عاش زاهداَ ووهب حياته للشعر واللغة العربية
من بين الكتب التي أعطاني إياها الأديب الراحل، خليل رامز سركيس، نسخة مصورة من مؤلف عنوانه “وصية في كتاب” كان وضعه سنة 1960 عن الشاعر واللغوي أمين آل ناصرالدين.
قرأت الكتاب بشغف ووجدت نفسي أتصل بالصديق علي ناصر الدين المقيم في باريس، وهو ابن أخ الأمين، طالباً إليه أن يمدني بما يعرف عن عمه، فأرسل إلي أوراقاً متفرقة غير منتظمة، عن ذلك العلامة المنسّي الذي وهب حياته للشعر والنثر واللغة.
كتاب سركيس عن أمين آل ناصر الدين ليس تأريخاً أو تفصيلاً عن حياة الرجل، بل رسالة صادقة في الوفاء والترحم، منشأها علاقة كانت بين أديب شاب، يسكن في المدينة، ومعلم مُسّن يسكن في الجبل. دامت العلاقة سنوات، لكن الظروف لم تشأ أن يلتقيا على رغم ما بين المدينة والجبل من قرب المسافة. كان الشاب (خليل رامز سركيس) يستفتي المعلم المُسّن (أمين آل ناصر الدين) في مسائل اللغة، فيختصه الأخير بصحائف، لم يلبث سركيس أن جمعها ودونها وشرح الأساليب التي كان يعتمدها صاحبها في تهذيب اللغة، وتصويب ما لحق بها من أخطاء العامة.
قبل كتاب سركيس وتلك الأوراق التي وصلتني من الصديق علي، لم أكن قد قرأت شيئا لأمين آل ناصر الدين أو عنه، ولا حتى كلمة واحدة ويا للأسف. وصرت أتساءل ما إذا كان الحق علي في ذلك، أم على حكوماتنا “العتيدة” التي تعاقبت على إدارة “بلد الإشعاع والنور” فتغافلت ولا تزال، عن تقدير علماء الوطن وأدبائه، الأحياء منهم، ومن طواهم النسيان؟
ولد أمين آل ناصر الدين سنة 1876 في ضيعة “كفرمتى” التابعة لقضاء عاليه، وربي في بيت أدب وشعر. في السابعة من عمره دخل مدرسة القرية، وفي العاشرة بدأ ينظم الشعر ويثير إعجاب من حوله. كان أبوه علي ناصر الدين ملماً بالآداب، يسهر على تنشئته، ويعلمه أصول الصرف والنحو والإعراب وبحور الشعر. سنة 1892 التحق بالمدرسة الداودية لدراسة العربية وآدابها، ولما بلغ الحادية والعشرين تولى الإِشراف على جريدة “الصفاء” التي كان والده قد اصدرها سنة 1906 فحولها من علمية أدبية إلى جريدة سياسية يغلب عليها الطابع الأدبي، وأضاف إليها بابا جديداً حول اللغة، وكيف يجب أن تُكتب لتكون منزهة عن الخطأ. ويقال عنه إنه كان بارعاً في اللغة حداً جعله يصدر طبعة كاملة من جريدة “الصفاء” شعراً. في العام 1934، هجر الصحافة واتجه إلى التعليم في مدرسة المعارف التي أنشأها والده، ثم في المدرسة الداودية، وهذه كانت تحت إشراف أبيه. كانت “الداودية”، من أهم مدارس لبنان في ذلك الزمان، وكان يرأسها الأمير نسيب أرسلان. وفي سنة 1917 تولّى الأمين الاشراف على إدارتها.
