أشعار التعمية… تكلّف أم إبداع؟


من واقع الحال ان الانسان له حالتان ظاهريه وباطنية؛ الأولى تسمى المظهر والثانية تسمى الجوهر. ولأن الانسان يعيش بمظهره أكثر مما يعيش بجوهره غلب عليه طابع المباشرة فأصبح يتعامل مع الذوات والأشياء المحيطة به تعاملا مباشرا لا يكلّف فيه جوهره. لأنه يميل الىى السهولة واليُسر ويبتعد عن التكلّف والتضنّي. والجوهر طالما تلازم مع العقل. ولذلك من غلب عليه جوهره واستعمل عقله في كثير من أمور حياته ومعيشته كان شديد الملاحظة والتركيز ويهتم بأمور لم يلحظها غيره. 

واذا أسقطنا هذا المبدأ على الفنون الأدبية والعلمية والفكرية وجدنا أن من يسير عليه وُصف بالفيلسوف والمفكر والمبدع. ولذا لو قرأنا كتب الفلاسفة والمفكرين لاحتجنا الى تركيز عالٍ وتفكيرٍ طويل من أجل أن نفهم كتاباتهم وأفكارهم.

ومن بديه القول ان كل ما كُتب باستخدام العقل كان كبيرا وواضحا وعالي القيمة بغض النظر عن فحواه وصحته.

ولذلك يميل بعض الأدباء والشعراء والفلاسفة وغيرهم من أرباب الفن والأدب والعلم الى استخدام العقل والجوهر. ومن أجلى صور هذا الاستخدام مأ أطلق عليه  بالألغاز والأحاجي ومصطلح (المعمي) الذي شاع في الأدب سواء في الشعر أو النثر.

واللغز وجمعه ألغاز؛ أصله الحفرة الملتوية يحفرها اليربوع والضب والفأر بشكل مستقيم لأسفل ثم يحفر الى الجانب طريقًا وفي الجانب الآخر طريقًا وكذا في الجوانب الأخرى؛ فاذا أراده أحد من طريق التجأ لطريق آخر.

وقد شاع اللغز عند العرب حتى أن السيوطي قسمه لانواع منها ما قصدته العرب، ومنها ما قصدته أئمة اللغة، ومنها ما قالوه من الشعر فصادف ان يكون لغزا. إلّا ان أكثره ما كان لغزا في معناه، ولذلك أطلق على الشعر من هذا النوع (أبيات المعاني)؛ لأنها تحتاج إلى أن يُسأل عن معانيها ولا تُفهم من الوهلة الأولى سواء من حيث اللفظ أو التركيب أو الإعراب.

والتعمية لغةً هي الإخفاء ومنه تعمية الأخبار عن العدو أي إخفاءها.

وجاء في لسان العرب تحت مادة (عمي)؛ وعَمِيَ عليه الأَمرُ: التبَس ومنه قوله تعالى: (فعَميَتْ عليهمُ الأَنباء يومئذ). والتَّعْمِيةُ: أَنْ تُعَمِّيَ على الإِنْسانِ شيئًا فتُلَبِّسَه عليه تَلْبِيسًا.

والمعمّيُّ فن أصيل الصنعة، قال الأدباء والمؤرخون أن الملاحن والألغاز والأحاجي هي منه في الأصل، وأنّ بعضها أعان عليه، وبعضه أعان عليها.

ومن اسماء المعمّى أو اللغز، كما يقول الحظيري في (الإعجاز في الأحاجي والألغاز) (المعاياة) و(العويص) و(اللغز) و(الرمز) و(المحاجاة) و(أبيات المعاني) و(الملاحن) و(المرموس) و(التأويل) و(الكناية) و(التعريض) و(الإشارة) و(التوجيه) و(المعمي) و(الممثل) والمعنى في الجميع واحد. اما الاختلاف فبحسب اعتباراته؛ فإذا اعتبرته مغطى عنك سميته (معمّى) من العمى، وإذا اعتبرته سترا عنك سميته مرموسًا، من الرمس (القبر) الذي يُخفي جسد الميت، وإذا اعتبرته يحتاج لتأول سميته (التأويل).

على أنَّ ابن نباته يذهب الى ان المعمي في عصره سمي (المترجم). على ان الخليل هو أول من استخرجه عندما وضع العروض. قائلا ان بعض كتب اليونان وصلت اليه فقرأ الخليل كتابا بلغتهم ففهمه فجعله أصلًا ووضع (المعمي).

