إبادة كلية هو ما حدث ويحدث في غزة كانت جميع جزئياتها التي تتكامل لتصنع لوحة الخراب السوداء التي يتقن الإسرائيلي هندستها بكل ما يملك من آلة تدميرية ضد شعب ظل يزاحمه على قطعة الأرض دون أن يرفع راية بيضاء منذ أن اعتقد أنه تكمن من إزاحة الكتلة السكانية الفلسطينية من وطنها قبل ثلاثة أرباع القرن ودفعها نحو المجهول لتذوي في التاريخ قبل أن تعود تلك الكتلة تصنع ثورتها الحديثة تقاتل بأسنانها وبما امتلكت من إرادة .
في النكبة الأولى عندما أقيمت اسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني بعد طرد سكان المدن والقرى تناثر الفلسطينيون وتعرض المجتمع الفلسطيني لأسوأ عملية قطع مع لسياق تواصله الحضاري وهويته الجامعه التي تشكلت ارتباطاً بهذا التواصل على الأرض ليتحول إلى مجموعات سكانية وجدت نفسها تعيش تحت مسؤولية نظم متعددة أحدث ذلك مزيداً من التشتت حين بدأت تتشكل هويات متعددة لمجتمع كان يتمتع بهوية واحدة طورها بشكل متواصل على امتداد آلاف السنين .
فجأة وجد الشعب الفلسطيني نفسه مجرداَ من كل شيء ، من الأرض والوطن والبيت والمال والإستقرار الإجتماعي والنفسي ومصدر الدخل وتحول إلى لاجيء حيث الخيمة في مخيمات اللجوء يعتاش على المساعدات التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التي تشن اسرائيل عليها حالياً الحرب بهدف إنهائها ليس فقط لوجستياً أو اعلامياً كما جرى التشهير بها ومحاولة ربطها بحركة حماس والإدعاء بأن بعض موظفيها شاركوا في السابع من أكتوبر بل ضمنت الأمر بقوانين منع عملها في الكنيست تم تمريرها بثلاثة قراءات وفقاً للقانون الإسرائيلي وقد كتبنا عن هذه القضية في عدد سابق ، فقد كف الفلسطيني اثر النكبة عن العمل كدور اجتماعي اقتصادي يلعب الجانب الأبرز في تشكيل شخصية الفرد ليتحول إلى حالة هامشية منكسرة على هامش المجتمعات التي يعيش فيها .
أخطر ما حدث بعد حقبة النكبة أن فراغاً سياسياً قد حصل نتاج هذا التشتت والضربة الكبرى التي تلقاها المجتمع الذي كف عن التواصل حيث بدأ يفقد هويته الموحدة والفريدة فقد أصبحت غزة تحت الإدارة المصرية وخضع الفلسطينيون في الضفة الغربية لمناهج التعليم الأردنية أما الكتلة التي بقيت في أرضها وجدت نفسها تحت حكم الإحتلال الذي اقتلع بقية شعبها وقد تعرضت هذه الكتلة لعملية أسرلة بهدف مسح الهوية العربية الفلسطينية من الذاكرة الفلسطينية للتجمع الفلسطيني الذي بقي هناك .
المسألة التي يمكن قولها في سياق قراءة تاريخ الإنبعاث الفلسطيني الجديد بعد الضربة الكبرى عام 48 أن الفلسطيني لم يجد غير التعليم سبيلاً للعودة للوقوف على قدميه هكذا يؤرخ من عاشوا تلك المرحلة في الخمسينات والستينات صحيح أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين أبدت قدراً كبيراً من المساعدة في توفير الحد الادنى لممكنات التعليم للفلسطينيين ولكن شهادة التاريخ على تلك الحقبة تقول أن إرادة الفلسطيني بالتعليم كانت أعلى فقد تشبث بالعلم كخلاص وحيد من واقع البؤس هذا بالمعنى الفردي حين انزرعت تلك الثقافة في عقول ذلك الجيل لكن حصيلتها كانت أن يكتب على يد هذا الجيل عملية الإنبعاث الفلسطيني من جديد .
لم يكن من المصادفة أن يقف على رأس ثورة الفلسطينيين المسلحة شخصية مثل ياسر عرفات فقد كان عرفات رئيساً لإتحاد طلاب فلسطين في جمهورية مصر العربية في خمسينات القرن الماضي عندما كان يدرس الهندسة في إحدى جامعاتها ليشكل اتحاد الطلاب من جيل التعليم في الخمسينات نواة الثورة الفلسطينية الحديثة التي أخذت على عاتقها مهمة التحرير وبغض النظر عن تعثر النتائج وميزان القوى واحتضان العالم سواء أوروبا في البدايات ثم الولايات المتحدة بكل قوتها لاحقاً لاسرائيل لكن قراءة مسار التاريخ شيئاً آخر .