كان أمين آل ناصر الدين كما يقول عنه عارفوه دمث الأخلاق متواضعاً. عاش السنوات الأخيرة من حياته في شبه عزلة تامة، منصرفا إلى البحث والعلم. ويقول في رسالة إلى صديق يعلل فيها أسباب عزلته: “عاهدت النفس منذ سنوات على التزام العزلة في هذه الأيام الحافلة بالرذائل والمعايب والمفاسد والمساوئ، وعززت العهد بيني وبين نفسي بقسم لا أجد إلى الحنث فيه سبيلاً. وإنني مقيد بيمين مغلظة لا يحلني منها إلا صلاح الحال، وانتعاش أخلاق الناس من عثارها. يومئذ أستطيع البروز من معتزلي، وإلا لزمته إلى يوم أودع هذه الدنيا غير آسف عليها”. لم يخلبه لقب الأمير الذي ورثه عن أبائه وأجداه. وفي أطروحة عن “أمين ناصر الدين الشاعر واللغوي” قدمها يوسف أيوب الحداد للجامعة اللبنانية سنة 1969 نص رسالة كان الأمين بعث بها إلى أحد تلاميذه، يرفض فيها وساماً كان بعض أصدقائه ينون تقديمه له ويقول: ” اتفقتم منذ سنين وبعض الأصدقاء الذين يريدون لي خيراً على مسألة الوسام، فرفضت قبوله مثنى وثلاث ورباع، وما راعني إلا وصولك ذات يوم متأبطا (البراءة)، فأخذت أعترض وأنت تجهد في إقناعي، إلى أن كان من الأمر ما كان، واضطررت إلى رد (البراءة)، لتردها إلى الذين بعثوك بها”.
حياته كانت خشنة متقشفة. لم يتزوج، ولم تجذبه شهوات الدنيا ومتاعها، لكنه كان مع ذلك ظريفا محباً للنكات والطرائف، حلو العشرة حسن الحديث. الذين جايلوه يحكون عن “طرائفه” الشيء الكثير. من هؤلاء الأستاذ في الجامعة الأميركية الدكتور سامي نسيب مكارم، الذي كان ووالده من المقربين إليه. يقول الدكتور مكارم: “زرته مرة وكنت لا أزال صبياً صغير السن. كان ذلك رفقة والدي الذي عُرفت عنه الرصانة المتناهية. فلما استقر بنا المقام، سألني المضيف أمام والدي إن كنت أتقن الإعراب، فأجبته: “بقدر الإمكان”. فقال:” إذاً أعرب جملة “أبيك والخوري” فحرت وأخذت أسال نفسي: لماذا جر هذا اللغوي الخبير ما يجب فيه الرفع؟ وبقيت دون جواب. فلما طال بي الأمر قال: ألا تعرف كيف تعرب “أبي كوى الخوريًّ” فتبسمت وتبينت مداعبته. ثم أردف قائلاً: عسى ألا يكون أبوك الخورية! ونظرت إلى أبي فإذا هو مغرق في الضحك على غير عادته. فضحكت كثيراً وكان ضحكي من ضحك أبي، ثم من النكتة”.
عالج أمين آل ناصر الدين في شعره موضوعات كثيرة منها الاجتماعي والوطني والتاريخي. وكان ناثراً قديراً ولغوياً من طراز رفيع. يكفي أن نقرأ كتابه القيم “دقائق العربية” لنعرف حجم الجهد الذي بذله في تصحيح العربية وتهذيبها. في سنة 1933 أقيم للأمين حفل عام منح فيه لقب أمير الدولتين “دولة الشعر ودولة النثر” حضرته جموع غفيرة من العاصمة وقرى الجبل. وألقى الأمين قصيدة عصماء تقطر تواضعاً، فنوه بجميل المحتفيين به والمتحدثين عنه. من هذه القصيدة الأبيات الآتية:
عجبي لأهل الفضل يلفتهم مثلي/ وما أنا إن عد الرجال بذي فضل
بدا لهم عجزي فمنوا بعطفهم / فكنت كذاوي النبت يخضل بالوبل
كثير على مثلي قليل حفاوة / فما لي أرى حفلاً يضم إلى حفل
إذا كان شأني عنهم مثل ما أرى/ فهل تركوا شيئاً لذي الأدب الجزل
وما كنت في أهل البيان سوى / يسطر ما يملى عليه ويستملي