واستمر حال المعمي امثلةً متفرقة حتى قال فيه الجاحظ (هو ليس بشيء قد كان كيسان مستملي أبي عبيدة يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع ويقرأ خلاف ما يكتب، وكان أعلم الناس باستخراج المعمي؛ وكان النظام على قدرته على أصناف العلوم لا يقدر على استخراج أخف ما يكون من المعمي).

ومن الأقوال الأخرى ان المعمي وقع بيد الأعاجم فدونوه واستنبطوا قواعده وجعلوه فنا من الفنون الأدبية والعلمية. وأن أول من فعل ذلك شرف الدين علي اليزدي الفارسي صاحب (تاريخ ظفر نامه) فعرف بأنه الواضع له. 

والمعمى في الأصل قول تُستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء يقبلها الذوق السليم، لكن يشترط فيه أن يكون له في نفسه معنى وراء المعنى المقصود. 

وقد فرّق العلماء بين اللغز والمعمي بقولهم (ان الكلام إذا دلَّ على اسم شيء من الأشياء بذكر صفات له تميزه عما عداه كان ذلك لغزًا، وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظًا بدلالة مرموزه سُمي ذلك معمي).

ومن أمثلة المعمي في الشعر؛ قال أحدهم في الكمّون:

يا أيها العطار أعرب لنا

عن اسم شيء قَلَّ في سَوْمِكَا

تنظره بالعين في يقظة

كما ترى بالقلب في نومكا

وقد ورد عن العرب أمثلة كثيرة في المعمي الذي شاع منذ عصر ما قبل الإسلام كقول أبي دؤاد الإيادي:

رُبَّ كلبٍ رأيته في وثاقِ

جعل الكلبُ للأمر جمالا

رُبَّ ثورٍ رأيتُ في جحر نملٍ

وقطاة تحمل الأثقالا

ويعني بالكلب (الحلقة التي تكون في السيف) ويعني بالثور (ذكر النمل).

وورد أيضا ان أبا مقدام الخزاعي قال في معمي له:

وعجوز أتت تبيع دجاجا

لم يفرخن قد رأيت عضالا

ثم عاد الدجاج من عجب الدهـر

 فراريج صبية أطفالا

وقد عني بالدجاجة (الغزل) فهي اللفافة المغزولة التي تخرج عن المغزل، اما الفراريج فهي (الأقبية).

وليس ببعيد قول الفرزدق في المعمي:

ومستمنح طاوي المصير كأنما



يساوره من شدّة الجوع أولقُ

دعوت بحمراء الفروع كأنها



ذرا رايةٍ في جانب الجو تخفقُ

وإني سفيه النار للمبتغي القرى



وإني حليم الكلب للضيف يطرق

وكان الجاحظ يكثر التعجب والاستحسان من قوله (سفيه النار وحليم الكلب).



ومن الأمثلة المشهورة التي أوردها السيوطي التي وقع اللغز فيها تركيبا أو لفظا أو إعرابا قول أحدهم:

أقول لعبد الله لما سقاؤنا

ونحن بوادي عبد شمس وهاشم

ويعنى أقول لعبد الله لما سقاؤنا وَهَى (أي ضعف) ونحن بهذا الواد شِمْ، أي: شم البرق عسى يعقبه المطر.

ومنها ما يقع على طريق السؤال والجواب كما حصل مع امرئ القيس؛ وحاصله أن عبيد بن الأبرص لقي امرئ القيس فقال له: كيف معرفتك بالأوابد؟ قال: ألق ما أحببت، فقال عبيد:

ما حبة ميتة أحيت بميتتها 

درداءَ ما أنبتت سنّاً وأضراسا

فأجابه:

تلك الشعيرة تُسقى في سنابلها

فأخرجت بعد طول المكث أكداسا

ولا بد لنا أن نذكر ان المتأخرين على وجه الخصوص وُلعوا بهذه الألغاز ابتداء من القرن السابع الهجري فزادوا فيها وفرّعوها وأحسنوا اليها أيما إحسان؛ فأضافوا الإشارة إلى الملغز به بالتصحيف والقلب والحذف والتبديل وما أشبهها مما هو من صناعة المعمي، وجمّلوها بالتورية. 

قال أحدهم يصف قلما:

وذي خضوع راكع ساجد

ودمعه من جفنه جاري

مواظب الخمس لأوقاتها

منقطع في خدمة الباري

والأمثلة من أنواع الألغاز كثيرة في كتب الأدب، أما ألغاز النحاة والفقهاء وأهل الفرائض ومن ينتحلون الحكم والفلسفة فأكثرها مشهور. 

