مسيّرات وصواريخ كروز وباليستية أسقطت محرّما عمره 4 عقود
في ليلة 13-14 نيسان (أبريل) الماضي عاش الشرق الأوسط ساعات ثقيلة إثر الإعلان عن شنّ إيران هجوما على إسرائيل استخدمت فيه المسيّرات وصواريخ كروز وصواريخ باليستية. تحدّثت الأنباء عن 350 مقذوفا إيرانيا تمّ الدفع بها لأول مرة مباشرة من داخل الأراضي الإيرانية باتجاه إسرائيل. وخلال مدة رحلة المقذوفات التي استمرت لعدّة ساعات، تعذّر توقّع
تداعيات الهجوم وما سينجم عنه من خسائر، وتعذّر استشراف شكل الردّ الإسرائيلي على أول سابقة خطيرة من هذا النوع.
الاستفزاز والاستدراج
تأخر الرد الإيراني على إسرائيل عقودا وليس أياماً. امتلكت طهران كل الأسباب الشرعية والمنطقية للردّ المباشر حين نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي الإيرانية. اغتالت مسؤولين وعلماء، واستولت على أرشيف البرنامج النووي وزرعت عبوات ناسفة داخل مفاعلات نووية.
أمتلكت طهران اسبابا ملحّة حين استباحت إسرائيل مصالح ومواقع إيرانية وقتلت كبار جنرالات ومستشاري الحرس الثوري في سوريا. وفي كل مرة خرجت طهران باجتهادات وفتاوى كان آخرها بعنوان “الصبر الاستراتيجي” لتجنّب أي احتكاك مباشر، تاركة أمر “مشاغلة” العدو للفصائل التابعة لها في العراق وسوريا ولينان واليمن.
انشغل العالم أجمع في ليلة القصف الإيراني بحدث استثنائي على الرغم من أنه من المفترض أن يكون عاديا روتينيا رتيبا قد تأخر. ليس صحيحا أن استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نفس الشهر كان عملاً فوق العادة لكونه استهداف لـ “أراض إيرانية”. سبق لإسرائيل أن استهدفت الأراضي الإيرانية مباشرة حين نفّذت عملياتها داخل إيران. ومع ذلك لم تنتفض طهران غيرة على السيادة.
سعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2023 إلى استغلال “لحظة تاريخية” نادرة من التضامن والدعم الدوليين. صوّرت له تلك اللحظة إمكانات التخلّص من “الأعداء” جميعا. راح بعيدا في الردّ على حزب الله في لبنان. تقصّدت إسرائيل إلحاق دمار بقرى ومدن جنوب البلد وإنزال خسائر
فادحة في صفوف الحزب والضرب في العمق اللبناني مخترقة خطوطا حمر وقواعد اشتباك مزعومة. وراح بعيدا في تنفيذ اغتيالات طالت رؤوسا كبرى إيرانية في سوريا حتى صار البلد كله غير آمن لوجود إيراني حتى في منشأة دبلوماسية إيرانية.
وصل الاستفزاز إلى حدّ تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، فنجح نتنياهو، “أخيرا”، في استدراج إيران إلى ردّ قد يستدعي حربا يتمناها نتنياهو من شأنها جرّ واشنطن وكل المنظومة الغربية لنصرته.
العواصم والحدث
إثر القصف الإيراني استعاد نتنياهومن جديد لحظة الدعم والتضامن الغربي التي كان بدأ يفقدها. قبل ذلك خرجت من واشنطن كلمات كانت محرّمة تطلب وقف إطلاق للنار وإنهاء الحرب في غزّة. وخرج ريشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا، يتحدث عن “حمام دم” في غزّة وضرورة وقف الحرب، فيما وزير خارجيته ديفيد كاميرون أعلن أن “دعم إسرائيل ليس بلا شروط”. وتبرّمت باريس وبرلين واقتربتا من موقف مدريد القديم المطالب بوقف المجزرة.
