إبادة غزة .. العالم على مقعد المتفرجين

               أن تعتاد على الحرب تلك أقسى أنواع الحياة وأشدها فداحة …. أن تتعايش بين الجدران المهدمة وأصوات القنابل التي لا تتوقف وأن ترى الجثث المتفحمة وتذهب لتناول وجبتك هذا ليس أمراً عادياً ، وأن تحصل على تلك الوجبة بعد معاناة شديدة وسط جريمة التجويع التي تمارسها اسرائيل ضد الشعب في غزة وأن تبحث بين مؤسسات إنسانية لعلّك تعود لأبنائك بشيء يطفئ نار الجوع المستعرة في الأجساد التي أعياها التعب والخوف وهي تهرب من مكان لآخر بين القصف والدمار .

                أن يموت أبنائك من البرد في خيمة نصبتها في العراء فتلك ذروة المأساة التي تتجسد فالصقيع في غزة في هذا الوقت من العام شديد القسوة وأصعب من أن يحتمله الكبار فكيف بالأطفال الذين تساقطوا ؟ لقد استشهد الطبيب الفلسطيني أحمد الزهارنة الشهر الماضي والذي يعمل ضمن الطاقم الطبي للمستشفى الأوروبي وقد وجدوه في خيمته بخانيونس متجمداً جراء البرد الشديد ووصل للمستشفى جسداً أزرق وبدل أن يستقبل مرضاه  استقبله زملاؤه جسداً  أما الأطفال الذين نخر البرد عظامهم مات منهم سبعة قبل دخول العام الجديد وقبل دخول البرد الحقيقي .

               وفقاً للتراث الفلسطيني هناك ما يسمونها بأربعينية الشتاء والمقصود بها  الأربعين يوماً الأشد برودة في فلسطين وتبدأ في الخامس والعشرين من كانون أول ديسمبر وتنتهي في الخامس من شباط فبراير ففي الوضع الطبيعي تتحول البيوت غير المصممة للمناخات الباردة بفعل موقع غزة كمدينة ساحلية وصيفها حار لا يتطلب احتياطات استثنائية لمواجهة الطقس تتحول إلى كتلة من الجليد في أربعينية الشتاء يعمل سكان غزة جاهدين على تمرير تلك الأسابيع الأصعب في العام وإذا كانت البيوت تعلن استنفارها فما بالنا في الخيام وخاصة الخيام البالية المتهرئة التي صنعتها أغلبية الناس مما تيسر من قماش ليس مصمماً للمطر والبرد فالقليل من الخيام المخصصة وصلت غزة كمساعدات ولكن ما وصل لا يغطي حاجة إيواء ما يقرب من مليوني فلسطيني وجدوا أنفسهم  نازحين بلا منازل فكل سكان رفح وبيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا قد تم مسح مناطقهم ومنازلهم ناهيك عن تدمير الجزء الأكبر لمدينة غزة وضواحيها ومثلها كذلك خانيونس وأقل من ذلك المنطقة الوسطى التي تضم مدينة دير البلد ومخيمات البريج والمغازي والنصيرات والتي لم تجتاحها اسرائيل برياً لكنها لم تفلت من القصف المتواصل والدماروالذي جعل أيضاً جزء من سكانها في الخيام  .

                  حيث الحرب الأكثر عدوانية والتي ليست حرب بمعناها الدقيق إذ جرى توصيفها بالإبادة وهي أكثر دقة في توصيف ما جرى بغزة ففي كل الحروب يكون هناك متسع للمدنيين للهروب من وسط المعارك لكن قطاع غزة المحاصر والمغلق من جهاته الأربع لم يترك للناس حتى خيار الهرب فقبل الحرب كانت اسرائيل تحاصر القطاع إذ تحده من الجهتين الشرقية والشمالية ومن الغرب البحر حيث البوارج العسكرية تحتل بحر غزة وكان الصيادون يجدون متسعاً للصيد وهذا كان جزء هاماً من السلة الغذائية للغزيين لكن غزة تحدها من الجنوب مصر ومعبر رفح شبه المغلق لكنه كان يوفر متسعاً للسفر وإن كان بالحد الأدنى ففي السادس من مايو الماضي قام الجيش الإسرائيلي بإحتلال رفح المدينة الجنوبية المحاذية للحدود المصرية ليكتمل حصارها للقطاع  بل وقامت برصف طريق جانب الحدود أطلقت عليه ” محور فيلادلفيا ” وقامت بإنشاء قواعد عسكرية على الطريق

