ألمانيا وإسرائيل وسر التحول من العداوة إلى التحالف

علاقات ثنائية تقوم على استسلام ألماني لانتهازية إسرائيلية

“في هذه الأيام كلنا إسرائيليون”..عبارة صادمة وردت على لسان أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية أثناء زيارتها لدولة الاحتلال بعد عملية طوفان الأقصى، وهي جملة تعكس مدى الدعم والتحيز الأعمى الألماني لإسرائيل رغم جرائم القتل والتدمير والإبادة التي تمارسها الأخيرة ضد الأطفال والنساء والعزل في غزة وكافة أنحاء الأراضي الفلسطينية. وكانت ألمانيا ثاني الدول الأوروبية التي سارع مسؤولوها بالقيام بزيارة عاجلة للكيان الصهيوني عقب “طوفان الأقصى” مباشرة تأكيدا على مساندته ووضع كل الخدمات تحت أمره بما فيها الأسلحة والذخيرة التي أرسلتها بكميات كبيرة لضرب الفلسطينيين وقتلهم. وهو ليس موقفا جديدا مرتبطا بأحداث معينة وإنما هو منطق ثابت في السياسة الألمانية على مدار عقود طويلة.

ففي وقت سابق كانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تقول في تصريحاتها الرسمية أثناء توليها الحكم أن أمن إسرائيل غير قابل للتفاوض “بالنسبة لي كمستشارة لبلادي، وأن المسؤولية التاريخية التي تتحملها الدولة الألمانية هي جزء من مصلحتها”. وهو منطق سياسي يتبعه معظم المستشارين الألمان باعتباره يتوافق مع المصلحة الوطنية على حد تعبيرهم.

وحينما التقى المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في فبراير 2024 صرح قائلا: “أن إسرائيل تفعل ما في وسعها لحماية المدنيين” وبعدها بعدة شهور في نفس العام عاد وأكد بقوله أن: “تضامن ألمانيا مع إسرائيل ينبغي ألا يهتز عندما تقوم تل أبيب بما ينبغي عليها لإعادة تأمين نفسها”.

انتهازية إسرائيلية واستسلام ألماني

قد تبدو التصريحات الألمانية صادمة في ظل الخلفية التاريخية للعلاقات المحتقنة بين اليهود وألمانيا النازية، وكذلك في ظل الجرائم والانتهاكات التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين على مرأى ومسمع من العالم، لكنها تعبر عن سياسة واقعية تجاوزت الأقوال إلى الأفعال. لقد عملت إسرائيل على استغلال أحداث المحرقة واستثمارها لاستجداء العالم والحصول على ما تستطيع أخذه من مكاسب سياسية وتعويضات مالية ومساعدات عسكرية. وبلغ الأمر مداه في علاقتها مع ألمانيا بعد أن تحولت من العداء اللدود إلى الصداقة الحميمة في ظل الدعم اللامتناهي من الجانب الألماني لدولة الاحتلال ضمن إطار الانتهازية السياسية الذي ينتهجه الكيان الصهيوني بالعمل المستمر على تعميق الشعور بالذنب لدى الجانب الألماني وتعظيم المكاسب التي يمكن الحصول عليها استغلالا لهذا الوضع.

والمثير في الأمر أن الألمان استسلموا لهذا الاستغلال الصهيوني ووضعوا أنفسهم تحت سيطرة الانتهازية الإسرائيلية لحادث استثنائي مضى عليه عشرات العقود وجنت من ورائه مكاسب طائلة.

وأصبح الاحتفال بإحياء ذكرى المحرقة مناسبة تحرص ألمانيا على المشاركة فيها بالزيارة وتقديم التعازي في مشهد مثير ومعاكس تماما لما كان بين الطرفين في الماضي، ويعكس حالة تماهي ألماني ورعاية فائقة واحتضان لكل ما هو إسرائيلي ودعم له على طول الخط مهما كان مخطئا أو حتى مرتكبا لجرائم قتل وإبادة ضد شعب أعزل.

وفي إطار هذا الاستسلام للانتهازية الإسرائيلية، خرجت ألمانيا عن الصف الأوروبي الذي يدين إسرائيل على جرائمها ضد شعب غزة وصارت عقبة أمام الاتحاد الأوروبي لمنعه من اتخاذ قرار بمعاقبة دولة الاحتلال على إبادته وتجويعه وقتله للشعب الفلسطيني بشكل مستفز للمشاعر الإنسانية في هذا العالم.

