هناك إشكاليات عديدة تقلق الشاعر المبدع في عالمنا اليوم وتحديدًا في عالمنا العربي. وفي ظل الحرب التي بدأت في غزة وامتدت إلى لبنان، يجد الشاعر نفسه في حالة من التجريب والكتابة عن حالة وواقع جديدين.
كيف انعكس هذا الوضع على الكتابة الشعرية وما الأسئلة الجوهرية التي يطرحها الشاعر اليوم؟ وما الذي يريد تحقيقه عبر الكتابة عدا عن أنها حالة تجاوزية أو متنفس بالنسبة إليه؟
الأكاديمي والشاعر هنري زغيب
إنّ واقع الحرب لم يغيّر بي ذرّةً، لأَن توجُّهي هو مع الوطن لا مع الدولة. وتاليًا، ما يصيب لبنان اليوم هو بسبب الدولة الفاسدة وارتباطاتها وعجز

سلطتها عن اتخاذ القرار. ما يجري في غزة أَوجعُ من كل تعبير وكل وصف. لم يعرف التاريخ منذ هولاكو وجنكيزخان ونيرون ما يحصل اليوم في غزة والضفة، وهو ليس حرب إبادة بل حرب اقتلاع. هذا الاحتلال الصهيوني يريد اقتلاع شعب كامل من أَرضه، وهو لن يتمكن لأَنه هو الطارئ، وشعب فلسطين هو الأصيل في أرضه منذ أول التاريخ، وينال لبنان من مأْساته ما لم ينفك يناله منذ 1948. تعبيري في هذه الفترة أَخطُّه نثرًا لـمقالاتي في “النهار”. أَما الشعر فلن أُغمِّسه في هذه الوحول.
لا أَرضى لشعري بأَن يكون بوقًا إِيديولوجيًّا ولا نصًّا صحافيًّا منظومًا على قواعد العروض. الشعر عندي مُنَزَّه عن الآنيات، ولا أَقوده إِليها لأَن قدسيَّته أَعلى منها. الكتابة الشعرية لا تعكس الواقع حين الواقعُ مهولٌ كارثيٌّ لا توجعه كلمة ولا هو يسمع الشعراء. لذا أَتوسَّم من خلال الكتابة النثرية أَن أبْلُغ شعبي في لبنان فأُعبّر عن همومه بمقالاتي كي أَكون أَتكلم باسمه وعنه وإِليه. أَما الشعر فلا أُوظِّفه لعنتريات مجانية أو انفعالات وصفية يتوسلها بعض الشعراء في هذه الحالات.
الأكاديمي والشاعر أنطوان أبو زيد
لا بد أولًا من النظر إلى واقع الشاعر باعتباره كائنا يحيا في العالم. ويحدث أنّ عالمي كشاعر هو لبنان هذه النقطة التي تعصف بها الأنواء والحروب والكوارث على أنواعها.. تتقاطع معها آنات من الفرح وجيزة… لذلك، ينبغي لي أن أواجه جميع هذه التيارات الخارجية وأبقى صامدًا في عيشي وبدني وعائلتي. ثم أفكر… بمقام آخر… في كتابتي الشعرية التي أطمح في تحميلها معاني تجربتي الإنسانية و رؤيتي للعالم. ذلك أن الشعر لا يستقيم من دون رؤية تسنده وتشكل نسغ الكلام الشعري ومن دون أن تكون
الفلسفة عمادًا وحيدًا لها. فالشعر يتغذى من التأمل الرصين ومن دون أن تفرض على اللغة الشعرية قدرًا من الغموض يحول دون تواصل القارئ معه.
والحال هذه فإن من التحديات التي قد يواجهها الشاعر العربي هي إبقاء جذوة الشعر متقدة عنده. وهذا يوجب عليه قدرًا من التجريب مستمرًا وقدرًا من الاطلاع على التراث الشعري العربي والعالمي مستدامً..
ومن التحديات أيضًا التساؤل النقدي المستمر عن قيمة الأعمال الشعرية المنجزة وهذا يستدعي تبصرًا قد لا يتاح لكثيرين من الشعراء الذين يتركون أمر نقد أعمالهم للآخرين.
