الأبوّة الفاعلة بين التنميط وقبول التغيير

الدكتور في علم النفس المرضي، إيلي أبو شقرا.

أوس وليلى، هو حساب على موقع الأنستغرام، أبٌ عربي يعيش في بلد أجنبي مع زوجته العربيّة وله طفلة اسمها ليلى، يعرض فيه منذ  الشهور الأولى لولادة طفلته كيف يقوم كأبٍ برعاية طفلته، والاعتناء بها إلى جانب والدتها، يشاركها اللعب والخروجات، يُطعمها يُبدل لها ملابسها يرافقها حتى موعد النوم، يأخذها إلى الطبيب إلى الحديقة، يعلمها بعض المهارات اليومية، يشرح عبر مقاطع مصوّرة وكتابة مُرفقة بالصور، كيف يتعاون مع أمّ ليلى على زراعة بعض السلوكيات الحسنة في طفلته. ويعرض كيفية اعتنائه بها ويحرص على ذكر الدور الأمومي المهم التي تؤديه أمّ ليلى التي لا تظهر في المقاطع، يتحدث أوس عن قناعاته التربويّة كيف يُربي طفلته وكيف يطوّر نفسه ليعرف المزيد عن تربيّة الأطفال.

يتابع أوس ما يفوق الألفَي متابع، معظمهم من النساء والأمهات، وبأغلبهم يتمنين لو كان أباء أطفالهم مثل أبي ليلى؟!

        الصورة النمطيّة للأبوّة

رسّخت القيم الاجتماعيّة المتداولة، والعُرف الاجتماعي المعمول به في المجتمعات العربيّة خاصة، مفاهيم محددة للأدوار الاجتماعيّة عند المرأة والرجل، فأناطت بالمرأة مسؤوليّة رعاية الطفل والاهتمام بشؤونه اليوميّة والمسلكيّة كافة، وحمّلت الرجل مسؤولية الإنفاق وتأمين الحماية ومتطلبات العيش. فنشأ جيل من الذكور لا يفقهون من الأبوّة سوى عنوانها.

 فبين آباء تخلوا عن مسؤولياتهم في التنشئة والرعاية، وآباء كسروا الصورة النمطيّة للأبوّة، وتحملوا رعاية أطفالهم إلى جانب الأم.  تغيّرت الكثير من العادات، وتنبّه المجتمع ولو بشكل خجول أنّ مسؤولية التنشئة ليست بالأمر الهيّن وهي تشكل عبء ثقيل في حال كان الرجل متبرئًا من مسؤوليّته هذه.

        الأبوّة الفاعلة والأبوّة السالبة

يستخدم الدكتور في  علم النفس المرضي والمحلّل النفسي الدكتور إيلي أبو شقرا، مصطلح الأبوّة الفاعلة والأبوّة السالبة بديلًا عن مصطلح الأبوّة

إعلان تعريفي عن برنامج أب.

السلبيّة، ويُوضّح أنّ ” المصطلح يؤثر في المتلقّي بشكل كبير، حين يسمع الأب مثلاً عن أنّه أب غير فاعل قد تؤثر به العبارة أكثر من الأب السلبيّ الّتي ما سمعها قد يتخذ موقفاً دفاعيّاً سلبيّاً”.

وفي التعريف: “يمكننا تحديد الأبوّة الفاعلة بالأبوّة الّتي يمارس فيها الأب وظائفه الّتي حدّدها العلم: علم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع وليس الوظائف المتوارثة عن تقاليد، ربّما كانت تصلُح جزئيًا في وقتها لكنّها اليوم أصبحت بالية ومؤذية ليس للأمّ فقط بل للطفل.”

 يؤكد الدكتور هنا على أن تنميط صورة الأبوة ضمن إطار محدّد لم يعد معمولًا به في وقتنا، لتنافيه مع روح العصر الذي يتطلب فعاليّة أكبر بالتعامل وتحمل المسؤولية الأبويّة في الرعاية والتنشئة.