وحين أغارت مسيّرات وصواريخ إيران على إسرائيل، ندّدت العواصم الغربية وأعلنت دعم إسرائيل، فيما تحرّكت إمكانات عسكرية أميركية بريطانية فرنسية لردّ الهجوم وإحباطه. كل شيء بدا مرسوما مدبّرا. استنفرت إيران إعلامها المباشر وغير المباشر لتأكيد العزم على الردّ الكبير. قال المرشد علي خامنئي “ستندم إسرائيل”. حمل ضيوف الفضائيات المطلّون من طهران كلمة سرّ واحدة تمّ تعميمها: “الردّ سيكون مباشرا من إيران وسيكون مدمّرا”.
على خلفية هذا “العزم”، زار وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان سلطنة عُمان التي رعت تواصلا بين طهران واشنطن
لتبادل الرسائل. كشفت “رويترز” أن إيران أبلغت الأميركيين أن “الردّ لن يكون تصعيديا”.
هذا في المعلن، لكن قنوات خلفية أخرى ناقشت على مدى 12 يوما شكل الردّ وحجمه ومساراته وتوقيته. أبلغت واشنطن حلفاءها الأوروبيين الموقعين على الاتفاق النووي أن يلعبوا أدورا محددة. تواصلت باريس ولندن وبرلين مع طهران. في الباطن التحدّث مع إيران لعقلنة ردّ فعلها. وفي الظاهر المعلن من العواصم الثلاث “تحذير لإيران من جرّ المنطقة إلى صراع شامل”.
توافقت العواصم على ضخّ مزيد من التهويل والدراما لمواكبة واحتضان التهويل الآتي من إيران. شكّلت فرنسا خليّة أزمة. تكثّفت اجتماعات في لندن مع الأجهزة والوزارات المعنيّة. خرجت منابر عسكرية في واشنطن تستبعد استخدام السلاح الكيماوي. وكان سهلا لأي مراقب استغراب جرعات التهويل المفرطة.
كان كل شيء مرسوما حسب الخطّة. أدارت واشنطن “الورشة” وحدها. ضخّت مخابراتها المعلومات بدقّة لافتة (على منوال ما كشفته عن الهجوم على أوكرانيا وهجمات “داعش” ضد إيران وروسيا). كشفت عن التوقيت. أُعلن عن تقصير الرئيس الأميركي جو بايدن عطلته الأسبوعية والعودة إلى البيت الأبيض، وأُعلن عن اجتماع طارئ لحكومة نتنياهو في ملاذات محصّنة. بثّت واشنطن خبر انطلاق المسيّرات قبل أن تعلن طهران ذلك ويصدر الحرس الثوري بيانه الأول.
قواعد الاشتباك
توقّعت إسرائيل مبكرا أن أهداف القصف محصورة في “هضبة” و “صحراء”. لم يكن الأمر نتيجة نباهة مخابراتية بل التزاما بتفاهمات واتفاقات مسبقة. استهدفت جل المسيّرات والصواريخ هضبة الجولان وصحراء النقب. استغرق أمر العمليات من 6 إلى 7 ساعات كانت كافية لتحرّك دفاعات إسرائيل والحلفاء لردّ الهجوم أو معظمه حتى قبل أن يخترق الأجواء الإسرائيلية.
كانت إيران تعرف ذلك تماما. جاءت صيّغ إيرانية في الرسائل إلى الأميركيين تحدثت عن “ردّ لا يستدعي ردا مضاداً”. قال المدافعون عن الردّ الإيراني إنه، بالمعنى العسكري، ليس مهما أن تتمكن الدفاعات الإسرائيلية من إسقاط الصواريخ والمسيّرات فذلك منطقي ومتوقّع، لكن المهم، والرادع في هذا الردّ هو اثبات القدرة العسكرية والتقنية على إطلاق كل هذه النيران من أيران مباشرة على إسرائيل.
