في ظل وضع إقليمي حرج ..المخاطر الداخلية والخارجية تهدد البلاد
بينما كانت الأنظار متجهة للبنان تترقب وقف إطلاق النار في نهاية نوفمبر الماضي، فوجئ العالم بحدث آخر جديد ولكن هذه المرة كان في سورية حيث اشتعلت الجبهة السورية بعد الإعلان عن عمليات قتالية تقوم بها المعارضة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام والتي نجحت في إسقاط نظام بشار الأسد بعد اكتساحها لمختلف المدن والمحافظات السورية خلال فترة قصيرة وسط حالة تمازج بين الحذر والخوف والقلق والترقب لما ستسفر عنه تلك المرحلة المفصلية الجديدة من تاريخ سورية.
لاشك أن سورية دولة محورية في الشرق الأوسط وهي أحد أهم محاور المقاومة الأساسية بالمنطقة، ولذلك فإن ما تشهده من أحداث وتطورات سريعة ومتلاحقة على الساحة الداخلية سياسيا وعسكريا يعد منعطفا خطيرا ونقطة تحول مباغتة في ظل الأداء الهزيل لوحدات الجيش النظامية الحكومية قبل السقوط السريع والمدوي للنظام السوري واختفاء الرئيس الأسد من المشهد في ظروف عصيبة وغموض مريب.
لقد عانى السوريون على مدار سنوات منذ انفجار أحداث ما عرف بالربيع العربي والثورة السورية التي انقلبت لحرب أهلية دموية، أدت إلى حدوث موجة خطيرة من موجات النزوح البشري السوري في شتى بقاع العالم مصحوبة بكوارث إنسانية محزنة نتيجة لحالات الغرق الجماعي والتعرض للمخاطر والهلاك خلال عمليات النزوح فكان السوريون بين نار الحرب الداخلية وجحيم الموت المحتمل خلال محاولات النجاة بالنفس والأهل.
على مدار 13 سنة من انفجار الغضب الشعبي السوري واشتعال الحرب الأهلية بين مختلف طوائف السوريين لم تهدأ الأحوال وتعرضت البلاد لاستهداف أجنبي واختراق خطير من عدة جهات ساهمت في تعميق الطائفية وتناحر الفئات المختلفة وفق خلفياتها الأيديولوجية وتبعياتها السياسية، بينما كان المنتظر أن تتحد قوى الشعب السوري وقتها نحو هدف واحد هو الوطن، الأمر الذي ساهم في تعميق معاناة السوريين خاصة في ظل جماعات العنف المتطرفة وعلى رأسها داعش التي أذاقت المنطقة ويلات الجحيم من قتل وإبادة وتدمير عشوائي واستباحة لكل الحرمات.
البداية في عام 2011 عندما تحولت الانتفاضة السلمية إلى حرب أهلية شاملة أسفرت عن مقتل ما يقرب من نصف مليون وتحولت إلى حرب بالوكالة بمشاركة دول إقليمية. وانتهى الأمر بسورية إلى وضع مأساوي نتيجة انقسامها وتفتتها بين قوى مختلفة ما بين قوات تتبع النظام وآخرين تابعين للأكراد وثالثة تابعة لتركيا ورابعة منبثقة عن تنظيم القاعدة تحت مسميات مختلفة منها داعش وجبهة النصرة والتي تحولت مؤخرا الى “هيئة تحرير الشام”.
وتزامن مع هذا التدهور الأمني ازدياد حجم المعاناة بين أفراد الشعب السوري وخاصة الأطفال حيث قالت اليونيسيف أنه بعد أكثر من 13 سنة من الصراع والأزمات لايزال الأطفال يدفعون الثمن الأكبر مشيرة إلى أن هناك 7 ونصف مليون طفل سوري يحتاجون للمساعدة الإنسانية بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية والنزوح الجماعي وارتفع مستوى الفقر ليشمل 90 % من الأسر في سورية وازداد الوضع سوءا مع تدفق النازحين بعد اشتعال حرب لبنان في سبتمبر الماضي. وبحلول أول أكتوبر بلغ عددهم 200 ألف شخصا منهم 60% أطفال بينما تعاني سورية من انهيار نظام الرعاية الصحية وانعدام الأمن الغذائي وانتشار الأمراض ونقص الأدوية واللقاحات.
