عاش زاهداَ ووهب حياته للشعر واللغة العربية
كثيرة هي العوامل التي صنعت عبقرية أمين آل ناصر الدين، لعل أهمها وجود أب رعاه وحبب إليه الشعر واللغة. كان والده من أعيان القرية، وعلى صلة بكبار شعراء وكتاب أهل زمانه، مثل الشيخ خليل اليازجي ورامز خليل سركيس صاحب جريدة “لسان الحال”. كان الأمين منذ طفولته طُلعة، لا حد لفضوله وحبه للعلم. وقيل إنه بدأ يكتب الشعر وهو بعد طفل. ومن شعره وهو صغير بيتان أهداهما إلى الشيخ خليل اليازجي وفيهما يقول:
سلامي إلى الشيخ الخليل فإنه / لبيب بإهداء السلام خليق
تذكرني ريح الصبا لطف ذاته / فأصبو إليه دائماً وأتوق
ويقال إنه عندما قرا الشيخ خليل تلك الأبيات، لم يصدق أنها من أعمال طفل صغير. وحين تأكد له ذلك توسم فيه النجابة، وأجابه بهذه الأبيات:
أنت الصغير الكبير النفس منتسباً / بها لأسلافك الشم العرنين
هلال سعد نرجي منه بدر سنى / يلوح في الأفق باليمن مقرون
قد وجدت منك بمدح لي فحق به / مني لك الشكر يهدى غير ممنون
غالبت فن القريض المستطاب وقد /غلبته بانتصار منك ميمون
منه لك الأمن والنصر المبين ولا / بدع فأنت أمين ناصر الدين
كان أمين آل ناصر الدين كلفاً بالفصحى إلى حد العبادة، ولم يكن يطيق أن يعتريها لحن أو ضعف. ويقول خليل رامز سركيس “إن الغيرة على الفصحى بلغت بأمين ناصر الدين إلى الهيام بها والتقديس لها”. ويضيف في مقدمة كتابه المذكور: “نحن في حضرة إمام لغوي يكاد لا يكون له عديل في هذا الزمان، بعدما غلبت العجلة على معظم أسباب الحياة. كما أنه لم يذكر في تاريخ العربية، إلا الأقلون ممن زاولوها على أنها علم برأسه. ومن هؤلاء سيبويه، والخليل، وابن مالك، والأصمعي، والثعالبي، وإبراهيم اليازجي، وعبد الله البستاني، وأمين آل ناصر الدين”.
الأوراق التي في حوزتنا تفيد أن أمين آل ناصر الدين كتب سبع روايات هي “حسرات المحبين”، “العاقبة الحسناء”، “الجاهل”، “الفتاة المغربية”، “الجاسوس العاشق”، “جزاء الخيانة”، “غادة بصرى” وكتاباً بعنوان “البينات في النقد الأدبي واللغوي”. لا ندري ما إذا كانت تلك الروايات من نوع قصير نشرته الصحف، أو طويل على شكل كتب مكتملة. هذه أمور نترك جلاء أمرها للدارسين، لكن الأكيد أن الأمين، وضع أربعة دواوين هي “ثمرات الأفكار” و “صدى الخاطر” و “ديوان الفلك” و “معجم الروافد”. أما آخر كتبه والأكثر شهرة، فهو “دقائق العربية”، وفيه أنزل الأمين الفصحى، كما يقول سركيس، ” في المنزلة الأولى من عنايته، فتمرس بالمسألة اللغوية تمرس الفيلسوف بالمسألة الفلسفية”.