لا أحد يشكّ بالقدرات الصاروخية والجويّة المسيّرة لإيران. سبق لإيران أن استخدمت صواريخها لضرب إقليم كردستان عدّة مرات ضد أهداف قيل إنها للموساد هناك. استخدمتها أيضا ضد قاعدة عين الأسد في العراق ضد تواجد عسكري أميركي انتقاما لمقتل قاسم سليماني في 3 كانون الثاني (يناير) 2020.
ولا أحد يشكك بقدرات المسيّرات من صناعة إيرانية التي أظهرت كفاءاتها في الحرب في أوكرانيا وتحدثت تقارير أميركية عن ظهورها لصالح الجيش السوداني في حربه ضد “قوات الدعم السريع”. لا أحد شكك بالقدرة على إطلاق قوة نارية من إيران. غير أن إطلاق ذلك يحتاج إلى قرار سياسي لطالما رفض المواجهة وأباحها في الساعات الماضية ما يؤكد أن الأمر استثناء نادر وقد لا تكون له تبعات قادمة.
استعادت واشنطن زمام الأمور. بدت راعية إدارة النزاع بين المتنازعين. وبدت أكثر قوة على فرض هيبتها في ترتيب الردّ ورعايتها مع الحلفاء لعمليات الردّ على الردّ. بدت أيضا أكثّر نفوذا على نتنياهو وحكومته لجهة إظهار الحزم في حماية إسرائيل وفي إظهار ارتهان إسرائيل لواشنطن وحلفائها حين تتعرض لخطر يمكن أن يكون تحدّيا استراتيجيا.
من جهة أخرى باتت في يد نتنياهو حجّة كبرى تؤكد صحة رفضه للاتفاق النووي، ذلك أنه في عرف إسرائيل ووفق ليلة 13-14 نيسان (أبريل) تشكّل إيران، بصواريخها ومسيّراتها، خطرا استراتيجيا على إسرائيل، فما بالك إذا صارت إيران دولة نووية.
في المقلب الآخر بدا أن إيران تخوض خصاما ثنائيا مع إسرائيل. تخوض معركتها وحيدة تكاد تكون معزولة من دون حلفاء ولا تنسى بالمناسبة من شنّ حملة انتقادات قديمة جديدة ضد الأردن. أخرج الغرب مخالب جماعية، ولم يصدر عن الصين وروسيا ما بالإمكان الركون إليه.
بات من منطق الأشياء أمام نادي “الاتفاق النووي” أن يفرض على طاولة المفاوضات صفقة تتجاوز النووي لتطال مسيّرات إيران وبرامجها الصاروخية. حتى دول المنطقة “قلقت” ونأت بنفسها عن الحدث متأملة أخطار دمار يخترق أجواءها ويهدد أمنها في صراع “خاص” بين إيران وإسرائيل. في ليلة القصف الإيراني لإسرائيل سقط محرّم عمره من عمر الجمهورية الإسلامية. كرّست تلك الليلة “عادية” انطلاق النار من إيران صوب إسرائيل ما قد يكرّس “عادية” خطيرة تنقل نارا من إسرائيل إلى إيران مباشرة. شيء كبير انقلب في توازنات المنطقة ربما قد يستدعي حاجة لحرب كبرى.
الردّ على الردّ
قامت مقاتلات وأنظمة الحماية الصاروخية الإسرائيلية بصدّ الهجوم مدعومة بدفاعات أميركية وبريطانية وفرنسية. وفيما أعلنت إسرائيل إسقاط كافة المقذوفات قبل وصولها إلى أجوائها، سُجل سقوط بعضها على بعض الأهداف منها مطار
رامون جنوب صحراء النقب. خلط الحدث الأوراق في الشرق الأوسط لكنه أيضا أعاد ترتيب أولويات وخيارات إيران في مسائل الأمن والدفاع.