ولكني لا أحسب أن الشعر غير مشروع جمالي وفكري ووجداني لا ينتهي بانتهاء العمر بل هو سعي تصعيدي محفوف بالمخاطر والأخطاء والتصويبات وصولًا إلى الذرى المأمولة والناقصة دومًا.
أما أحداث غزة بل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل والتي تغتال فيها الانسانية بكل أوجهها وتسحق فيها كرامة الإنسان الفلسطيني بأبشع طريقة فهي عنوان مزيد للتأمل في الحياة المعاصرة وفي غياب معناها وعبثيتها وانتصار الحداثة المتغولة على الكثير من القيم التي يدعي الكثيرون اتباعها.

ولكن هل يعني هذا كله أن الشعر بما يعنيه من سعي إلى السمو وتصعيد للألم هو عديم القيمة؟ على الإطلاق، بل إنه مرتقى الرجاء الجميل والباقي وحامل الصوت الإنساني الأنقى وما يستطيعه الشاعر اليوم هو احتمال قدر سيزيف وأورفه و سائر المبدعين.
الشاعر أحمد وهبي بلا مقدّمات ..
انتبه .. كيف يشاهد الشاعر ذاكرته في مختلف الأماكن، ثمَّ كيف يستحِثُّها على خَلقِ عوالمَ واكتشافها .. لعلَّه يُعيدَ صياغةَ ما انكسرَ وسقطَ واندثر.
ولأنَّها لذاتِ الأنا المُحَمَّلةِ بالرّغبةِ .. التوافق والتضاد، يحشد لها أدوارها، ظواهرها وإشكالاتها النفسيّة.
والذاكرة مثل القصيدة والنثر، تحمل الغموض كمُرَكَّبٍ يفيض عن حاجة صاحبها، وبها سطوعٌ فريد المعرفة والسِّحر، كما هي دقيقة المنافسة، تغربل الأوهام لاختلاق حقيقة الحقيقة، لعلّها بهذا الابتناء، تدفع سردياتٍ مجتمعيّةً متوَهَّمة، بحيث تقع على نبشٍ مغاير، لأجل اندماجٍ معرفيٍّ عميقِ الواقع والمُتَخَيَّل.
في نزهةٍ تأمليّة، تحيك الذاكرة تفاصيلها بمفرداتٍ، تتكدّس أنماطها، يغلب عليها المزاج والتجربة .. وعند مرفأ النفس الخاص والعام، يُستحَضَرُ .. ترسو الذكريات والعلاقات، تلك، مختبر الصُّوَرِ والمشاهد صعوداً ونزولاً. الطاردة للقشور وتناسل الجثث. ذاكرةٌ لا تبرأ من الحياة ..
وانطلاقاً من نظرية التناظر واللاتناظر، يأخذ فعل المقاومة دوره وينجح كما وقع سابقاً. والمقاومة جبهات متعدّدة مفتوحة عسكرية، اجتماعية – ثقافة الوعي، أقلامها الأدباء والكتّاب والشّعراء، المؤمنون بوطن ومواطن، كذلك اقتصادية وسياسية.
ولظلال الأفكار، فصولٌ سابقة تنتمي لأعراق منقرضة. الفكرة العميقة لا تحتمل البطلان والخذلان، تعكس المرآة أعماق الظلال تلك النفْسُ التي توقظ الفجر، تجري رواياتها على لسان الذكريات تارةً وواقع الحال باختلاف المزاج العام، توقِدُ ما شُوِّقَ في قيظِ أو زمهرير الحنين والوجود.