يمكن ربط مسار الثورة الفلسطينية بكتلتي التعليم في الجامعة الأميركية ببيروت التي كانت تشهد نشاطاً سياسياً لافتاً وكذلك مصر القومية حينها الخارجة لتوها من ثورة قادها الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر الذي احتضن قطاع غزة وفتح الجامعات المصرية أمام الطلبة الفلسطينيين بمنح مجانية مع مصروف شهري ثابت للطالب ومع مناخات الثورة المصرية كان يتشكل الوعي بالثورة الفلسطينية على يد جموع الطلاب المتعلمين الذين أعادوا تشكيل الهوية الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني بعد أن كانت مهددة بالتفتت .
هذه المرة أدركت اسرائيل هذا الدور وإن كانت على امتداد تاريخها تحذر من تعليم الفلسطينيين بل وتمارس عملية تجهيل متعمدة فلولا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين لما تمكن الملايين من الفلسطينيين من التعليم بل ومارست تضييق على الجامعات التي كانت موجودة في الضفة الغربية قبل الإحتلال لذا لم تستطع إغلاقها بحكم وجودها المسبق والتحكم في مناهجها الدراسية ومساقاتها التعليمية أما في قطاع غزة فلم توافق على ترخيص الجامعات سوى في نهاية ثمانينات القرن الماضي بإعطاء ترخيص للجامعة الإسلامية وكان ذلك وفق ما تكشفت الوثائق في إطار عملية استبدال وإزاحة للمجتمع الفلسطيني ورغبة اسرائيل بإعادة صياغة المنظومة الوطنية بما يقضي على التيار الوطني الذي يتزعمه ياسر عرفات بعد خروجه من بيروت لصالح المجمع الإسلامي التابع لجماعة الإخوان المسلمين التي حصلت على ترخيص الجامعة التي شهدت أؤوقتها أول صراع فلسطيني فلسطيني غذته المخابرات الإسرائيلية كما تقول الوثائق وتحديداً الكتاب الإستقصائي للصحفي الأسترالي بول ماغوو ” أقتل خالد ” الذي توقف عند تلك الأحداث المؤسفة بين الفلسطينيين والدور الإسرائيلي الذي كان يقف خلف الستار .
مجرد أن بدأت اسرائيل عدوانها على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023 وفي الأيام الأولى للحرب قامت بقصف العديد ومن المدارس والجامعات بشكل مفاجئ رغم حياد المنظومة التعليمية لكن العمل التدميري المنظم للمؤسسات التعليمية كان لافتاً كأن اسرائيل أدركت واحدة من أسرار تشكيل وضمان صيانة الوعي الفلسطيني والرافض للإحتلال في محاولة منها للقضاء على ممكنات استمرار الحياة واستمرار تواصل الوعي الفلسطيني أو القضاء على دفيئات هذا الوعي فقد كانت تهدف من خلال إبادة المؤسسة التعليمية إلى انهيار المجتمع الفلسطيني وفقدان أحد أبرز حاجاته الأساسية بعد الغذاء والصحة وهما حقلان قد قضت عليهما اسرائيل ونشر في مجلة الحصاد تقارير لكل من تلك الحقول سواء بتدمير البنية التحتية للصحة أو بعملية التجويع التي مارستها اسرائيل وضرب المخابز والمحلات التجارية التي كانت تخزن الغذاء ، لم يكن استهداف المؤسسات التعليمية يتم بالتتابع بل بالتزامن مع تدمير باقي الحقول .
لقد حولت اسرائيل المشهد التعليمي إلى ساحة دمار شامل كما يقول ديمتري دلياني عضو المجلس الثوري لحركة فتح حيث أصبحت الصفوف الدراسية ركاماً وساحات المدارس خراباً فقد دمرت اسرائيل 496 مدرسة من أصل 564 مدرسة أي ما نسبة 88% أما الجامعات والمعاهد المتوسطة والكليات فقد دمرتها جميعاً وأمعنت في سحقها حيث وصلت نسبة التدمير لمؤسسات التعليم العالي ما بعد الثانوية العامة إلى 100% أي إبادة شاملة لخدمة مشروع الإقتلاع الشامل وأعدام إمكانية النهوض الفلسطيني من جديد .