           في هذه الإبادة كانت الناس تنتقل هاربة بين القذائف والرصاص من منطقة لاخرى حين تجتاح اسرائيل منطقة يهربون منها وما أن يخرج منها الجيش يعودون وقد يفعلها أكثر من مرة كما حدث في مخيم جباليا ليجد المواطنين بيوتهم قد تجولت إلى أطنان من الركام بلغت حتى الآن 60 مليون طن وقد كنا نشرنا في عدد سابق أنه بلغ حتى نهاية أغسطس الماضي 43 مليون طن والإشارة إلى استحالة التصرف به سواء لسعة غزة التي لا يوجد بها مكان للتخلص من تلك الأطنان حيث تتطلب مساحة ضخمة فكل مساحة قطاع غزة تبلغ 365 كيلو متر مربع وعدم القدرة على إلقائه في البحر لإحتوائه على مواد سامة بفعل الذخائر والنتيجة إعدام مستقبل غزة وعدم إمكانية إعمارها .

                 أن تعتاد الناس في غزة على الحرب فهذا ليس عادياً فقد أحدث هذا السعار الإسرائيلي الذي انطلق بكل ما يملك من جنون قدراً كبيراً من التشوهات النفسية التي سترافق الغزيين لسنوات طويلة وقد تحتاج إلى برامج علاجية من المبكر الحديث عنها أمام فداحة الخسارات البشرية والجسدية فناهيك عن عدد من قتلتهم اسرائيل بعشرات الآلاف  ” أكثر من 45 ألف ” وأكثر من عشرة آلاف بين الأنقاض ” الرقم توقف منذ أشهر عند الآلاف العشرة ممن هم بين الأنقاض لكن تشير التقديرات أن الأمر يتجاوز هذا الرقم بكثير ” فالكارثة الأكبر في التشوهات الجسدية التي سترافق البشر .

                  هل يتصور أحد أن أحد أساسيات إعادة الإعمار في غزة هندسياً فيما لو قدر إعمارها أنه ينبغي توفير شوارع لعربات المعاقين ؟ طبعاً هذا غير موجود سابقاً في غزة ولكن الأمر أصبح الآن مختلف فقد أصبحت غزة تضم أكبر عدد من المعاقين ومبتوري الأطراف في العالم قياساً بعدد السكان  وهو ما أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش في مؤتمر عقد في القاهرة عقد لبحث تسريع إيصال المساعدات الإنسانية لغزة في الثاني من ديسمبر الماضي وألقتها نيابة عنه مساعدته أمينة محمد ليعلن عن كارثية الوضع في القطاع وكشف في كلمته أن ” قطاع غزة بات يضم أكبر عدد من مبتوري الأطراف في العالم ” وإضاف غوتيرش في كلمته ” في غزة يخسر العديدون أطرافاً ويخضعون لعمليات جراحية بدون مخدر ” وتلك مأساة أخرى وردت في كثير من تقارير وزارة الصحة الفلسطينية بغزة عن إجراء عمليات بلا مخدر مع كل الألم المصاحب لها ولكن الأهم أن يبقى الإنسان وخصوصاً الطفل مشوهاً فاقداً لطرف أو أطراف عالة على مجتمعه غير قادر على الإنتاج والإندماج في المجتمع لدرجة بات الكثيرون يغبطون من استشهدوا في بدايات الحرب ولم يعيشوا مشوهين ولم يروا كل تلك الفظاعات .

                   نقص المعدات الطبية كان فادحاً حيث منعت اسرائيل دخولها ما تسبب بموت الكثير لكن الأكثر مأساوية ضرب سيارات الإسعاف ونقل المصابين للمستشفيات فما حدث الشهر الماضي في المنطقة الشمالية بقطاع غزة وحرق مستشفى كمال عدوان وإعتقال طاقمه الطبي وعلى رأسهم الطبيب المعروف الدكتور حسام أبو صفية أثناء قيام جيش اسرائيل بتطبيق خطة الجنرالات القاضية بتفريغ وطرد السكان من الشمال في تطهير عرقي لم تخجل اسرائيل من الإعلان عنه وسط صمت العالم الحر وغير الحر فقد عمدت اسرائيل قبلها إلى ضرب طواقم المسعفين ومركباتهم ليحدث أسوأ ما تصوره الفلسطينيون أن يستمر الجرحى في النزيف لساعات طويلة قبل أن يموتوا هل يتصور أحد تلك الوحشية ؟ هذا حصل وبالمئآت في الأسابيع الأخيرة حيث كانت تمتلئ الطرق بالمصابين وبالجثث وفي مشهد الأشد بؤساً وسطوة على الذاكرة كانت الكلاب الضالة تتغذى على تلك الجثث وقد تم تصوير تلك المشاهد ونقلتها كبرى وسائل الإعلام والفضائيات .