تراوح تقييم الهجوم الإيراني بين قراءة لطهران وحلفائها في المنطقة تعتبر الحدث سابقة تؤسّس لموازين ردع جديدة، ورواية إسرائيلية غربية تتحدث عن فشل هذا الهجوم في تحقيق أغراضه، وعن قدرات إسرائيل التسليحية العالية في ردّ هجوم واسع بهذا الحجم مقابل انكشاف انخفاض مستوى الأسلحة الإيرانية، وعن عدم امتلاك ندّية في أي مواجهة مباشرة بين الطرفين. وفيما رأت الرواية الإيرانية بأن منظومة دفاعات دولية إقليمية ساهمت في صدّ الهجوم الإيراني، فإن طهران اكتشفت جاهزية هذه المنظومات لحماية إسرائيل، واستنتجت ضرورة أخذ الأمر في الحسبان في الصراع بين إيران وإسرائيل.
في 19 نيسان (أبريل)، أي بعد أقل من اسبوع على الهجوم الإيراني، تعرّضت قاعدة عسكرية إيرانية في منطقة أصفهان وسط إيران إلى هجوم يُعتقد أن إسرائيل كانت وراءه. لم تعترف إسرائيل رسميا بالهجوم، غير أن وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، كتب متهكما على منصة X (تويتر سابقا) كلمة “مسخرة” اعتراضا على مستوى الهجوم، ما فضح اعترافا شبه رسمي من عضو في حكومة بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل قد نفّذت هجوم أصفهان. وقد تتالت تقارير صحفية إسرائيلية وغربية تكشف تفاصيل العملية الإسرائيلية لجهة استخدام صاروخ واحد أطلق من مسيّرة إسرائيلية.
تعتقد تحليلات أميركية أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن نجحت في الضغط على الحكومة الإسرائيلية للحدّ من حجم ومستوى الرد الإسرائيلي. وقد ساهمت عواصم أوروبية في هذه الضغوط، بما في ذلك من خلال زيارة كل من وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بربوك، ووزير خارجية بريطانيا، ديفيد كاميرون، إلى إسرائيل. وقد أعلن كاميرون من هناك أن “إسرائيل اتّخذت قرار الردّ وسيكون الردّ ذكيا ومحدودا”، ما أعطى انطباعا عما وصلت إليه التفاهمات الغربية الإسرائيلية بشأن هذا الردّ.
سقوط “الصبر الاستراتيجي”
تمسكّت إيران خلال العقود الأخيرة بـ “الصبر الاستراتيجي” وفق خيار دافع عنه مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي. وقد ظهر صمود هذه الاستراتيجية على الرغم من قيام إسرائيل بتنفيذ عمليات تخريب واغتيال داخل الأراضي الإيرانية وبتنفيذ عمليات اغتيال طالت مسؤولين كبار في الحرس الثوري يعملون في سوريا. وفرضت طهران هذه الاستراتيجية على حزب الله في لبنان من خلال ضبط مستوى هجماته على الحدود مع إسرائيل على الرغم من تكبّد الحزب خسائر نوعية منذ بداية تدخله الداعم لغزّة في 8 تشرين الأول (اكتوبر) 2023. ووفق هذه الاستراتيجية ضبطت إيران الفصائل الموالية لها في العراق إلى درجة إعلان هذه الفصائل وقف هجماتها ضد أهداف أميركية في شباط (فبراير) الماضي.