تواترٌ غامضٌ يحاور ما نجهل، وتلك الإشكاليات لا تضع أوزارها بالمطلق، إنّما تتفاقم وقت الحرب مثل يومياتٍ عقيمة نحمل بها. وأيام القتال لا تخفي المُبطَن، والعيون السكرى تؤدّي طقوسَها. هالَ الشجرة أنّ ذراع الفأسِ منها وبأنّا مؤهلّون لقناعاتٍ مختلفة، ومُختلَف عليها؛ فلا بُدّ لصاحب التجربة الحامل لهمّ الإنسان من دور، وحضور إبداعي، وتوجُّه لدرء الأخطار على الصُّعد كافّة. وليس السؤال كيف ينعكس الواقع بجديده المؤلم على الحياة العامّة ودور المثقفّين ؟ بل كيف يعكس المثقّف والآخر – الطبقات المتمكّنة، كيف يقبض على اللحظة المؤلمة القاتلة في نفسه وعقله وروحه، ويطلقها تصويباً للقضايا الوطنية والوعي والثبات والتوجّه والوحدة، كمعادلة رياضية محبوكة العناصر النفس – جمعية. هنا، الشاعر

صاحب بوصلة، واتّقاد كاسر للأبعاد، يتجاوز فيها ذاته ليس تجريباً ولا نبشاً ولا متنفّساً، بقدر ما هو كلّ ذلك وأكثر، على قاعدة الدور المناط بصاحبه، وبالأخصّ حين وقوع الكوارث بمسميّاتها، كون الشّاعر هو استمرار للفكر الخلّاق، وفي الميدان تزداد المَهمة صعوبة، من جهة يتحوّل الإبداع إلى حالة جماعية، ومن جهة ثانية تنشط الأقلام الصفراء، مواجهة في الداخل والخارج. إزاء ذلك يستوي الدور الطبيعي والكبير للمثقفّين الوطنيبن الأخلاقيين والإنسانيين.
الشاعر والروائي أنور الخطيب
يُفترض في المبدع الحقيقي، شاعراً أو روائياً، أو في أي شكل من الأشكال التعبيرية، أن يكون منشغلاً في التجريب والتجديد والتجاوز من دون نشوب حروب وأزمات، وإلا تحوّل إلى صدى للظرف، أو ما يشبه شاعر المناسبات، الذي يفصّل لكل مقامٍ مقاله. وبالنظر إلى المبدع العربي، يبدو أنه يفتقر نسبياً لهذا (الترف) التأمّلي، ما انعكس على قدرته على التجاوز، أو أنه استمرأ البقاء حبيس الشطر والعجز، إضافة إلى انصياعه للوعي الجمعي، والاتجاهات العامة، التي تنظر بعين الريبة لكل حديث مختلف، وهنا تشتبك الحداثة مع التقليد، والجديد بالقديم، وتفرض المرحلة لغتها وصراخها ومباشرتها على المبدع، ليواكب الحدث ويكتب الشعر المقاوم، الذي يتنازل فيه الشاعر عن بعض التقنيات الجوهرية لإرضاء الآخر، ويصبح النص ضحية للحدث والمرحلة، في الوقت الذي أنتجت الأحداث العالمية المفصلية للشعوب ثورة في الإبداع، كما حدث في الثورة الفرنسية، وظهور السوريالية التي تزعّمها لوتريامون. ولا شك أن ما يحدث في غزة ولبنان انعكس على النصوص كافة، حداثية أو تقليدية، والانعكاس كان في التركيز على الحق في المقاومة وإظهار بطولة الشهداء والوقوف إلى جانب الضحايا والمشردين، ورافقها إحساس بالغضب من الأنظمة الرسمية العربية، فجاءت بعض النصوص على شكل هتافات أو مرثيات ومنها ما أحدث تجاوزاً في اللغة وحتى في الشكل، وأدخل مفردات، كما حدث معي، مثل جدار الصوت، والمسيّرات، كما طرح أسئلة بشأن أهمية التحديث، ودوره في المقاومة كفعل حداثي متجدّد ومناصر للحرية والعدالة، واسئلة أخرى مضادة تتعلّق بقدرة النص الحداثي، قصيدة النثر مثلًا، على تجييش الجماهير والحفاظ على علوّ معنوياتها الوطنية، وهناك من طرح جدوى الكلمة في ظل سيادة الرصاص وهدير الحرب والخوف، فأصيب بالكآبة وربما الهزيمة، بينما المبدع الحقيقي يعدّ نفسه مقاتلاً في الصفوف الأمامية، ومدافعاً عن الجبهة الداخلية، ومقاتلاً داخل نصّه فيسعى إلى تفجير اللغة والصور الشعرية والمشاعر والشكل التعبيري، ونسأل هنا بدورنا عن دور المبدع بشكل خاص والمثقّف بشكل عام، هل بقي أسير قصيدته أو نصّه أم أنه التصق بالجماهير، فتظاهر معها، وانخرط في الحملات الإغاثبة وجمع التبرعات، واقول آسفاً، إن المثقف خذل شعبه ومقاومته، وبقي سلبياً متمسكاً بعزلته، ولم ينظّم اعتصاماً واحداً، وهذه،

حسب رأيي، هي الإشكاليات الجوهرية التي يعانيها المثقف، الذي تنازل عن وظيفته العضوية، وفضّل الفرجة على المشهد المأساوي، وما نراه من أمسيات شعرية لمناصرة غزة، يبقى أثره حبيس جدران الصالات والمنتديات.
