سطوة التاريخ على الأكراد
لعل أول حلقة من تاريخ الأكراد السياسي وهو المهم ارتبطت بزعيمهم الأول الملا مصطفى البرزاني الذي قاد الحركة الكردية داخل العراق بعد سقوط جمهورية مهاباد عام 1946 في إيران بتعاون إيراني سوفييتي بريطاني . بعد سنوات من تأسيس الشيخ محمود الحفيد لدولة كردستان 1922-1924 في شمالي العراق . دُفع مصطفى البرزاني الى العراق لبدء تلك الحركة القومية الكردية ضد السلطات الحكومية العراقية دون غيرها في كل من تركيا أو سوريا وهم بالملايين , ففي تركيا تصل أعدادهم قرابة 13 مليون وسوريا أكثر من مليوني ونصف كردي , أما العراق تقديرات مصادر المخابرات المركزية قرابة الستة مليون كردي . اللعبة الدولية ركزت على العراق وهذا ما حصل حتى وقتنا الحاضر.
كانت البداية الدولية المعقدة اتفاقية (سايكس بيكو ) عام 1916 التي فرضت أقسى العقوبات بإزالة ممتلكات الدولة العثمانية السياسية والمادية حيث انتزعت منها الممالك والأمصار بينها العراق . حاول الأكراد انتزاع فرصة تكوين دولة قومية لهم , لكن اللعبة الدولية كانت في واد آخر حيث تم توزيع المغانم بين كل من فرنسا وبريطانيا .
بوقت مبكر كانت اللعبة الدولية قد ركزت على اكراد العراق وهذا ما أكده التاريخ اللاحق خاصة بوضعهم كخنجر في خاصرة الحكومات العراقية المتعاقبة منذ تأسيس الدولة عام 1921 . احتضن السوفييت الزعيم مصطفى البرزاني الذي وصل موسكو بجيشه المليشياوي بعد سقوط جمهورية مهاباد 1946 . بعد ذلك أرسلوه الى حليفهم الزعيم العراقي المحلي الجديد عام 1958 عبد الكريم قاسم الذي وجد نفسه وجيشه بعد شهور قليلة في مواجهة عسكرية مع طموح يقرب من حالة الانفصال القومي وليست حقوق اجتماعية وثقافية محلية.
لم يتردد اكراد العراق منذ البداية أن يتحولون الى ورقة دولية وإقليمية , بل شعروا بفخر وحماسة , الثمن بالنسبة لتلك الدول واهما الولايات المتحدة الأمريكية هو حمايتهم عند حدود محسوبة , لهذا صدموا بعد عقود حين وجدوا انفسهم قادرين على الاستقلال وإقامة دولة قومية على خاصرتي كل من تركيا وايران إضافة الى كركوك العراقية مدينة المال والثروة .
الأكراد قبل عام 2003
رغم الخيار العسكري للقيادات الكردية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام 1958 , ومحاولات الإيحاء بحق تقرير المصير للشعب الكردي , لكن لم تتجاوز تلك الطموحات الكردية في العراق حدود تحقيق حكم ذاتي متواضع يمنح الشعب الكردي الحقوق والمساواة الثقافية والقومية , وهذا ما حققته لهم الحكومة العراقية عام 1970 فيما سمي باتفاق مارس ( آذار ) التاريخي الذي وقعه الزعيمان مصطفى البرزاني وصدام حسين في الحادي عشر من ذلك الشهر في مدينة اربيل . كانت اتفاقية الحكم الذاتي مرحلة متقدمة تتطلب مدة أربع سنوات تدخل خلالها القيادات الكردية في المفاصل الحكومية المركزية لأول مرة بعد حصول الأكراد على حقوق اللغة والثقافة الكردية لكن مسألة عائدية كركوك ظلت وما زالت معلقة بعد عقود وهي مركز الأزمة بعد إصرار مصطفى البرزاني واعلانه حق الأكراد في نفطها , هذا مما دفع الحكومة العراقية عام 1974 الى اعلان الحكم الذاتي للأكراد من جانبها دون موافقة القيادة الكردية بما أذن بإشعال الحرب مجدداً.