إلّا أنَّ أقدم الأحاجي التي وصلت الينا أحجية لهند بنت الخس التي أدركت المتلمس أحد حكام العرب المعروفين وكانت ساجعة متبذلة تحاجي الرجال. وكانت أحاجيها تبين قوة البداهة والإمكانية. وأحاجيها عرفت بالتحدي مع الطرف الآخر.

قيل ان رجلا مرّ بها فسألته المحاجاة؛ 

فقال: كاد. فقالت: كاد العروس يكون الأمير 

فقال: كاد.فقالت:  كاد المنتعل يكون راكبًا.

فقال: كاد. فقالت: كاد البخيل يكون كلبًا، وانصرف، فقالت له: أحاجيك، فقال: قولي.

قالت: عجبت. قال: عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها 

قالت: عجبت. قال: عجبت للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها 

ثم أفحمها بكلمة بذيئة فخجلت وتركت المحاجاة.

ومن الابداع في المحاجاة ان الحريري صاحب المقامات المعروفة   ابتدع نوعًا من المعمي استعار له اسم الأحجية؛ وهو أول من اخترعه وسماه كذلك ونظم منه في المقامة السادسة والثلاثين عشرين أحجية، وقال في علة ذلك إنها (لامتحان الألمعية واستخراج الخبية الخفية وشرطها أن تكون ذات مماثلة حقيقية وألفاظ معنوية ولطيفة أدبية فمتى نافت هذا النمط ضاهت السقط ولم تدخل السفط).

وذكر عبد القادر البغدادي صاحب (خزانة الأدب) انه من أجلّ التصانيف المؤلفة في الألغاز والأحاجي كتاب (الإعجاز في الأحاجي والألغاز) لأبي المعالي سعد الوراق الحظيري، قال:  وهو كتاب تكل عن وصفه الألسن، جمع فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. 

ولا بد ان ننوه الى ان أن موضوع الأحاجي والألغاز من أقل الموضوعات تناولاً في البحوث. وذلك قياساً للدراسات الأدبية الأخرى التي اهتمت بالأمثال والحكايات والسير الشعبية. 

ولكن في العصور المتأخرة بدأ الاهتمام بهذا النوع من الفنون؛ فقد  ألف بيرم التونسي كتابا بعنوان (فوازير رمضان)، ونشر جمال مشعل كتاب (حديقة الألغاز) بمجلدين. وفي السودان ألف عبد الله الطيب كتاب (الأحاجي السودانية)، وفي الكويت ألف محمد رجب النجار (الغطاوى الكويتية..  دراسة موضوعية وفنية). كما نشر معجماً شاملاً بعنوان (معجم الألغاز الشعبية في الكويت). وفي المملكة العربية السعودية ألف عبد العزيز الأحيدب كتابه (الممتاز من الأحاجي والألغاز من عربي فصيح وشعبي مليح). وفي العراق حفلت مجلة التراث الشعبي ببعض الدراسات المهمة في الألغاز منذ نهاية الستينيات. كما ألف يونس السامرائي كتاب (الأحاجي والألغاز في سامراء).وكذا في المغرب العربي وغيرها من البلدان العربية التي اهتمت بدراسة هذا النوع من الفنون الأدبية والعلمية وأهمها (قاموس الأحاجي الشعبية المغربية) الذي وضعه أحمد زيادي وكتاب (أطيب الأحاجي والأمثال من أفواه النساء والرجال) لعبد الحي بنيس.

إن فن المعمي والأحاجي والألغاز كان ولا يزال من الفنون الأدبية المهمة شأنه شأن باقي الفنون الإبداعية. لأن المناط فيه أن الأديب يستطيع من خلاله أن يستخرج إبداعاته وإمكاناته اللغوية والبلاغية والعقلية والفكرية بما يبهر به السامع. وهو في حقيقته نمط من أنماط المحافظة على اللغة والتراث كونه يحافظ على التراكيب اللغوية والمعاني البلاغية الإبداعية. وان الظاهر ان قائله والمتمرس فيه لا يتكلف كثيرا ولا يتضنى كونه يمتلك ناصية الأدب واللغة والبلاغة والفصاحة. 

ومن هنا قد يصبح هذا الفن الأدبي المميز مهمّاً في عصرنا الحاضر كوننا ابتعدنا عن الأدب واللغة وفنونها كثيرا.

وهي دعوة صادقة لإحياء هذا الفن الأصيل واخضاعه لضوابط الأقدمين صونا للغة وحماية لها من الاندثار وسط رواج لغات أعجمية كثيرة.