فما سبب هذا التحول الغريب في العلاقة الألمانية الإسرائيلية من العداء إلى التحالف؟ وما سر الدعم اللامحدود لدولة الاحتلال؟ هل هو مجرد محاولة لتجاوز عقدة الذنب القديمة والتكفير عن الجرائم الهتلرية؟ أم أن هناك أسبابا أخرى؟

أكثر من 90 مليار دولار تعويضات ألمانية لإسرائيل

لقد احتفلت الدولتان ألمانيا وإسرائيل هذا العام بمرور 60 سنة على بدء علاقاتهما الدبلوماسية حيث أنها بدأت عام 1965 إلا أن الدعم المالي الألماني لإسرائيل بدأ قبل ذلك بكثير، وتحديدا في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، حيث دفعت تعويضات كبيرة لإسرائيل عن الهولوكوست، مما جعل ألمانيا مساهما فعالا في دعم الاقتصاد الإسرائيلي ومشروعات البنية التحتية عند بداية الإعلان عن تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948 وذلك بموجب اتفاقية لوكسمبورج المبرمة في سبتمبر، واستمر تدفق الأموال الألمانية إلى الخزينة الإسرائيلية منذ ذلك الوقت حتى الآن. كما لعبت الكفاءات العسكرية الألمانية دورها في بناء الجيش الإسرائيلي بجانب كفاءات متنوعة في مختلف المجالات الأخرى.

بدورها حرصت إسرائيل على الضغط للمطالبة بعدم نقل السيادة إلى أي حكومة ألمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قبل حصولها على تعويضات هائلة لها عن المحرقة كما كانت هناك تهديدات بحرب اقتصادية على ألمانيا الغربية- وقتها- ما لم تقدم عرضا سخيا يُرضي تل أبيب، وتزامن ذلك مع ضغوط كل من الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا من خلال جون ماكلوي، المفوض السامي في ألمانيا، لنفس الهدف.

وتكشف تقديرات منظمة “مؤتمر المطالبات اليهودية المادية ضد ألمانيا” عن تلقي إسرائيل لأكثر من 90 مليار دولار تعويضات من ألمانيا على مدار أكثر من سبعة عقود. كما قطعت ألمانيا على نفسها التزاما بتقديم معاشات تقاعد بقيمة 52 ألف دولار للناجين من المحرقة. وفي المقابل كانت هذه الأموال الألمانية للدولة العبرية بمثابة ضربة قاسمة للفلسطينيين أصحاب الأرض التي سلبها الاحتلال الإسرائيلي منهم وكان من نتائجها تهجير وتشريد ما يقرب من 750 ألف فلسطيني.

وعلى مدار أكثر من نصف قرن تقوم مؤسسة فريدريخ إبرت في إسرائيل وألمانيا دورا حيويا لتوثيق العلاقات الثنائية بين البلدين والتي تعمد إلى تأسيسها على خلفيات أحداث الهولوكوست وضحاياها. كما يوجد تعاون متشابك في شتى المجالات بما فيها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.

وتعد الجالية اليهودية في ألمانيا من أبرز الجاليات ويقترب عددها من ربع مليون نسمة. وفي المقابل يوجد في إسرائيل ما يقرب من 100 ألف إسرائيلي من أصل ألماني إلى جانب المهاجرين من ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي. ولاشك أن هذه الجاليات تسهم في توطيد الصلات بين الطرفين.

دعم عسكري مفتوح

ولا يقتصر الدعم الألماني على المنح المالية فقط إنما يمتد ليشمل مساعدات عسكرية ضخمة من أسلحة وذخائر، تحت شعار أن أمن إسرائيل مصلحة عليا لألمانيا، يتم توجيها لضرب وقتل الشعوب العربية. وكانت أبرز محطات الدعم الألماني العسكري لإسرائيل في حرب يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973 والتي كانت ألمانيا الغربية – وقتها- الدولة الوحيدة في العالم التي سارعت بتلبية التوجيهات الأمريكية بإمداد حليفتهم إسرائيل بالأسلحة والمعدات وأرسلت مدافع ودبابات وذخيرة عبر ميناء بريمن وحملتها السفن الإسرائيلية للاستعانة بها في الحرب.