فإن يعلو بي عن رتبتي حسن ظنهم / فكم رفع الميزان ما ليس ذا ثقل
وفي ذلك اليوم ينظم “شاعر الأرز الأكبر” شبلي الملاط قصيدة منها الأبيات الآتية:
حق أسى وطني وحسرته على / صنو البلابل والقيان العزف
وفتى الزعامة من إذا ناديته / لمروءة لبى ولم يتوقف
العالم العلامة اللغوي الذي / دهش اليراع كشاعر ومؤلف
وملقن النشء الثقيف دقائقاً /عربية بمصنف مستطرف
يرقى إلى البيت التنوخي أصله / والأصل تتبعه الفروع وتقتفي
من آل قحطان الذين تصرفوا / في عهدهم بالشرق أي تصرف
الماجد الجبلي ساكن هضبة / روعاء تغرق بالظليل المورق
أفنى عزيز العمر تحت سمائها / في عبر سبعين خلون ونيف
كثيرة هي العوامل التي صنعت عبقرية أمين آل ناصر الدين، لعل أهمها وجود أب رعاه وحبب إليه الشعر واللغة. كان والده من أعيان القرية، وعلى صلة بكبار شعراء وكتاب أهل زمانه، مثل الشيخ خليل اليازجي ورامز خليل سركيس صاحب جريدة “لسان الحال”. كان الأمين منذ طفولته طُلعة، لا حد لفضوله وحبه للعلم. وقيل إنه بدأ يكتب الشعر وهو بعد طفل. ومن شعره وهو صغير بيتان أهداهما إلى الشيخ خليل اليازجي وفيهما يقول:
سلامي إلى الشيخ الخليل فإنه / لبيب بإهداء السلام خليق
تذكرني ريح الصبا لطف ذاته / فأصبو إليه دائماً وأتوق
ويقال إنه عندما قرا الشيخ خليل تلك الأبيات، لم يصدق أنها من أعمال طفل صغير. وحين تأكد له ذلك توسم فيه النجابة، وأجابه بهذه الأبيات:
أنت الصغير الكبير النفس منتسباً / بها لأسلافك الشم العرنين
هلال سعد نرجي منه بدر سنى / يلوح في الأفق باليمن مقرون
قد وجدت منك بمدح لي فحق به / مني لك الشكر يهدى غير ممنون
غالبت فن القريض المستطاب وقد /غلبته بانتصار منك ميمون
منه لك الأمن والنصر المبين ولا / بدع فأنت أمين ناصر الدين
كان أمين آل ناصر الدين كلفاً بالفصحى إلى حد العبادة، ولم يكن يطيق أن يعتريها لحن أو ضعف. ويقول خليل رامز سركيس “إن الغيرة على الفصحى بلغت بأمين ناصر الدين إلى الهيام بها والتقديس لها”. ويضيف في مقدمة كتابه المذكور: “نحن في حضرة إمام لغوي يكاد لا يكون له عديل في هذا الزمان، بعدما غلبت العجلة على معظم أسباب الحياة. كما أنه لم يذكر في تاريخ العربية، إلا الأقلون ممن زاولوها على أنها علم برأسه. ومن هؤلاء سيبويه، والخليل، وابن مالك، والأصمعي، والثعالبي، وإبراهيم اليازجي، وعبد الله البستاني، وأمين آل ناصر الدين”.
الأوراق التي في حوزتنا تفيد أن أمين آل ناصر الدين كتب سبع روايات هي “حسرات المحبين”، “العاقبة الحسناء”، “الجاهل”، “الفتاة المغربية”، “الجاسوس العاشق”، “جزاء الخيانة”، “غادة بصرى” وكتاباً بعنوان “البينات في النقد الأدبي واللغوي”. لا ندري ما إذا كانت تلك الروايات من نوع قصير نشرته الصحف، أو طويل على شكل كتب مكتملة. هذه أمور نترك جلاء أمرها للدارسين، لكن الأكيد أن الأمين، وضع أربعة دواوين هي “ثمرات الأفكار” و “صدى الخاطر” و “ديوان الفلك” و “معجم الروافد”. أما آخر كتبه والأكثر شهرة، فهو “دقائق العربية”، وفيه أنزل الأمين الفصحى، كما يقول سركيس، ” في المنزلة الأولى من عنايته، فتمرس بالمسألة اللغوية تمرس الفيلسوف بالمسألة الفلسفية”.