                التدمير الممنهج والإزالة الكبيرة لمخيم جباليا وهو أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الداخل والخارج “عدد سكانه 116 ألف نسمة ” لم يكن مصادفة فقد قال جنود اسرائيليون شاركوا في تدمير المخيم أن صورته تبدو ” كأنه تعرض لزلزال بقوة مائة ريختر ” وقد نشرت وسائل الإعلام كيف تحول المخيم إلى ركام بكل بيوته وأسواقه ومدارسه كان ذلك بهدف منع عودة السكان ومنع الحياة مستقبلاً في هذا المكان ولإسرائيل قصة طويلة مع هذا المخيم فهو المكان الذي انطلقت منه الإنتفاضة الأولى عام 1987 ومنه أيضاً ألقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات خطاب انتفاضة النفق عام 1996 لذا لم يكن من المصادفة أن يكون أول مكان يزوره بعد عودته من المنفى .

                ” هل نحن وحوش هل ذهبنا بعيداً جداً ؟” هكذا سأل وينستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية عندما كان على وشك إعطاء الأوامر بقصف المناطق المدنية في ألمانيا والآن ماذا عن قادة اسرائيل ؟ الذين أعطوا تعليمات لجنودهم بتدمير كل شيء وإزالة كل قيود وإزالة أية حدود حمراء لا يتعلق الأمر هنا فقط بالإبادة الجماعية كما جاء في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا للمحكمة الدولية بقدر ما أن الامر يتعلق بالقتل الشرعي والتدمير الشامل  للمنظومة القانونية في العالم والتدمير الشامل للحياة الأخلاقية للمشاركين في الإبادة والذين كانت تظهر عليهم نشوة الإنتقام حين كانوا يقومون بتوثيق الأعمال المروعة ونشرها من خلال هواتفهم الخاصة وبعضهم على صفحات تواصلهم الإجتماعي قبل أن يصبح بعضهم مطلوباً للقضاء ما يحد من سفرهم ليعمم الجيش تحذيره لهم قبل أن تتراجع الظاهرة والتي كانت تعكس انهياراً أخلاقياً لا مثيل له إلا لدى المصابين بسادية جمعية تطرح ما حدث بغزة كثير من علامات الإستفهام حول شهوة القتل بهذا الشكل.

              تعلن هيئة البث الإسرائيلية في خبر عابر نقلاً عن سجناء فلسطينيين حول إهانات متكررة مثل البصق عليهم وإجبارهم على الوقوف لساعات وتعريتهم هذا الأمر لم يكن يحتاج إلى تحقيق وسائل إعلام بل أن السادية الإسرائيلية كانت تصور طوابير من الناس مجردين من ملابسهم وقد تحدثت شهادات من تم اعتقالهم من مستشفى كمال عدوان أن جيش اسرائيل كان يضرب الأسرى الذين تم تجميعهم عند مدرسة الفاخورة يضربهم بكوابل كهربائية مؤلمة بمن فيهم الطاقم الطبي ورئيس المستشفى الدكتور حسام أبو صفية هذا قبل أن يتم إرسالهم للسجون أما ما يحدث هناك فهو أشد إرهاباً تعذيب حد القتل فقد بلغ عدد الذين قتلتهم اسرائيل في السجون منذ السابع من أكتوبر 54 أسيراً فلسطينياً بحسب بيان مشترك لنادي الأسير وهيئة شئون الأسرى بمناسبة يوم الشهيد الفلسطيني كان من بينهم الطبيب عدنان البرش الذي أعلن عن استشهاده في أبريل نيسان الماضي .

                   وإذا كانت السادية والتشوه قد بلغ هذا الحد لدى اسرائيل يعود السؤال الكبير الذي يتكرر منذ بداية الحرب أين العالم ومواثيقه وأعرافه واتفاقياته التي تمت صياغتها من أجل الحد من الجانب المظلم في غريزة القتل وشهوتها ؟ يبدو أن الأمر يخص عالماً قد كتب اتفاقياته ومواثيقه بعد الحرب العالمية الثانية لحماية أوروبا والجنس الأبيض أما تلك لا تنطبق على الشعوب الفقيرة وسمراء البشرة … تلك رواية سيكتبها التاريخ أنه تمت إبادة منطقة جماعياً وكان العالم الحر يجلس على مقاعد المتفرجين …هي كذلك .