وتعود إرهاصات التعاون الأولى بين البلدين في المجال العسكري حينما نجح شيمون بيريز المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية وقتها في التواصل المباشر مع جوزيف شتراوس، وزير دفاع ألمانيا الغربية في النصف الثاني من الخمسينيات، للحصول على شحنات الأسلحة من مخازن الجيش الألماني.

ومنذ عام 2020 إلى عام 2023، استحوذت ألمانيا على ما يقرب من ثلث إمدادات الأسلحة الصادرة إلى إسرائيل، وتشمل فرقاطات بحرية وطوربيدات، ومركبات مدرعة وشاحنات وأسلحة مضادة للدبابات وذخيرة. وفي عام 2023 تضاعفت قيمة الأسلحة الألمانية لإسرائيل عشر مرات قيمتها في العام السابق عليه ووصلت قيمتها إلى 326 مليون يورو.

ورغم الدعوات بوقف إرسال السلاح لإسرائيل، استمر الدعم العسكري وأرسلت الحكومة الألمانية 2024 لإسرائيل أسلحة بقيمة 160 مليون يورو.

ولازال هذا الدعم مستمرا حتى مع اضطرار ألمانيا لتعليق بعض الصفقات في بعض الأوقات بسبب الانتقادات والضغوط الدولية عليها كما حدث مؤخرا، لكنه مجرد إجراء مؤقت لاحتواء الغضب العالمي والشعبي الداخلي أيضا.

قد يثور التساؤل حول الأسباب التي دفعت ألمانيا للتحول في هذه العلاقة بين ليلة وضحاها من بلد حاكمها كان يستهدف اليهود إلى دولة تفتح مخازن أسلحتها على مصراعيها للدولة العبرية. والإجابة عن هذا التساؤل ترتبط بأحداث عالمية في تلك الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي منيت فيها ألمانيا بهزيمة منكرة.  فلا يمكن فصل الأمر عن أحداث تلك الحقبة من التاريخ العالمي حيث بلغت الديون الألمانية مداها آنذاك وكان الحل في الموافقة على تسوية ترضي اليهود بالدرجة الأولى حتى لا تتعثر المفاوضات الخاصة بنتائج مؤتمر لندن نظرا للدور المؤثر للدوائر المصرفية اليهودية ونفوذها على مسار المؤتمر.

ولكن..إذا كان التعاون في تلك الفترة البعيدة مرتبطا بظروف وملابسات دولية استثنائية اضطرت ألمانيا المهزومة في الحرب العالمية للتعاطي معها والرضوخ لها، فما الذي يجبر ألمانيا القوية الآن لاستمرارها في ذات النهج والعمل على إرضاء اليهود ودعمهم؟!

عكس التيار

من يتابع التصريحات الرسمية للمسؤولين الألمان يلاحظ أن ألمانيا تسير عكس اتجاه التيار الأوروبي والعالمي، متجاهلة ما يحدث في غزة وما تفعله الحكومة الإسرائيلية اليمينية من تجاوزات وجرائم. كما تبدو متخلفة عن الركب الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني في الوقت الذي تقدم سلاحها وذخائرها لإسرائيل بشكل أثار استفزاز منظمة العفو الدولية وجعلها تهدد بأن تصبح ألمانيا شريكة لإسرائيل في جرائم الحرب التي ترتكبها بحق الفلسطينيين. وهو توجه لا يرضي الكثيرين في الداخل الألماني ممن يتساءلون إلى متى نظل ندعم إسرائيل رغم جرائمها، ومع ذلك لا توجد ضغوط شعبية قوية كما يحدث في دول أوروبا الأخرى، مكتفين بإسقاط المساعدات على أهل غزة. وهناك من يفسر ذلك بالإحساس المتجذر بالذنب الجماعي في الحرب العالمية الثانية. وهو ما يروج له السفير السابق شيمون شتاين ويقول أن سبب عدم الضغط على إسرائيل يكمن في حساسية الألمان الشديدة من اتهامهم في الأحداث التاريخية الماضية بشكل يضطرهم لعدم الانحياز لأي طرف! وهو كلام ينطوي على مغالطة فاضحة وهي أن ألمانيا بالفعل تتحيز ولكن للطرف الصهيوني المحتل للأرض ضد أصحاب الحق.