وقد اعتبر تخلي إيران عن سياسة “الصبر الاستراتيجي” تطوّرا لافتا له ظروفه وحيثياته. غير أن متابعين للشؤون الإيرانية رصدوا تصدّعا في عملية اتّخاذ القرار لجهة عدم تمكّن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي والوزارات المعنية، لا سيما وزارة الخارجية، من التأثير على قرار اتّخذه خامنئي ودوائر القيادة في الحرس الثوري. ويأتي قرار الردّ الإيراني في مخالفا لمسار إيراني معتمد في عدم التعامل مباشرة مع الأخطار الإسرائيلية والاستمرار في الردّ من خلال الوكلاء. وعلى الرغم من أن هذا التحوّل استند على واقع أن قصف القنصلية الإيرانية في دمشق يعتبر انتهاكا للسيادة الإيرانية، فإن إسرائيل سبق أن انتهكت السيادة الإيرانية حين نفذت عمليات طالت مفاعل نووي والاستيلاء على أرشيف البرنامج النووي واغتيال شخصيات قيادية منها محسن فخري زاده الذي يعتبر “أبو القنبلة النووية الإيرانية” من دون أن يقابل ذلك بردّ إيراني مباشر ضد إسرائيل.
خطاب إيران
بعد هجوم إيران الانتقامي ضد إسرائيل والردً الإسرائيلي، تمّ رصد مجموعة من ردود الفعل الإيرانية التي تعبّر عن إدراك طهران لواقع التفاوت في مستوى قدراتها مع إسرائيل، خصوصا إذا ما أُخذ في الحسبان حجم التدخّل الأميركي الغربي الذي منع إسرائيل من شنّ هجوم أوسع. وقد جاء ردّ الفعل الإيراني وفق ثلاثة عناوين:
1-تبرير الهجوم الإيراني ونتائجه.
2-نفيّ الهجوم الإسرائيلي المضاد والتقليل من أضراره.
3-التلويح بالذهاب نحو إنتاج القنبلة النووية.
وتعبّر هذه العناوين عن نفسها وفق المواقف والتصريحات التالية:
في 21 نيسان (أبريل) قال المرشد علي خامنئي، عند استقباله لعدد من كبار القادة العسكريين: “إن “مسألة عدد الصواريخ التي أُطلقت أو الصواريخ التي أصابت الهدف والتي يركّز عليها الجانب الآخر، هي مسألة ثانوية وفرعيّة”. وشدد على أن “القضية الأساسية هي تجلّي قوة الإرادة لدى الشعب الإيراني والقوات المسلحة على الساحة الدولية، وهذا هو دليل انزعاج الطرف الآخر”. وقد فُسّر هذا التصريح بأنه يقدم مطالعة، من أعلى السلطة في البلاد، تبرر محدودية النتائج العسكرية التي حققها الهجوم الإيراني، وتعظّم من الأهداف السياسية للهجوم.
في 20 أبريل 2024، أي غداة هجوم أصفهان، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في مقابلة مع شبكة NBC الأمريكية في نيويورك، إن المسيرات التي استخدمت في الهجوم على مدينة أصفهان الإيرانية تشبه “ألعاب الأطفال”. وقلّل الوزير الإيراني من أهمية الهجوم، مؤكدًا أنه لن يكون هناك ردّ إيراني انتقامي ما لم يتم استهداف “مصالح” طهران. أضاف أن الأمر كان عبارة عن “طائرتين أو 3 طائرات دون طيار، تلك التي يلعب بها الأطفال في إيران”. وتابع: “طالما أنّه لا توجد مغامرة جديدة (هجوم عسكري) من قبل النظام الإسرائيلي ضدّ مصالح إيران، فلن نرد”. وقد فُسّر هذا الموقف بمثابة قرار بعدم الرد من قبل إيران، ووقف التصعيد في مستويات الردّ الناري بين البلدين.
التلويح بالخيار النووي
على الرغم من محافظة المنابر السياسية والعسكرية الإيرانية على مستوى عال من التهديد والوعيد، غير أن مواقف أخرى لافتة كشفت عن تولّد قناعات داخل الدوائر العسكرية بأن مستوى الردع الدي تمتلكه إيران ليس كافيا، بالأسلوب والمستوى الذي ظهر في الردّ الإيراني، وأن البلاد تحتاج إلى استراتيجية وتكتيكات أخرى.