        الخوف من التغيير

لا يستطيع الكثير في مجتمعاتنا العربيّة تقبّل فكرة المشاركة على قاعدة المساواة بين الأب والأم، فيرون أن قيام الأب بدوره في رعاية الطفل الرعاية اليوميّة التي تتطلب الاهتمام والاعتناء بالطفل هو منقصة، ويوصم الزوج بأنه يعيش تحت إمرة زوجته حتى لو كانت الزوجة تعمل خارج المنزل.

يعود ذلك برأي الدكتور أبو شقرا إلى أنّ: ” مجتمعاتنا العربيّة وعلى صعد مختلفة ما زالت تعيش ما يُسمّى بعلم النفس التكرار القهري. هذه المجتمعات ما برحت تعيد الأنماط ذاتها خوفاً من أي تغيير، وتكريساً لفوقيّة قد تكون دفاعية ضدّ شعور عميق بالنقص. إنّ الرجل الّذي يعتبر أنّ رعاية أطفاله ومساعدة زوجته ينتقص من رجوليّته يعيش عقدة النقص المتوارثة أو يخاف من ضغط المجتمع عليه.”

        التعاون هو الأساس

حضور الأب في حياة الطفل هو حاجة أساسيّة لا تقتصر على تأمين المواد الماديّة ومتطلبات العيش، وليست محددة بوقت معيّن، وهو ما يؤكّده الدكتور أبو شقرا:

“ليس هناك من أيّ وقت يمكن للرجل الأب أن يتخلّى عن دوره ويترك ذلك للأم. فوظيفة الأب الأساسيّة هي أن يفرق الطفل عن الأمّ ويسمح للطفل بالعبور من العلاقة الثنائية الأولى مع الأم إلى علاقة ثلاثية تسمح للطفل بالعبور من التعلّق المفرط بالأمّ باتجاه الاستقلاليّة. والأب هو الصورة الّتي على الطفل أن يتماهى بها وهو بطريقة لعبه مع الطفل وطريقة تواصله يختلف عن الأم ويقدّم نموذجاً ثانياً في التواصل.

بالإضافة إلى ذلك، الأب هو الداعم الأوّل للأمّ، فعلينا أن نتساءل كيف ستكون نتيجة تربيتها للطفل متى ما كانت محبطة؟”

إذًا فالتعاوُن هو الأساس الذي تُبنى عليه البيوت، بما يستطيعه كلا الطرفين، وبما لا ينتقص من دور أحدهما، وبما لا يُضيف أعباءً لا قدرة للآخر على تحمّلها وحده، وفي السياق ذاته يؤكد أبو شقرا: “ليس هناك من تعارض بين عمل المرأة والتربية الموزونة. التعاون بين الأم والأب بالعمل والتربية والحياة العائليّة لا يمكن أن ينتج تربية غير موزونة.  ويُضيف: الكلمة المفتاح في هذا المجال هي التعاون والتفاهم وتقسيم الأدوار. “

برامج الأبوّة

قد يؤثر نماذج الآباء الذين يعرضون خبراتهم في الأبوّة والتربيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، على جعلنا نألف هذا التغيير، ونألف دور الأب الموازي لدور الأم، ومن هنا يهمّ أن نشير إلى أنّ ذلك لا يعني أن ننكر أنّ لكلٍّ من الأم والأب دوره الخاص والمُميّز في التربيّة، والذي بحكم الطبيعة الإنسانيّة والعاطفيّة لا يستطيع أن يقوم به الطرفيْن معًا، وهؤلاء النماذج هم بالأخير عارضي محتوى، وبالتالي لا يمكننا أن نرى ونعرف ما يحدث خلف الكواليس!.

يشير الدكتور أبو شقرا، هنا: “هذه الأنماط قد تؤثر لكنّها لا تكفي، ذلك أنّ المشاهدات تكون أكثر من الأمهات، فيما بعض الرجال قد ينتقدونها. مما يعزّز الإحباط أكثر عند الأم”.