أما بالنسبة لأعداد من توقفوا عن التعليم فقد بلغت أكثر من 645 ألف طفل وطفلة في سن الدراسة للعام الثاني على التوالي حرموا من تعليمهم وكذلك 90 ألف طالب وطالبة جامعي تقطعت بهم سبل التعليم العالي وفقدوا فرصتهم التعليمية جميعهم استثمروا في الدراسة رغم ارتفاع الرسوم في فلسطين وتحديداً في غزة قياساً بمستوى الدخل في تلك المنطقة الفقيرة وبعضهم كان على وشك التخرج ، أحمد عودة هو أب رزق قبل عقدين بثلاثة توائم قام بتسجيلهم في جامعة الأزهر في كلية الطب قبل الحرب بشهرين في صيف 2023 تمهيداً لبدء العام الدراسي الذي بدأ قبل أسبوع من الحرب وقام بدفع ما يعادل خمسة عشر ألف دولار يقول بحسرة أن تلك كانت ثمن دراسة لأسبوع واحد ومثلة الكثيرون من الغزيين .
حاول الغزيون إقامة مدارس في الخيام لكن تلك كانت لا تذكر قياساً بالأعداد الهائلة إذا ما تصورنا أن الأمر يتم تحت القصف العشوائي الذي يمتد على مساحة القطاع والأجواء التي تمنع التلاميذ على قلتهم من التركيز والإستفادة فالفراغ أكبر كثيراً من إمكانية تعبئته بمبادرات فردية أو بعض الخيام المتناثرة وقد حاولت المؤسسة الرسمية الفلسطينية أن تلحق الطلاب في غزة بالتعليم إلكترونياً في الضفة الغربية سواء الجامعي أو ما قبل الجامعي حيث الإتفاق مع جامعات ومدارس الضفة بإستيعاب طلاب غزة ولكن ذلك في إطار الإبادة الكبرى لم يكن أكثر من إعلاناً صورياً .
فالتعليم الإلكتروني عن بعد يحتاج إلى مقومات وإمكانيات لا تتوفر في غزة في ظل تدمير كل شيء فهو يحتاج إلى أجهزة كمبيوتر وخطوط انترنت وكهرباء وتلك كلها تفتقر لها غزة فأجهزة الكمبيوتر غير متوفرة وإن توفر القليل أو ما تبقى في هذه الحرب أو المستعمل منها فإن أسعارها بعد الحصار ومنع إدخالها منذ بداية الحرب تفوق قدرة حتى الأغنياء في غزة على إقتنائها أما الكهرباء في شبه معدومة تماماً حيث تعمل بعض لوحات الطاقة الشمسية التي يستغلها الغزيون لشحن أجهزة الإتصال المحمول للتواصل والإطمئنان على الأبناء أما الإنترنت فهي خدمة غالية وفقيرة جداً حيث تم تدمير البنية التحتية وأبراج ومحطات التقوية وبالكاد يتمكن المواطن من إجراء مكالمة فما بالنا بساعات من التعليم هذا إذا ما توفر لديه جهاز الكمبيوتر والكهرباء بمعنى أن الأمل بتعليم الكتروني كما تم الإعلان عنه هو أمل أشبه بحلم بعيد عن الواقع .
لم تكن عملية ضرب البنية التعليمية بهذا الشكل عملية عشوائية بقدر ما أن اسرائيل كانت تعرف كلمة سر المجتمع الفلسطيني وتعرف أدوات تماسكه وعوامل صموده وأيضاّ عوامل انهياره وكما كان للتعليم دوراً في إعادة نهوض الفلسطينيين من العدم فإنها بتدمير المنظومة التعليمية وتحويلها إلى كومة من الخراب تريد للمجتمع الفلسسطيني وتحديداً في غزة أن يظل كسيحاً لا يقوى على النهوض من جديد حتى لا يعود كما بعد النكبة الأولى مستفيدة من تجربة التاريخ وتجربة الإنبعاث الأولى .
لكن الشعب الفلسطيني الذي عارك وحده كل معارك التاريخ الأشد قسوة في كل مرة كان يسود اعتقاد لدى العدو ولدى الصديق أيضاً أن الضربة التي يتلقاها ستكون الاخيرة لكنه في كل مرة يعود من جديد شاهراً سيف الإرادة مصراً على معاندة كل معادلات التاريخ الظالمة وفي كل مرة تجري محاولات إزاحته عن الخارطة بكل ما امتلكت اسرائيل وخلفها القوى العظمى من جبروت لكنه ينهض من تحت الركام يواصل رحلته الطويلة نحو الحرية ونحو الإستقلال بالحد الأدنى من مقومات البقاء والصمود في كل مرة يصنع معجزته دون أن يلتفت للوراء لأنه فقط يتطلع للمستقبل مهما بلغت التضحيات .