أَسْرى الـ لازمن والـ لامكان

منذ الأزل، كان الزمن رفيق الإنسان في رحلته الوجوديّة، يتدفّق كالنّهر الذي لا يعرف السّكون، يُشكّل ملامحَ الحضارات، ويُعيد تشكيلها كلّما اجتاز مرحلةً جديدة. الزمن هو القوة الخفيّة التي تسير بالعالم نحو المجهول، وليس مجرّد تعاقب للأيّام والسنوات. قوّةٌ تفرض تحوّلات عميقة على المجتمعات، وتُعيد ترتيب الأولويّات، ممّا يجعل الإنسان دائم التأمّل في جوهر هذه التحوّلات، متسائلًا في لحظات التجلّي: هل نحن صنّاع التغيير أم مجرّد حصىً تجرفها قوّة النهر العظيمة ؟

يواجه الإنسان تحديًّا وجوديًّا يتمثل في الحفاظ على جوهره الإنساني وقِيَمه الأخلاقية وسط ثورة التكنولوجيا والتبدلات السياسية والاجتماعية. يقول الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور: “إنّ الهويّة الإنسانيّة ليست مجرّد استمراريّة عبر الزمن، بل هي أيضًا صراع بين الذاكرة والنسيان، بين التغيّر والثبات.” وبين هذين النقيضين، يظلّ الإنسان معلّقًا بين الحنين للماضي والقلق من المستقبل، بين رغبة في الانطلاق نحو المجهول وخشية فقدان ذاته في طريق لا رجعة منه.

“الثقافة ليست ملكًا ثابتًا، بل هي عملية متجدّدة من التواصل والتفاعل”، قال إدوارد سعيد، ولعلّ الزمن في هذا السياق أشبه برياح عاتية، تحمل معها بذور التغيير، لكنّها قد تجتثّ جذور الهويّة إذا لم يكن الإنسان حارسًا يقظًا على شجرة وجوده، مع تسارع العولمة وتحوّل العالم قرية صغيرة، تتداخل فيها الثقافات وتتقاطع الأفكار بشكل غير مسبوق. غير أن هذه التداخلات لم تأتِ من دون تحدّيات، فقد أوجدت نوعًا من الصراع بين القيم التقليديّة والمفاهيم الحديثة، بين الأصالة والانفتاح، بين الفرديّة والجماعيّة. باتت المجتمعات أمام خيارات مصيريّة: هل تحافظ على إرثها الثّقافيّ أم تنصهر في بوتقة العولمة؟ وهل يمكن تحقيق التوازن بين التراث والتحديث من دون أن تفقد الهويّة خصوصيّتها؟

شهد العالم خلال القرن الماضي تحوّلات سياسيّة دراماتيكيّة، من الثنائيّة القطبيّة في الحرب الباردة، إلى النظام الأحادي القطبيّة بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، وصولاً إلى عودة التعدديّة القطبيّة في السنوات الأخيرة. إنّ هذا التغيّر في موازين القوى يعيد تشكيل الخرائط الجيوسياسيّة، ويخلق تحدّيات جديدة تتعلّق بالصراعات الإقليميّة، وتوزيع الثروات، والسيادة الوطنيّة. ولكن التحدّي الأبرز يكمن في مدى بقاء القيم الإنسانيّة في ظل هذه التغيّرات، وهو ما أشار إليه الروائي  والكاتب الأفرو أمريكي جيمس بولدوين بقوله: “ليس كل ما يُواجَه يمكن تغييرُه، ولكن لا يمكن تغيير شيء من دون مواجهته.”

التحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم تمسّ جوهر الإنسان ومعنى وجوده. فالسؤال الحقيقي ليس حول ما إذا كان الزمن سيغيّر العالم، بل حول مدى قدرتنا على استيعاب هذه التغيّرات والتكيّف معها من دون أن نفقد إنسانيّتنا.

هل نحن مستعدون للمستقبل؟ لا سيّما وأن “الزمن ليس مجرّد إطار خارجي نتحرّك فيه، بل هو جوهر وجودنا ذاته” على قول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.  فهل نحن من يرسم ملامح الغد، أم أننا أسرى “اللازمن واللامكان” كما عند كانط؟ أم نحن مجرّد ظلال تتراقص على جدران الزمن من دون أن تترك أثرًا حقيقيًّا في مجراه السرمديّ؟