في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية صعبة وتغيرات إقليمية حيوية ظهرت هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع الشهير ب”أبو محمد الجولاني” التي أجادت استغلال المناخ الإقليمي والدولي وبدأت تحركاتها النشطة والسريعة والمباغتة في نفس الوقت لدرجة أنها لم تجد المقاومة المتوقعة من جيش النظام ولم تكن تحتاج أكثر من 11 يوما لدخول القصر الجمهوري في العاصمة السورية. لقد انطلقت من إدلب شمال غرب سورية حيث كانت تتمركز وبدأت في ريف حلب وانتقلت منها لباقي المدن والمحافظات السورية. وخلال سويعات قليلة سيطرت على الطريق الدولي بين دمشق وحلب وتلاها حماة مع انسحابات للجيش السوري تحت عنوان إعادة التموضع، وتلاها حمص الحيوية التي تبعد 700 كيلو عن العاصمة. ومن يسيطر على حمص يستطيع الوصول إلى دمشق العاصمة وهو ما حدث بالفعل وتم إعلان هيئة تحرير الشام السيطرة على كامل سورية وإسقاط نظام الأسد وهو ما أكده بيان للمعارضة بالتليفزيون السوري الرسمي الذي تمت السيطرة عليه إيذانا بمرحلة سياسية جديدة.
قضايا شائكة وسيناريوهات المستقبل
بعد مشهد النهاية لنظام بشار الأسد يثور التساؤل حول السيناريوهات المحتملة للوضع السياسي السوري وشكل الحكومة وكيفية إدارة الأوضاع الداخلية والتعامل مع الأزمات المستحكمة بالداخل وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية. كما تثار التساؤلات حول طبيعة علاقة سورية الجديدة مع جيرانها وحلفائها القدامى والتقليديين، وكذلك مع اللاعبين الفاعلين الدوليين بالمنطقة وعلى رأسهم الولايات المتحدة. كما يثور تساؤل آخر عن قضية شائكة وحيوية تتعلق بمستقبل محور المقاومة الفعال الذي كانت تدعمه سوريا وتتيح له تواجدا كبيرا على أراضيها، وهو ما يرتبط أيضا بالموقف من دولة الاحتلال والقضية الفلسطينية وكذلك الأراضي السورية المحتلة في هضبة الجولان.
في محاولة لطمأنة الجميع بما فيهم المجتمع الدولي تم الإعلان عن تكوين هيئة انتقالية تتولى القيادة لعدة شهور تمهيدا لانتخابات برلمانية جديدة وقيادة مدنية وسط أوامر معلنة من الجولاني بعدم المساس بالمباني الحكومية ومؤسسات الدولة حتى يتم تسلمها بشكل رسمي. وفي المقابل أبدت آخر حكومة لنظام بشار الأسد برئاسة محمد غازي الجلالي استعدادها التام للتعاون مع قوات المعارضة مؤكدا على عدم تمسكه بالمنصب والعمل في ظل روح الوطنية والتسامح وذلك قبل اختيار رئيس جديد لحكومة الثورة.
ولاشك أن الوضع مثير للقلق رغم محاولات الطمأنة نظرا للظروف التي تمر بها البلاد وتنوع وطبيعة الجماعات المنضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام. وهناك أحد احتمالين إما أن يكون أبو محمد الجولاني صادقا فيما أعلنه عن رغبته في تحرير بلاده والعمل على دعم الحريات وتحقيق المؤسسية وإتاحة الفرصة للممارسة الديمقراطية، وهنا يثور التساؤل حول موقف القوى التابعة له والتي تختلف أهواؤها وتوجهاتها وخلفياتها في درجات التشدد والإيمان بالديمقراطية وهو الأمر الذي يمكن أن يثير فتن وخلافات فيما بين الفرقاء والمتنازعين على سلطة الحكم لتحدث حالة من التشرذم والتفتت الخطير للأراضي السورية بشكل يهدد أمنها القومي بل والأمن العربي أيضا، وتزداد هذه المخاوف مع تعدد الجبهات المسلحة في سورية وتنوع ولاءاتها وانتماءاتها.
أما الاحتمال الآخر أن تكون هيئة تحرير الشام مجرد ستار أو قناع من أقنعة تنظيم القاعدة أو داعش لاستعادة السيطرة على البلاد واستئناف التوغل في المنطقة من جديد وفي ذلك خطر كارثي لشعوب المنطقة خاصة في سوريا والعراق ولبنان.
وللأسف الشديد سرعان ما بدت ملامح الفرقة بعد ساعات من سقوط النظام السوري عندما وقع هجوم لفصائل موالية لتركيا على قوات كردية شمالي سورية أسقط 26 قتيلا. وهو ما نخشى تكراره خلال الفترة القادمة.