الضغوطات الدولية والإقليمية خاصة إيران على قيادة مصطفى البرزاني التي لم تقبل بتلك الحلول ليس لمصالح شعبية كردية داخلية إنما استجابة للعبة الكبار والصغار . هكذا إذن عاد القتال مجدداً ولكن بمصالح إقليمية جديدة بينها إيرانية . في تلك الأيام لم تكن مخططات المصالح معقدة وخطيرة مثلما أصبحت عليه بعد عام 1990 بعد اجتياح العراق للكويت . سبق أن التقى نائب الرئيس العراقي صدام بشاه ايران برعاية الرئيس الجزائري هواري بومدين وحصل ما سمي باتفاقية الجزائر في السادس من مارس آذار عام 1975 التي تنازل خلالها صدام حسين عن جزء كبير من ضفة شط العرب العراقية وفق ما سمي بقانون المناصفة ” التالوك ” , في مصادقة طهران الشاه على تلك الاتفاقية تم إسقاط اللعبة الدولية داخل العراق مؤقتاً من خلال الأكراد , ثم وجد النظام العراقي نفسه أن عليه دفع هذا الثمن من التنازل بالعودة الى إلغاء تلك الاتفاقية مع طهران والدخول في الحرب عام 1980 .
الوجه العسكري للمشكلة الكردية مع حكومة بغداد تحوّل الى تداعيات كردية بلا غطاء إقليمي إيراني , عززت ذلك الانشقاقات ما بين الحزبين الكردستاني بقيادة مسعود وريث والده الذي تخلى له وغادر الى الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس الحزب الوطني الكردستاني جلال الطالباني المعروف بمهارته اللعب على جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية . كان في بداية تسعينيات القرن الماضي يحضر الى بغداد ويقابل صدام حسين متوقعاً أن يعينه على حصول المركز القيادي الكردي الأول , لكن الرئيس العراقي بدلاً عن ذلك عاون رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البرزاني على تصفية وطرد قوات الطالباني التي حاولت احتلال أربيل 1996 .
بسبب ظروف النظام العراقي الصعبة بعد العام 1990 من حرب مدمرة وحصار ظالم , لم تكن هناك خيارات متاحة في الميدان العراقي العام أو الميدان الكردي خصوصاً بعد هيمنة واشنطن على الملف العراقي ورعاية المعارضة التي عقدت مؤتمرها في بيروت بنشاط ملحوظ ودعم مالي سعودي كذلك الرعاية السورية للمؤتمر . فاضطر رئيس النظام صدام الى الإذعان للعامل الأمريكي والدولي لصالح الأكراد ,وافق على منحهم حكماً ذاتياً قريبا من الاستقلال . هكذا بدأت مرحلة كردية جديدة انتقلت من خلالها القيادة الكردية بزعامة مسعود أواخر التسعينيات وبداية 2000 الى الطرف الفاعل وصاحب الثقة الأمريكية ومن بعدها الأوربية في المعارضة العراقية التي جعلتها واشنطن الحاكمة في بغداد بعد غزوها عام 2003 .
الأكراد بعد عام 2003
وجدت القيادات الكردية نفسها منذ الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي انها ليست فقط صاحبة مكانة الثقة لدى واشنطن بل لديها المرونة العالية للعب ما تريد في الشأن الخاص بصناعة الدولة العراقية الجديدة, لسبب بسيط إن الهم الأمريكي في تلك الأيام كان كيفية جعل العراق قاعدة لمشروعهم الجديد في المنطقة , كما كشفت الأيام اللاحقة إن الأمريكان رغم الاعلام المضُخم لا يمتلكون مشروع بناء دولة عراقية جديدة .
وجدت القيادات الكردية نفسها أمام مسؤوليات تاريخية لا ولن تتمكن أحزاب طائفية غيرها من تحقيقها , هذا الذي حصل واقعياً بخطوات ملموسة , واقع الحال لم تكن هناك أهمية تاريخية استثنائية للتعجيل في صياغة الدستور , كانت المرجعية الشيعية في النجف المستعجل الأول قبل الأكراد وهذا ليس تحليلاً أو استنتاجاً إنما وقائع كشفها مندوبو الأمين العام للأمم المتحدة في الأيام الأولى لاحتلال 2003 .
