتاج النمو إلى الانتعاش بشكل كبير، لمنع تراجع تصنيف الممكلة المتحدة. ولن يكون تحقيق هذه الغاية بالمهمة السهلة، نظراً للرياح المعاكسة المتمثلة في الهجرة، فضلاً عن القضايا المتعلقة بالمشاركة في سوق العمل ونمو الإنتاجية.

التضخم

لقد تمكن المحافظون من السيطرة على التضخم، الذي تباطأ إلى 2 في المائة في مايو (أيار) من ذروة بلغت 11.1 في المائة في أكتوبر (تشرين الأول) 2022. وهو المعدل المستهدف لبنك إنجلترا الذي توقع أن يرتفع التضخم بشكل طفيف مرة أخرى في الأشهر المقبلة لكنه سيستقر بالقرب من معدله المستهدف.

ورغم تراجع التضخم، فإن القدرة على تحمل تكاليف السلع والخدمات للأسر لا تزال تؤثر على الملايين في جميع أنحاء

زعيم حزب العمال كير ستارمر الذي سحق المحافظين

المملكة المتحدة مع ركود الرواتب.  وهو ما يشكل تحدياً كبيراً أمام الحكومة في مساعيها لتحسين معيشة البريطانيين.

التحديات المالية

هناك ثلاث قضايا كبرى يتعين على الحكومة أن تتعامل معها مالياً، وكلها من المرجح أن تتطلب ضرائب أعلى مما كان أي حزب على استعداد للاعتراف به خلال الحملة الانتخابية:

– التحدي الأول هو أن خطط الإنفاق التي سترثها الحكومة الجديدة تبدو غير قابلة للتنفيذ. وتقدر “بلومبرغ” أن هناك حاجة إلى زيادة قدرها 20 مليار جنيه إسترليني تقريباً إذا أرادت الإدارات خارج الصحة والتعليم والدفاع والسياسة الخارجية الاستمرار في تقديم مستويات الخدمة الحالية.

– التحدي الثاني متعلق بالنمو الذي تمت الإشارة إليه.

– التحدي الثالث والذي يتلخص بوجوب خلق مساحة أكبر للإنفاق الاستثماري. ومن المقرر أن ينخفض ​​من 2.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2024-2025 إلى 1.7 في المئة في الفترة 2028-2029. وتحتاج هذه الخطط إلى إعادة صياغتها إذا كانت الحكومة الجديدة جادة في معالجة مشكلة الإنتاجية في المملكة المتحدة.

الديون

تواجه الحكومة الجديدة مهمة ضخمة تتمثل في سداد ديون ضخمة من دون زيادة الضرائب، أو اقتراض المزيد، أو المزيد من الضغط على الخدمات العامة. واحدة من أفضل الطرق لتحقيق ذلك هي تحسين الإنتاجية.

وكانت ديون الدولة ارتفعت إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1961. وبلغ صافي ديون القطاع العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا 99.8 في المئة خلال الشهر.

كما أدى ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى الضغط على خزائن الخزانة، والتي تأثرت أيضاً بالزيادات في مدفوعات الاستحقاقات وأجور القطاع العام.

ويحذر الاقتصاديون من أن الحفاظ على استقرار ميزانيات الإدارات سيكلف في نهاية المطاف المزيد على مدى السنوات المقبلة بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض وتضخم العمالة، مما يشكل تحدياً للحكومة المقبلة عند موازنة الدفاتر.

وكان معهد الدراسات المالية، وهو مركز بحثي رائد في بريطانيا، أطلق تحذيراً صارخاً بشأن التحديات المالية التي تنتظر الحكومة المقبلة. وحذر من توقع المزيد من الزيادات الضريبية أو التخفيضات في الخدمات العامة.

ورغم التزام كل من حزب العمال والمحافظين خلال حملاتهما الانتخابية بخفض  الديون كحصة من الناتج المحلي، إلا أن معهد الدراسات قال إن مدفوعات الفائدة المرتفعة على الديون الحالية والنمو الاقتصادي المنخفض المتوقع يمكن أن يجعل خفض الديون المستقبلية أكثر صعوبة، مقارنة بأي برلمان منذ الخمسينات على الأقل، دون مزيد من التدابير.

وعلى هذا النحو، يقول المعهد إنه إذا لم يحدث تحسن كبير في النمو، فإن الحكومة المقبلة قد تواجه ثلاثة خيارات واسعة: : إما قبول التخفيضات “المؤلمة” في الإنفاق على الخدمات العامة المخطط لها حالياً، أو زيادة العبء الضريبي الذي من المقرر أن يصل بالفعل إلى أعلى مستوى في 80 عاماً، أو اقتراض المزيد والفشل في تثبيت استقرار الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.