ويمثّل موقف عبد اللهيان في تأكيد عدم الردّ على إسرائيل ونفيّ تورطها في هجوم أصفهان تحوّلا متناقضا مع تهديدات الرئيس إبراهيم رئيسي الذي توعّد في 16 نيسان (أبريل)، أي قبل 3 أيام على هجوم أصفهان، برد “سيكون قاسيا على أي تحرك يستهدف مصالحها” وتهديدات لنائب وزير الخارجية للشؤون السياسية علي باقري كني في اليوم نفسه من أن “بلاده ستردّ في ثوان معدودة على أي ردّ إسرائيلي.
وإذا ما لوّح باقري كني، وفق تصريحه، بتحريك قوى نارية أقرب جغرافيا إلى إسرائيل يمكن أن يكون مصدرها لبنان أو سوريا، فإن مواقف أخرى ذهبت أبعد من تكتيك استخدام الفصائل الموالية لإيران في المنطقة لتشكل مع إيران نفسها قوى نارية واحدة متعددة الجبهات، باتجاه التلويح بالذهاب العلني نحو الخيار النووي.
فعشية الرد الإسرائيلي المزعوم في أصفهان، حذّر قائد هيئة حماية المنشآت النووية الإيرانية العميد أحمد حق طلب في 18 نيسان (أبريل)، أنّه “من الممكن مراجعة سياستنا النووية إذا حاولت إسرائيل ضرب منشآتنا”. لم يكن التحذير الإيراني هو الأول من نوعه خلال السنوات الأخيرة في بلد يؤكد على سلمية برنامجه المدني وعلى فتوى للمرشد علي خامنئي تحرّم استخدام البرنامج لأغراض عسكرية. سبق لوزير الخارجية الإيراني السابق، المستشار السياسي للمرشد، كمال خرازي، أن أكد في 17 تموز (يوليو) 2022 أن لبلاده “القدرات الفنية” لصناعة قنبلة نووية، الا أنه “لا قرار لدينا بذلك”.
أتت التلميحات السابقة لترفد مواقف مستجدّة بعد التوتر الأخير عبر عنها، إضافة للعميد حق طلب، مصدر برلماني ما أوحى بمسار إيراني يمكن انتهاجه. ففي نيسان (أبريل)، كتب جواد كريمي قدوسي، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني على منصة (X) منشورا قال فيه إن بلاده “يمكنها القيام بأول اختبار نووي خلال أسبوع واحد، إذا صدر إذن بذلك”، في إشارة إلى فتوى المرشد. غير أن صحيفة “فاردا نيوز” الإيرانية انتقدت تصريح قدوسي واعتبرته محرجا للدولة ولا يعبّر عن الموقف الرسمي. وقبل ذلك، في 10 نيسان (أبريل) قال محمود رضا آقا ميري، أستاذ الهندسة النووية وعميد جامعة شهيد بهشتي: “وفقا لفتوى المرشد، يحظر دينيا بناء القنبلة النووية. ومع ذلك، إذا تغيرت وجهة نظره وفتواه، فنحن قادرون على بناء القنبلة النووية”.
فشل الاتفاق النووي
لم يعد التلويح بالقنبلة النووية الإيرانية سلوكاً إيرانيا تقليديا. فقد أعلن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، في 24 نيسان (أبريل) 2025 بأن إيران باتت “على بعد أسابيع وليس أشهرا” من امتلاك المواد الكافية لتطوير قنبلة نووية. وأعرب غروسي عن قلقه من اقتراب طهران لهذا المستوى، لكنه أضاف أن “هذا لا يعني أن إيران تملك أو ستملك سلاحاً نووياً في غضون تلك الفترة الزمنية”، لافتاً إلى أن “الرأس الحربي النووي الفعال يتطلب أشياء إضافية كثيرة بمعزل عن امتلاك المواد الانشطارية الكافية”. وردت صحيفة “مشرق نيوز” الناطقة بلسان الحرس الثوري الإيراني منتقدة تصريحات غروسني، لكنها أكدت أن “العقيدة النووية الإيرانية واضحة وشفافة تماما، ولكن إيران ستستخدم جميع قدراتها في المجال النووي لتحقيق أحدث التقنيات”.