مخاوف وتحديات
لاتقاس الأمور بحسن النوايا ولا توزن الأحداث بتصريحات الطمأنة والشعارات الاستهلاكية واللقطات المصورة الجذابة، لكن التجربة العملية تظل هي الفيصل في الحكم عليها وتقييمها خاصة في ظل وجود ذكريات دموية وأليمة لتجارب سابقة مشابهة ومعاصرة، وهو ما يدعونا إلى توخي الحذر في التعامل مع هذه التصريحات حتى وإن قدم أحمد الجولاني نفسه على أنه السياسي الديمقراطي أحمد الشرع كما حاولت السي إن إن الأمريكية أن تروج له قبيل سقوط نظام الأسد في حوارها الحصري معه كأول حوار من نوعه مع زعيم هيئة تحرير الشام المنبثقة من جماعات تم تصنيفها في أمريكا سابقا على أنها “إرهابية”. لقد كان الجولاني عضوا في القاعدة وداعش ولكنه الآن يحاول تسويق صورة أخرى مختلفة له بعد أن فك ارتباطه بالقاعدة عام 2017 ولكن تغيير العناوين لايعني تغيير الأيديولوجية الكامنة في تفكيره ومن ثم فإن توضيح موقفه من مفاهيم مثل حقوق الإنسان والدولة المدنية تظل هي المحك.
إن ظهور الجولاني نفسه يفند الزعم السابق بأنه تم القضاء على داعش في سورية ويثير مخاوف من أن يكون التغيير شكليا فقط وليس جوهريا خاصة وأنه نفسه انتقل من تبعية القاعدة إلى داعش ثم عاد للقاعدة قبل أن ينتهي به الأمر إلى تنظيم مسلح آخر أطلق عليه هيئة تحرير الشام.
كما تثور المخاوف أيضا بإخراج بقايا داعش المحتجزين والمقدر عددهم ب 11500 رجل و14500 امرأة و30 ألف طفل محبوسين في 27 منشأة احتجاز بجانب معسكري الهول وروج. وبطبيعة الحال يعد سقوط نظام الأسد وما أعقبه من حالة خلل أمني، فرصة ذهبية تترقبها صناديد داعش للانطلاق نحو هذه المعسكرات والمعتقلات للدخول إليها ومداهمتها لتحرير عناصرها وهو ما يعني عودة جديدة وقوية للداعشيين والسعي لتعويض خسائرهم من القيادات السابقة بنماذج بديلة لاتقل خطورة وربما تزيد انتقاما من احتجازها واعتقالها. ومن ثم فإن ظهور الجولاني على الساحة السياسية قد يعني انتعاشا للتنظيمات الإرهابية في سورية بل وفي المنطقة كلها.
لاشك أن الخوف على سوريا من الإرهاب بات أضعافا مضاعفة في ظل هذه الحالة غير المسبوقة من التدهور الأمني الحكومي لحظة سقوط نظام الأسد وتولي هيئة التحرير السلطة، وما يمكن أن يؤدي إلى ظهور نسخ جديدة من المتطرفين في ظل النظام السياسي الجديد الذي لم تتضح معالمه بعد. والخوف من أن تتكشف ملامح النظام نفسه وتسفر عن حكم متشدد بعد تحقيقه الهدف الأساسي في الإستيلاء على السلطة. والخبراء بالجماعات المسلحة يقولون أنها تنظيمات لديها نوعان من الخطاب، خطاب الطمأنة في بداية الظهور لصناعة ما يعرف بالحاضنة الشعبية ثم خطاب التمكن الذي رأيناه كثيرا في صورة داعش وأفعاله السابقة في سوريا والعراق.
الموقف الدولي والإقليمي..وعقاب الأسد!