        يبدو من هنا أن الموضوع يحتاج إلى برنامج ممنهج بمساع حكوميّة تهدف إلى تفعيل دور الأبوة بالحديث عنها ومن خلال المشاريع الهادفة وتعديل المناهج المدرسية التي دومًا ما تقدم الأم في صورة ربة المنزل الغارقة في العمل المنزلي وتُقدم الأب في صورة العامل الذي يحضر متطلبات أسرته ويجلس على الأريكة ليقرأ  جريدة أو يتصفّح هاتفه في أيّامنا هذه.

على هذا الصعيد، قامت بعض الجمعيات والمنظمّات المحليّة في لبنان، بإطلاق برامج تستهدف الرجال، تترافق مع الوعي بتحديات التربيّة ومواجهة الضغوطات الناتجة عن الأعباء الاقتصادية ونقص الموارد، وتقديم الدعم لمعرفة كيفية التعامل مع الأطفال. ومنها برنامج “قُدوة” الذي أطلقته منظمة “كفى عنف واستغلال” بالشراكة مع منظمة اليونيسف، وهو حملة توعوية تحت عنوان قدوة في التربيّة.  بهدف دعم وتفهّم حاجات الأطفال النفسيّة وردود أفعالهم التي تحمل رسائل على الوالدين التنبُّه لها ومعالجتها من خلال أساليب تربوية إيجابيّة، تساعدهم في تخطي المشكلات وتحافظ على علاقة حية بين الأهل والطفل. من خلال فيديوهات قصيرة  وكتيب خاص ببعض التقنيات التي تساهم في بناء علاقة أفضل، وإطلاق خط الاستشارات المجاني، الذي يمكّن الأهل ومقدمي الرعاية من التواصل مع الاختصاصيين  لتزويدهم بالمشورة والدعم والمعلومات حول التربية الإيجابية، تقديم جلسات توعوية حول الموضوع.

وضمن السياق نفسه، أطلقت منظمة أبعاد  برنامج “أب” بهدف تعزيز الوالدية الإيجابيّة ودعم المساواة في العلاقات بين الجنسين وتفعيل مشاركة الآباء في نماء الطفولة المبكرة. بالشراكة مع  وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانيّة.

 يتضمن الدليل برنامج تدريب متكامل من 10 جلسات يُعنى بالتربية الإيجابيّة للطفولة المبكرة حتى عمر 8 سنوات، وجلسات مخصصة للآباء والأمهات وهي عبارة عن برنامج تمكين مهارات وتبادل خبرات في موضوع التربية الإيجابية ودور الوالدين في الأسرة. بهدف إنتاج مورد تدريبي وطني يستهدف الأسرة. البرنامج هو نسخة معدّلة من برنامج “p  ”  البرازيلي الذي يوفّر مساحة آمنة للآباء من أجل تحديد الممارسات الفُضلى وإشراكهم في صحة الأمومة والطفولة والحدّ من العنف وتعزير الشراكة الزوجية.

وقد حرص القيّمين على اختباره ليتناسب مع البيئة الثقافية اللبنانيّة. ويعدّ المنهاج الأوّل من نوعه على صعيد الأسرة.

        الأبوّة وهرمون الحُب

تشير الدراسات  أن مستوى هرمون “أوكسيتوسين”  Oxytocin، وهو هرمون الحب، المسؤول عن تقوية الروابط الاجتماعية بين الآباء والأطفال يرتفع في الدم عند الآب عند اعتنائهم بأبنائهم. ومن المهم أن نشير هنا أنه لا يوجد أب مثالي ضمن معايير وصفات وسلوكيات محددّة إنما الأب الجيد هو الي يهتم باحتياجات أبنائه النفسية والعاطفية ويبادر إلى تلبيتها، ويقدّم لهم الدعم.

عناية الآباء بأبنائهم ينعكس إيجابا على مسلكيات الأطفال ويبعث الشعور بالرضا عند الآباء، فمن خلال الأب ينمو الحسّ الاجتماعيّ لدى الطفل فيتماهى مع شخصية والده في التعامل مع الآخرين، ويكتسب مهارات الاستقلاليّة  واتخاذ القرارات الصائبة.