حريّ التذكير بأن إيران التزمت، بموجب اتفاق فيينا المتعلّق ببرنامجها النووي والمبرم عام 2015، بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67 بالمئة. وبعد انسحاب الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، رفعت إيران تدريجيا من نسب التخصيب إلى أن وصلت حاليا إلى 60 بالمئة بما بفوق ما تحتاجه الأغراض المدنية للبرنامج. وقد اكتشف مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فبراير 2023 أثار تخصيب في منشأة فوردو بنسبة 84 بالمئة اعتبرتها إيران حادثا غير مقصود. مع العلم أن صناعة قنبلة نووية يحتاج إلى نسبة تخصيب تصل إلى 90 بالمئة.
الأمر يعني أن تطوّر الصراع بين إسرائيل وإيران من عاديته غير المباشرة إلى مستوى الصدام المباشر قلب كل قواعد الاشتباك وعزّز احتمالات اللجوء إلى الخيار النووي. ولئن تمتلك إسرائيل ترسانة نووية لا تعترف بها، إلا أن الأحداث الجديدة معطوفة على شلل المفاوضات الدولية مع إيران بشأن برنامجها النووي يشجع طهران على المضي قدما في مستويات التخصيب وصولا إلى تنفيذ أو تجربة إيرانية نووية. وإذا حصل ذلك، فإن المنطقة، وعلى منوال ما سبق أن أعلنته السعودية، ستذهب إلى سباق تسلّح نووي من الصعوبة ضبط واستشراف نهاياته.
-صورة استهداف إسرائيل لقاعدة عسكرية في أصفهان
تعليق: ردّ إسرائيل على قاعدة أصفهان: ردّ محسوب لم تعترف به
تأخر الرد الإيراني على إسرائيل عقودا وليس أياماً. امتلكت طهران كل الأسباب الشرعية والمنطقية للردّ المباشر حين نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي الإيرانية. اغتالت مسؤولين وعلماء، واستولت على أرشيف البرنامج النووي وزرعت عبوات ناسفة داخل مفاعلات نووية. أمتلكت طهران اسبابا ملحّة حين استباحت إسرائيل مصالح ومواقع إيرانية وقتلت كبار جنرالات ومستشاري الحرس الثوري في سوريا. وفي كل مرة خرجت طهران باجتهادات وفتاوى كان آخرها بعنوان “الصبر الاستراتيجي” لتجنّب أي احتكاك مباشر، تاركة أمر “مشاغلة” العدو للفصائل التابعة لها في العراق وسوريا ولينان واليمن.
لم يعد التلويح بالقنبلة النووية الإيرانية سلوكاً إيرانيا تقليديا. فقد أعلن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي بأن إيران باتت “على بعد أسابيع وليس أشهرا” من امتلاك المواد الكافية لتطوير قنبلة نووية. وأعرب غروسي عن قلقه من اقتراب طهران لهذا المستوى، لكنه أضاف أن “هذا لا يعني أن إيران تملك أو ستملك سلاحاً نووياً في غضون تلك الفترة الزمنية”، لافتاً إلى أن “الرأس الحربي النووي الفعال يتطلب أشياء إضافية كثيرة بمعزل عن امتلاك المواد الانشطارية الكافية”. وردت صحيفة “مشرق نيوز” الناطقة بلسان الحرس الثوري الإيراني منتقدة تصريحات غروسني، لكنها أكدت أن “العقيدة النووية الإيرانية واضحة وشفافة تماما، ولكن إيران ستستخدم جميع قدراتها في المجال النووي لتحقيق أحدث التقنيات”.