من الملفت للنظر حالة الصمت التي أصابت المجتمع الدولي في بداية تحركات المعارضة السورية لاستيلائها على مناطق من سورية وصولا لإسقاطها لنظام بشار الأسد، والتي بدت أشبه بالمتفرج دون أن تحرك ساكنا سوى الإدلاء بتصريحات مفادها الحفاظ على وحدة سورية وشعبها والدعاء لهم كما فعلت دول عربية. أما تركيا فقد أعربت عن ارتياحها لما يحدث من تغيير على الأراضي السورية ودعت أن يستمر “بهدوء” في الوقت الذي لم تتحرك فيه القوى الغربية لعقد أي جلسة عاجلة لمجلس الأمن كما اعتادت أن تفعل في ظروف سابقة مشابهة، وكأنها تتعمد تجاهل الواقع أو غض الطرف عنه لأنه يتناغم مع مصالحها ولم تدع إلى ذلك إلا بعد استباب الأمر لهيئة تحرير الشام. بينما وقفت إسرائيل تترقب ما ستسفر عنه الأحداث متوعدة لمن يفكر في مهاجمتها، في الوقت الذي أعلنت فيه أمريكا عن أنها أعطت فرصة كاملة عشر سنوات للأسد دون جدوى وهو ما أكده أنتوني بلينكن أمام مؤتمر وزراء خارجية حلف شمال الأطلنطي حيث قال أن رفض الأسد المشاركة بأي شكل ملموس في عملية سياسية فتح الطريق أمام هجوم هيئة تحرير الشام.
ولايمكن فصل ما حدث من دعم غربي وترويج للجولاني في الإعلام الأمريكي عن مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي يهدف إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة ومنها سورية وما كان ليحدث ذلك من دون خلع الأسد بعد فشلهم في التعامل معه خلال عشر سنوات بحسب ما قالت أمريكا نفسها وكأنها تعترف أنها تعاقبه على عدم تعاونه معها على مشروع التطبيع الذي تريد تمريره على كل دول المنطقة من أجل حليفتها إسرائيل.
ووقفت روسيا بجوار النظام السوري باعتباره حليفا لها واتهمت دولا غربية بالوقوف وراء دعم فصائل المعارضة السورية والتحريض من الخارج. وقالت ماريا زاخاروف المتحدث باسم الخارجية الروسية أن الفصائل المعارضة حصلت على طائرات مسيرة وتدريب في الخارج. بينما رد وزير الخارجية الأمريكي بأن تقدم هيئة تحرير الشام في سورية يظهر أن داعمي الأسد مشتتون، قاصدا روسيا وإيران، وهو تصريح يكشف عن تبييت النية لاستغلال هذا الوضع الإقليمي الحرج لإيران وانخراط الروس في حربهم مع أوكرانيا لتحفيز المعارضة السورية للقيام بهذه الخطوة. فيما يبدو الأمر وكأنه معركة بين موسكو وواشنطن ساحتها الأرض السورية.
توقيت حرج وعدو متربص
كما كان هناك اختيار دقيق للتوقيت المحدد للحظة الشرارة الأولى للمعارضة المسلحة والانطلاق نحو المحافظات السورية بشكل يبدو مخططا له بشكل مسبق مع جهات دولية وإقليمية لها مصلحة في هذا التحول حيث جاءت الخطوة في ظل تغيير ديناميكيات القوة بالمنطقة بفعل الصراع مع إسرائيل وحربها الغاشمة على فلسطين ولبنان واستهدافها لتصفية رموز المقاومة، فبدت سورية بدون حلفائها. وكشفت تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي في نفس يوم سقوط نظام الأسد بأن الحرب تحولت إلى سورية، عن أن المخطط يمضي قدما لتدمير المنطقة العربية وطمس قضاياها المصيرية فبدأ بغزة ثم لبنان وأحدث هزات كبيرة في حزب الله والمقاومة الفلسطينية ثم تأهب للمحطة التالية سورية والتي لم يضيع وقتا للدخول فيها عندما قامت القوات الإسرائيلية باحتلال المنطقة العازلة في الجولان السوري بشكل مفاجئ استغلالا للحالة الأمنية المترهلة على الحدود!
ومن ثم يتضاعف الخوف على سورية من مخاطر داخلية وخارجية معا، لذلك يجب على السوريين الحذر من العدو المتربص بهم في الخارج والعمل على وجود تفاهمات بين كافة الأطراف وإعلاء كلمة الوطن ولكن يظل ذلك مرهونا بالإجابة على سؤال شائك هل يسعى النظام الجديد في سوريا إلى الوصول لنقطة حوار تحتوي الجميع وتتسع لتشمل كل السوريين دون اقتتال ولا انتقام أم يسعى للانحدار نحو مستنقع جديد من الدم !!
إن ما يعنينا بالأساس هو سورية البلد والأرض والشعب في ظل ما تواجهه البلاد من مزيج معقد من التحديات السياسية والأمنية والإنسانية بطبيعة الحال. ومن ثم يجب العمل على الحفاظ على ما تبقى من مقدرات الدولة وحقن الدماء حتى لا ينجرف الشعب السوري إلى وضع خطير وكارثي.