وقال مدير المعهد بول جونسون، إن التحدي الذي ينتظر الفائز في الانتخابات أكبر مما واجهته أي حكومة منذ الخمسينات من القرن الماضي على الأقل، والتمني بأن يتحسن النمو بدرجة تنقذ الموقف سيعتمد على أن نكون “محظوظين للغاية”.

وكان صندوق النقد الدولي توقع أن يصل صافي ديون القطاع العام في بريطانيا، باستثناء برنامج شراء السندات من بنك إنجلترا، إلى 97 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2028 – 2029.

وفي مارس (آذار)، قال مكتب مراقبة الموازنة البريطاني إن الحكومة تسير على الطريق الصحيحة لتحقيق هدفها المتمثل في انخفاض الديون بنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في العام الأخير من أفق توقعاتها البالغ خمس سنوات، وإن كان ذلك بشكل ضيق.

ويتوقع صندوق النقد الدولي من جهته إنفاقاً أكبر مما توقعته بريطانيا، وهو يرى أن بريطانيا بحاجة إلى شد حزامها – من خلال زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق – بمتوسط ​​يبلغ نحو نقطة مئوية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما يقرب من 30 مليار جنيه إسترليني (38 مليار دولار) سنوياً لتحقيق الاستقرار في الديون بحلول نهاية العقد.

كما رأى أنه على بنك إنجلترا أن يخفض أسعار الفائدة مرتين أو ربما ثلاث مرات هذا العام، بمقدار ربع نقطة في كل مناسبة، على الرغم من أنه يتوقع عودة التضخم إلى هدف بنك إنجلترا فقط على أساس دائم في أوائل عام 2025. وقال الصندوق إن بريطانيا مهيأة لـ”هبوط ناعم” بعد ركود قصير وضحل في النصف الثاني من عام 2023.

أسعار الفائدة

يبلغ حالياً سعر الفائدة الأساسي ــ- وهو الذي يحدد مقدار الرسوم التي يفرضها بنك إنجلترا على المصارف التجارية لاقتراض الأموال وبالتالي يؤثر على ما تفرضه هذه المصارف من رسوم على العملاء – أعلى مستوى له منذ 16 عاما عند 5.25 في المئة.

وكانت أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة تاريخياً في بريطانيا في أعقاب الأزمة المالية عام 2008، ولكن المصرف المركزي رفعها بشكل حاد على مدى العامين الماضيين. مع العمل ان هذا الأمر جاء بفعل تفشي التضخم من أجل إعاقة الطلب على الإنفاق من خلال جعل اقتراض الأموال أكثر تكلفة.

ومع ذلك، فهذا يعني أن ملايين الأسر في بريطانيا قد شهدت، أو ستشهد، زيادات في فواتير الرهن العقاري، وبالتالي زيادات في تكاليف الإيجار.

وكان بنك إنجلترا أبقى أسعار الفائدة للاجتماع السابع على التوالي لكنه أكد أنها متوازنة بشكل جيد، حيث يتوقع العديد من الاقتصاديين الآن أن يتم خفضها في التصويت المقبل في أغسطس (آب) بعد تباطؤ التضخم.

سوق العمل

ارتفع معدل البطالة في بريطانيا بشكل غير متوقع إلى أعلى معدل له منذ أكثر من عامين، إلى 4.4 في المائة في الأشهر الثلاثة حتى أبريل (نيسان).

كما انخفضت الوظائف الشاغرة بشكل حاد مرة أخرى، حيث انخفضت بمقدار 12 ألفاً إلى 904 ألاف في الأشهر الثلاثة حتى مايو (أيار)، مما زاد المخاوف بشأن الضعف في سوق العمل.

لكن الأرقام أظهرت أن نمو الأرباح المنتظم ظل دون تغيير عند 6 في المئة في الأشهر الثلاثة حتى أبريل (نيسان) واستمر في تجاوز ارتفاعات الأسعار.

بناء على كل ما تقدم، فإن الحكومة الجديدة ستواجه ضغوطًا هائلة للتغلب على هذه التحديات الاقتصادية. ومن خلال تعزيز الإنتاجية وإعادة المزيد من الناس إلى قوة العمل، قد يكون هناك مجال لإدارة أسعار الفائدة المرتفعة وخفض الدين الوطني. وهذا من شأنه أن يحرر عائدات الضرائب لدعم الخدمات العامة وغير القادرين على العمل. ورغم أن التحدي هائل، إلا أن المكاسب المحتملة ممكنة… وكبيرة.