وكانت بين أمين آل ناصر الدين ورامز سركيس صداقة قوية. وقد نظم الأمين في صاحب “لسان الحال” قصيدة منها الأبيات الآتية:
أرامز لولا أن خلقك روضة / لما حملت في الصبح منه الصبا نشرا
وقد ماثل الماء النمير عذوبة / إذا فيأته الدوح أغصانها الخضرا
وزانك لطف مثل إغفاءة الضحى / وحلو حديث ذو الذكاء به يغرى
وعفة نفس قارنتها رصانة / وصحة فهم والحقائق تستقرى
جريت على نهج السداد كما جرى / أبوك الذي كانت مآثره تترى
كانت لعائلة سركيس في مناطق الشوف مكانة خاصة لدى الأمراء التوخيين. وفي كتابه “تاريخ الأسر الشرقية العامة” يأتي المؤرخ عيسى اسكندر المعلوف على ذكر آل سركيس فيقول:” أسرة قديمة نشأت في قرية “قيطو” من قرى بلاد البترون. قدم جدها سركيس سركيس إلى قصبة عبيه في شوف لبنان مقر الأمراء التوخيين حكام غرب لبنان، فأكرم مثواه السيد عبد الله التنوخي ( 1417- 1479م) الشهير بورعه وأدبه وكرم أخلاقه وعلومه، فنال سركيس لديه مكانة هو وأولاده، حتى أنه أمر ببناء كنيسة لهم باسم شفيعهم مار سركيس، ولا تزال بإدارة كاهن منهم إلى يومنا”. ويذكر المعلوف أن عبد الله التنوخي خص السراكسة بوصية هذا نصها” ويكون لآل سركيس من غلة أملاكنا مئة حق زيت ومئة شنبل قمح سنوياً تعطى لهم موفات براءة عن ذمتنا”. بقيت هذه الوصية سارية المفعول مئات السنين ولا تزال. وكان مدير الأوقاف الدرزية الراحل عارف النكدي، يزور بيت سركيس في بيروت للقاء رامز سركيس، وابنه خليل في ما بعد، وفي يده حق زيت وحفنة قمح كبادرة وفاء، وتقليد رمزي يذكر بتلك الوصية التاريخية، وكيف تكون أخوة الجوار بين العائلات الروحية التي كانت تعمر تلك المناطق الجميلة من غرب لبنان.
يقول جرجي نقولا باز في كتابه “العقد الثمين في تكريم الأمين” إن جهان، والدة أمين آل ناصر الدين هي ابنة بشير بك نكد، وإن وجده لأبيه هو الأمير يوسف بن ناصر الدين الثاني، الذي بقي يتولى منصب “وكيل الطائفة” إلى ألغي هذا المنصب أيام داود باشا، أول متصرف لجبل لبنان. وقد اشتهر الأمير يوسف في الحرب الأهلية عام 1860 بحمايته للمسيحيين في منطقته. وفي عهد السلطان العثماني عبد المجيد سافر إلى الأستانة فلقي حظوة لدى رشيد باشا الصدر العظم، الذي سلمه فرماناً من السلطان لقبه فيه بلقب “أمير” وهو لقب أجداده. غير أنه “لم يطلع على الخط السلطاني إلا أفراد الأسرة والأصدقاء المخلصين…قائلاً إن المرء بعمله وأخلاقه، لا بلقبه”.
وأخيراً، لا نجد ما نختم به هذا المقال عن أمين آل ناصر الدين غير كلمات كتبها ابن عمه الأديب نديم آل ناصر الدين، إذ يقول ” ويوم استخار الله أمير الدولتين إلى جواره في السادس من تشرين الأول 1953 كانت مناحته أعظم ما شهد لبنان من مناحات العظماء، إذ تمثلت الأمة العربية فيها من محيطها إلى خليجها بأكابر شعرائها وأدبائها وعلمائها وسراتها وشيوخها وشبابها. وكانت الميادين الفسيحة أمام دارته في “كفرمتى” كالبحر الزاخر يموج بالناس الذين تهافتوا من كل فج وصوب لوداعه وذرف الدموع على جثمانه. كان إمام عصره وأديبه الفذ وشاعره المحلق في كل سماء، المحيط بكل غرض من أغراض الأدب العربي شعراً ونثراً، الغني بخلقه عن كل تعريف، المرتفع بإبائه فوق كل فوق. رحم الله الأمين العظيم وأسكنه في جواره إلى جانب الأبرار والصديقين”.