وبينما تقدم الدعم المفتوح لإسرائيل، تعمد ألمانيا إلى تجاهل القضية الفلسطينية وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، والعمل على القضاء على رموزها ومطاردة من يدعمها أو يؤيدها وفرض إجراءات للتضييق عليهم حتى لو كان الدعم رمزيا بارتداء الكوفية الفلسطينية مثلا.

وعلى الرغم من تغير طفيف في ملامح الموقف الألماني من الجرائم الإسرائيلية خاصة بعد انتقادات المستشار الألماني فريدريش ميرتس في بداية توليه الحكم للعملية الإسرائيلية العسكرية وتصريحاته بأن: ” التسبب في معاناة المدنيين بهذا الشكل المتزايد لم يعد مبرراً بمحاربة إرهاب حماس”، ومع ذلك لم تتأخر ألمانيا عن تقديم أي دعم تطلبه إسرائيل.

الضغوط الداخلية والتغيرات الجوهرية!

ولكن الضغوط الداخلية نجحت في اتخاذ بعض القرارات النوعية مثل تقليل عدد تراخيص تصدير الأسلحة لإسرائيل مؤخرا. وجاء ذلك نتيجة ضغوط برلمانية ومطالبات من نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان الألماني بوقف تصدير السلاح للدولة العبرية ووقف المساهمة في نشر كوارث إنسانية وانتهاك للقانون الدولي والتورط مع إسرائيل في جرائم حرب.

وبالفعل تراجعت التراخيص الممنوحة لتصدير المعدات العسكرية لإسرائيل هذا العام ولم تتجاوز 28 مليون يورو في الربع الأول من عام 2025.

 ولكن هل يعني ذلك تغيرات جوهرية في الموقف الألماني من دعمه اللامحدود للدولة العبرية؟

من الصعب الجزم بذلك لأن العلاقات الألمانية الإسرائيلية وإن كانت قائمة على معالجة إرث الهولوكوست في الأساس إلا أنها تطورت وتشعبت وأصبحت شراكة استرايجية شديدة العمق وتمتد لتشمل كافة مجالات التعاون وعلى رأسها الاقتصاد والسياسة والجانب العسكري.

وعليه فإن المسؤولية التاريخية ليست وحدها التي ساهمت في ترسيخ هذا التعاون بين الدولة العبرية وعدوتها اللدودة في الماضي. كماتجاوزت مسألة عقدة الذنب الألمانية والعمل على تقديم الترضية الكاملة لليهود.

وبلغة المال والاقتصاد الذي يعتبر عصب الحياة فإن ألمانيا تعتبر شريكا تجاريا رئيسيا لإسرائيل بل هي أكبر شريك أوروبي لها وثاني أهم شريك تجاري عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك تعاون قائم بينهما في مجالات اقتصادية مهمة مثل السيارات والتكنولوجيا النظيفة والبحث العلمي.

كما يوجد تعاون استراتيجي وأمني بين البلدين يتضمن تبادل استخباراتي ومعلوماتي بما في ذلك الدفاع السيبراني الذي تستفيد منه ألمانيا في تعاونها مع إسرائيل، وفي المقابل تعتمد الأخيرة على ألمانيا كمورد أساسي للأسلحة وخاصة الغواصات.

وبطبيعة الحال لايمكن أن يتم ذلك بدون وجود تعاون سياسي وتنسيق دبلوماسي على أعلى مستوى لدرجة وجود شبه تطابق في مواقف البلدين من القضايا الإقليمية والدولية. كما تدعم ألمانيا إسرائيل في مختلف المواقف والمحافل الدولية.

وأدى وجود جاليات مشتركة لدى الجانبين إلى حدوث تقارب اجتماعي وثقافي تجاوز الكراهية القديمة.

لذلك يصعب علينا الجزم بوجود تغيرات جوهرية في المواقف الألمانية من دولة الاحتلال الإسرائيلي في المدى القريب وأن ما يحدث من تغيرات طفيفة إنما هو مناورة سياسية من الإدارة الألمانية لاحتواء وامتصاص الغصب الشعبي داخليا وخارجيا.