الشاعر بلال المصري
ما حصل في غزة بعد السابع من أكتوبر يتجاوز قلق الشاعر العربي إذ حوّل التجريب الشعري إلى صدمة وقلق أصابا المثقفين من شعراء وفنانين في جميع أنحاء العالم. المشاهد والصور الصادمة والمروعة لحرب الإبادة الجماعية في غزة وضعت الضمير العالمي أمام أكبر اختبار لحقيقة القيم والمشتركات الإنسانية بين الشعوب التى لطالما نادى بها المجتمع الدولي تلك القيم التى تعبر عن الحضارة الإنسانية وهنا لم يعد يملك المثقفون والشعراء والفنانون سوى أدوات التعبير التى تكاد أن تكون من دون جدوى إن لم تدعم بتحركات على أرض الواقع. والرعب الحقيقي أن يقف العالم بأثره متفرجًا على المذابح اليومية بغزة أطفال يقتلون قبل حصولهم على شهادت ولادة عائلات بأكملها تشطب من سجلات القيد وأكثر من مليون شخص يعاني المجاعة والعطش من دون دواء ولا ماء إنها فاجعة العصر ومأساة إنسانية لا مثيل لها في العصر الحديث. أنا كشاعر لا أريد أن أصف هذه المأساة من خلال الكتابة كأن أمجد الشهداء الذين يرتقون كل يوم أو وصف الحالة الإنسانية المذرية هناك. بل أحاول أن أظهر العالم على حقيقته من خلال التجريب في الكتابة الشعرية الكاشفة أريد أن أرسم بالكلمات وجه العالم القبيح الذي رأيته على حقيقته. نحن نعيش كذبة كبيرة اسمها حقوق الطفل وحقوق الإنسان وحماية المدنيين و محاكمة المجرمين. هذا ما أريد التعبير عنه من خلال محاولاتي وتجريبي في بناء نص شعري يعبر عن مضامين هذه الرؤيا من أجل مواجهة العالم بحقيقته. والسؤال الذي يقلقني هل بقي للذين قتلوا في غزة وتناثروا أشلاء هل من يستطيع التعرف إليهم وجمع أشلائهم أم أن الأشلاء التي اختلطت ببعضها ستفقد هذا الفرد حتى حقه في أن يكون جسده في حفرة واحدة؟
هذه الأسئلة بالنسبة إلي جوهرية وضرورية لأنها تحاول إعادة رسم الوقائع بصيغة الفاجعة الكبرى فنحن المثقفين العرب لم نفعل شيئا فما حدث وما يحدث حتى هذه اللحظة سيكون له الأثر البالغ في تكوين شخصية المثقف العربي وقيمته الإنسانية والإبداعية. ولأن الشاعر يمثل الضمير الإنساني وفؤاد العالم فهو يكتب ليقول شيئا للذين بإمكانهم تغيير العالم
وهذا ما أحاول العمل عليه من خلال التماهي مع الأحداث الراهنة في غزة وجنوب لبنان الذي وقف إلى جانب غزة وقدم موقفًا إنسانيًا عظيمًا يتماهى مع تطلعات كل الأحرار في هذا العالم وهو مثل قصيدة لكن تكتب بالنار والدم.