بغض النظر عمن وضع الأفكار والبنود الأولى للدستور العراقي الذي كان يفترض أن يكون مرحلياً ومؤقتاً لسببين : الأول إنه في ظل احتلال عسكري أجنبي , الثاني كان لا بد من تجربة مدى فائدة مواده المؤقتة والدائمة لشعب العراق
وجد الأكراد انفسهم في قلب صانع الدولة الجديد , بنفعية عالية للتفكير بضمان حالي ومستقبلي لمصالحهم الكردية , دفعهم ذلك تارة للتعصب القومي المنغلق وتارة أخرى لمداراة المصالح والمنافع الطائفية لشركائهم الاستراتيجيين السياسيين الشيعة . لم تكن هناك اتفاقات سياسية تخدم أهل البلد الخارجين من نكبات وحروب , إنما لتلك الأحزاب , هكذا جاء لغم المادة ( 140 ) الذي وضعه القادة الاكراد والشيعة في الدستور الهزيل الذي يفسّر إن الأكراد حتى بعد تغيير العهد السابق بنظام جديد يدعونه ديمقراطياً لم يتنازلوا عن أطماعهم في كركوك كمنجم للذهب الأسود , وهذا الي حصل فيما بعد وكانت له تداعيات في مستقبل الأيام .
الاتفاق الاستراتيجي الكردي الشيعي
لم تنفرد القيادتان الكرديتان الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني والاتحاد الوطني بقيادة جلال الطالباني الذي خطف الأضواء في كاريزما سياسية بعلاقات إقليمية ودولية ساطعة , في تقرير المصير العراقي الجديد , بل وجدا بالقيادات السياسية الشيعية المعتمدة من واشنطن حليفهما الاستراتيجي . كانت المصالح الحزبية سواء الكردية أو الشيعية في المقدمة تطلبت غض النظر عن عمق المشاكل التي ستعصف بالحكم الجديد وهذا ما حصل في السنوات اللاحقة.
وجد السياسيون الشيعة بعد سيطرتهم التامة على الحكم بأن القيادات الكردية تجاوزت كثيراً حقوق الأكراد الحقيقية , تقدم العنصر الاقتصادي تلك المشاكل وجد مركز الحكم ببغداد إن إقليم كردستان تضخم نفوذه الاقتصادي في ميادين التمويل الكبير لموظفي كردستان إضافة للحصة السنوية من الميزانية 17% . كما اعتقد القادة الشيعة فيما بعد إنهم استغفلوا في تجاوز القيادات الكردية على القانون العراقي المركزي في ميدان النفط والغاز حين سن له الأكراد قانوناً كردياً خاصاً عام 2016 دون اعتراض من قبلهم وفر ملايين الدولارات لخزينتهم شهرياً وفتح أبواب الاستثمار الأجنبي الهائل في المنطقة , فأوقفوه عام 2022 الى جانب قطع رواتب الإقليم بعد تصاعد المشكلات وتجددها بين بغداد وأربيل .
استفتاء الدولة الكردية المستقلة
لم تكن فكرة الاستفتاء على دولة كردية مستقلة عن العراق غريبة عن جميع أطراف القيادات والشخصيات الكردية بلا استثناء . تلك لم تكن رغبة شخصية للزعيم الكردي مسعود البرزاني , إنما هو حلم كردي طالما يتحدث به قادة بينهم رؤساء جمهوريات كرد في حكومة العراق . أو غيرهم من القادة بعد أن وصلوا واقعياً الى مرحلة من الانتعاش السياسي والاقتصادي وتدفق الأموال والمشاريع الى منطقة كردستان خصوصاً من الجارة التركية التي بلغت استثماراتها عام 2017 عام الاستفتاء 40 مليار دولار . اعتقدت القيادات الكردية إن الظروف أصبحت ملائمة لقيام الاستفتاء ثم الانفصال عن الدولة العراقية التي لم تعد تلبي مصالحها, أغراها وشجعها الرضى الإقليمي والدولي على سياسات الإقليم الداخلية والخارجية .
كان يوم الخامس والعشرين من سبتمبر 2017 موعد قيام الاستفتاء الشعبي الكردي الذي تحقق بنسبة عالية , لكنه واجه رفضاً قاطعا وغاضباَ من حكومة المركز ببغداد , كذلك من الدولتين الجارتين ايران وتركيا اللتين وجدتا فيه خطرا مباشرا على كيانيهما , كذلك جميع الدول في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ما عدا إسرائيل التي رفعت علمها على المنشآت والمباني في أربيل لخلفيات آديولوجية وسياسية ربطت الكيان الإسرائيلي بالقيادات الكردية منذ عهد الملا مصطفى البارزاني . رفضته بشدة حكومة حيدر العبادي ببغداد التي اتخذت إجراءات حصار شامل على الإقليم الكردي اقترن بعمليات عنف وقتال في مدينة كركوك خاصة .