وكانت بين أمين آل ناصر الدين ورامز سركيس صداقة قوية. وقد نظم الأمين في صاحب “لسان الحال” قصيدة منها الأبيات الآتية:
أرامز لولا أن خلقك روضة / لما حملت في الصبح منه الصبا نشرا
وقد ماثل الماء النمير عذوبة / إذا فيأته الدوح أغصانها الخضرا
وزانك لطف مثل إغفاءة الضحى / وحلو حديث ذو الذكاء به يغرى
وعفة نفس قارنتها رصانة / وصحة فهم والحقائق تستقرى
جريت على نهج السداد كما جرى / أبوك الذي كانت مآثره تترى
كانت لعائلة سركيس في مناطق الشوف مكانة خاصة لدى الأمراء التوخيين. وفي كتابه “تاريخ الأسر الشرقية العامة” يأتي المؤرخ عيسى اسكندر المعلوف على ذكر آل سركيس فيقول:” أسرة قديمة نشأت في قرية “قيطو” من قرى بلاد البترون. قدم جدها سركيس سركيس إلى قصبة عبيه في شوف لبنان مقر الأمراء التوخيين حكام غرب لبنان، فأكرم مثواه السيد عبد الله التنوخي ( 1417- 1479م) الشهير بورعه وأدبه وكرم أخلاقه وعلومه، فنال سركيس لديه مكانة هو وأولاده، حتى أنه أمر ببناء كنيسة لهم باسم شفيعهم مار سركيس، ولا تزال بإدارة كاهن منهم إلى يومنا”. ويذكر المعلوف أن عبد الله التنوخي خص السراكسة بوصية هذا نصها” ويكون لآل سركيس من غلة أملاكنا مئة حق زيت ومئة شنبل قمح سنوياً تعطى لهم موفات براءة عن ذمتنا”. بقيت هذه الوصية سارية المفعول مئات السنين ولا تزال. وكان مدير الأوقاف الدرزية الراحل عارف النكدي، يزور بيت سركيس في بيروت للقاء رامز سركيس، وابنه خليل في ما بعد، وفي يده حق زيت وحفنة قمح كبادرة وفاء، وتقليد رمزي يذكر بتلك الوصية التاريخية، وكيف تكون أخوة الجوار بين العائلات الروحية التي كانت تعمر تلك المناطق الجميلة من غرب لبنان.
يقول جرجي نقولا باز في كتابه “العقد الثمين في تكريم الأمين” إن جهان، والدة أمين آل ناصر الدين هي ابنة بشير بك نكد، وإن وجده لأبيه هو الأمير يوسف بن ناصر الدين الثاني، الذي بقي يتولى منصب “وكيل الطائفة” إلى ألغي هذا المنصب أيام داود باشا، أول متصرف لجبل لبنان. وقد اشتهر الأمير يوسف في الحرب الأهلية عام 1860 بحمايته للمسيحيين في منطقته. وفي عهد السلطان العثماني عبد المجيد سافر إلى الأستانة فلقي حظوة لدى رشيد باشا الصدر العظم، الذي سلمه فرماناً من السلطان لقبه فيه بلقب “أمير” وهو لقب أجداده. غير أنه “لم يطلع على الخط السلطاني إلا أفراد الأسرة والأصدقاء المخلصين…قائلاً إن المرء بعمله وأخلاقه، لا بلقبه”.
وأخيراً، لا نجد ما نختم به هذا المقال عن أمين آل ناصر الدين غير كلمات كتبها ابن عمه الأديب نديم آل ناصر الدين، إذ يقول ” ويوم استخار الله أمير الدولتين إلى جواره في السادس من تشرين الأول 1953 كانت مناحته أعظم ما شهد لبنان من مناحات العظماء، إذ تمثلت الأمة العربية فيها من محيطها إلى خليجها بأكابر شعرائها وأدبائها وعلمائها وسراتها وشيوخها وشبابها. وكانت الميادين الفسيحة أمام دارته في “كفرمتى” كالبحر الزاخر يموج بالناس الذين تهافتوا من كل فج وصوب لوداعه وذرف الدموع على جثمانه. كان إمام عصره وأديبه الفذ وشاعره المحلق في كل سماء، المحيط بكل غرض من أغراض الأدب العربي شعراً ونثراً، الغني بخلقه عن كل تعريف، المرتفع بإبائه فوق كل فوق. رحم الله الأمين العظيم وأسكنه في جواره إلى جانب الأبرار والصديقين”.