لم تتوقع القيادة الكردية إن الأمريكان سيتخلون عنهم في عدم تأييد مشروع الانفصال رغم إنه كان استفتاء شعبياً , لكنهم صدموا يبدو ان الإشارة الأمريكية وصلتهم بأن واشنطن تتحرك وفق مصالحها وليست التزاماتها تجاه عملائها .
جمد الاكراد استفتاءهم ولم يتنازلوا عنه وسط إجراءات حكومية مركزية شديدة خاصة في كركوك في ظل ظروف ما بعد هزيمة داعش حيث هيمنت الحكومة على هذه المدينة ” أم المشاكل .
كان الاستفتاء على الاستقلال حلم ليلة صيف كردية .
سنجار
إذا كان التاريخ السياسي الكردي جعل من كركوك تلك الأهمية الاستراتيجية وهي كذلك فعلاً , فقد برزت خلال السنوات الأخيرة قصة مدينة ” سنجار ” كواحدة من ابرز المناطق المتنازع عليها التي لم يحسمها كما هي كركوك الدستور العراقي المضطرب . هذه المدينة الحدودية التي لا تحتوي على النفط لكن على الموقع الاستراتيجي للدولة العراقية , كمثلث يربط كلا من العراق وسوريا وتركيا . فقد دخلت سنجار كمنطقة جيوسياسية في الجغرافية الإقليمية لكل من ” ايران وتركيا ” , مضافاً الى أهميتها لقيادة إقليم كردستان الهادفة في ضمها يوم ما , لكنها مدينة كما هي كركوك تابعة للدولة العراقية المركزية .
مما زاد من أهميتها تواجد تنظيم كردي تركي مسلح معارض ( بي بي كي ) عقد اتفاقيات مع الفصائل العراقية التابعة لإيران كذلك الحشد الشعبي العراقي مما ضاعف من المشكلات الأمنية لكل من مركز بغداد وإقليم كردستان الى جانب تركيا المتضرر الأمني الأكبر .
الجانب البشري المهم لهذه المدينة وجود الأقلية اليزيدية يقال إن عددهم يقرب من 500 ألف نسمة وهم جماعة دينية غير مسلمة الكثير من الغموض يسيطر على عقيدتهم التي يقال إنهم يعبدون الطاووس ويعترفون بوجود آله واحد .كان داعش قد استهدفهم بعد اجتياحه نينوى وشرد غالبيتهم بما حوّل قضيتهم الانسانية الى ملف كبير ما زال حياً لحد اليوم لا يبتعد كثيراً عن المزايدات السياسية .
لعلّ الخلافات المستمرة بين بغداد وأربيل حول المناطق المتنازع عليها يمنح سنجار أولوية كبيرة لدى كردستان التي تدرك أهمتها كونها ممرًّا جغرافيًّا مهمًّا يربطها بسوريا والبحر الأبيض المتوسط، وأن التفريط بها سينعكس عليها سلبًا من الناحية الجيوسياسية، خصوصًا فيما لو نجح الإقليم بالتحول إلى دولة مستقلة في المستقبل.
مصالح تركيا وايران
لا شك إن مصالح النفوذ الإيراني في العراق تجعل من إقليم كردستان أهمية كبيرة , صحيح إن النفوذ الإيراني كان في عهد الرئيس السابق الكردي جلاال الطالباني كبيراً , لا يمتلك هذه الميزة في عهد مسعود البرزاني , لكن طهران تتحسس المخاطر لعدم شمولية نفوذها في هذا البلد , هكذا اصبح الهاجس الأمني للنفوذ يتطلب توجيه رسائل مسلحة بالصواريخ والطائرات المسيرة الى مركز أربيل مرة مرة عبر ميليشياتها وأخرى مباشرة الى المراكز الديبلوماسية الأمريكية أو المصالح التجارية , تبرره طهران حفاظاً على أمنها الداخلي الذي أصبحت تهدده المعارضة الشعبية الإيرانية من بينها وأبرزها المعارضة الكردية.
لتركيا مصالح متشابكة أمنية وتجارية في المنطقة الكردية العراقية , تجارياً الحديث فيها يطول , الأخطر الهاجس الأمني المتعلق بحزب العمال الكردي التركي
فتركيا تعتبره أولوية استراتيجية لا يهدأ لها بال حتى القضاء النهائي علبه وفي داخل العراق.
ستبقى القيادات الكردية في حالة صراع عميق ما بين الأحلام المدفوعة من الآخرين للانفصال عن العراق , وبين حكمهم الذاتي المحلي داخل الدولة العراقية .