الأدب الاصطناعي والمبدع

حوار الدكتورة جويل فضول لمجلة الحصاد – لندن

جويل فضّول للحصاد:

يفرض الأدب الاصطناعيّ اليوم نفسه بشكل لافِت على السّاحة الأدبيّة. قد يجد بعضهم أنّ هذا الأمر خطِر، وأنّه يُهدّد مصير الأدباء والكتّاب، ولكنّ الأمر يستحقّ التّجربة.

أميل دومًا إلى الكِتابة، على الرّغم من شغفي الكبير بالتّكنولوجيا والتّعليم والتّدريب

إنّ تطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ تُشكِّل عائقًا أمام الكثير من الفنون، ولكن لا أرى أنّ ذلك سيؤثّر على الفنّ بالطّريقة الّتي نسمعها.

كثيرة هي التحديات التي يواجهها الإنسان اليوم في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها عصرنا وقد بات تأثيرها كبيرًا في الحياة على مختلف الأصعدة، وخصوصًا في مجال الفنون والآداب. من هذه التحديات ثورة الذكاء الاصطناعي وهيمنته التي خلقت تحديًّا مع المبدع الذي أسس لهويته عبر التاريخ، وصنع لنفسه طابعًا خاصًّا.

ما يعنينا هنا هو الفنون وخصوصًا الآداب الإنسانية بوجود ما يسمى “الأدب الاصطناعي” والحياة الثقافية والاجتماعية… ودور المبدع الحقيقي  في خلق مساحات إبداعية جديدة ووعي متحرر يقوم على أساس اعتبار الذكاء الاصطناعي مساعدًا للإنسان والفنان المبدع بشكل خاص.

أمام كل السرعة والتطور بات من الصعب التمييز بين ما هو جاهز وبين الإبداع الحقيقي، وهذا ما يجعلنا نفكر في مجموعة من الإشكاليات والأسئلة نفكر فيها ونطرحها على ضيفتنا في هذا العدد من مجلة الحصاد، الكاتبة والناقدة والأكاديمية دكتور”جويل فضّول”.

وجويل فضول أستاذة محاضرة في جامعة القدّيس يوسف وفي جامعة القدّيس جاورجيوس في بيروت – وهي مُستشارة لُغويّة في لجنة الإنقاذ الدّوليّة (IRC) – مُصمّمة وسائل تعليميّة ومُدرِّبة مُعتمدة.

كذلك هي عضو في لجان تحكيم رسائل الماجستير وأطاريح الدّكتوراه في جامعة القدّيس يوسف في بيروت.

حائزة شهادة دكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها (الأدب المُقارن)، ودبلوم في تصميم الوسائل التّعليميّة المتعدّدة الوسائط.

وهي أيضًا شريكة مُؤَسِّسِة لأكاديميّة Ed-Cloud الّتي تُعنى بتدريب الأساتذة والطّلّاب على استخدام الوسائل التّكنو بيداغوجيّة الحديثة.

من مؤلِّفاتِها “صرخة من الأعماق” و”غدّار يا زمن”، ولها مقالات وأبحاث علميّة منشورة منها “الخرائط الذّهنيّة في تعليم اللّغة العربيّة” و”جماليّة التّناص في شعر نزار قبّاني”.

 هنا حوار معها:

“الحصاد” للدكتورة جويل فضول أكثر من إنتاج كتابي، “صرخة من الأعماق” و “غدّار يا زمن”، فضلًا عن أبحاث علميّة منشورة. من عالم الكتابة إلى عالم الذكاء الاصطناعي وأكاديمية ED-Cloud ، ووسط كل هذه الأعمال التي تقدمينها، أين تجدين نفسك أكثر وماذا تقولين عن تجربتك الكتابية؟

“جويل فضّول” أميل دومًا إلى الكِتابة، على الرّغم من شغفي الكبير بالتّكنولوجيا والتّعليم والتّدريب. فالكِتابة تسري في عروقي، فهي تنقلني إلى عالمٍ غريبٍ، عالمٍ مليء بالمشاعر العميقة والأحاسيس الّتي لا تعرف التّصنّع، وهذا ما لا نَجده مع التّكنولوجيا، هكذا هي تجربتي الكتابيّة. الكتابة هي الرّوح، لا يستطيع الكاتب أو الشّاعر أن يدفن تلك الموهبة وما يشعر به، ولا أن يُسكِتَ صوت الإبداع والفنّ، مهما عصفت به رياح الظّروف. واليوم علينا أن نكتب أكثر من أيّ وقتٍ مضى، علينا أن نطلق العنان لأفكارنا وإبداعنا أمام هذه الثّورة التّكنولوجيّة الّتي تجتاحنا.

“الحصاد” نادِرًا ما نرى أساتذة لغة عربيّة وكتّابًا وأدباء على علاقة جيّدة مع التّكنولوجيا، كيف تمكّنت أن تجمعي ما بين هذين المجالين؟

“جويل فضّول” صحيح، إنّ العلاقة متوتّرة إلى حدّ ما، لكنّ الطّريقة الّتي أعمل عليها وخصوصًا خلال مُحاضراتي، هو كيفيّة الدّمج والمزج ما بين هذين المجالين، فتصبح التّكنولوجيا وسيلة دعم بالنّسبة إليّ، وأداة لتحفيز الطلّاب وجعلهم يتفاعلون معي. التّكنولوجيا هنا في خدمة اللّغة، وتعليم اللّغة. وهذا ما أدعو إليه أساتذة اللّغة العربيّة، أن يواكِبوا هذا العصر ومتطلّباته، وأن يوظّفوا تلك الوسائل التّكنولوجيّة في العمليّة التّعليميّة، لأنّها تُضيف إلى صفوفهم جوًّا من التّفاعل والتّحفيز.

“الحصاد” ينمي الذكاء الاصطناعي القدرة على التعلّم الذاتي من خلال العمل على تطبيقات جديدة وهي مساعدة للإنسان. كيف ستؤثر هذه التقنيات في المدارس والجامعات مستقبلًا؟

“جويل فضّول” هناك شريحة كبيرة من الأكاديميّين يخافون من استخدام التّطبيقات المدعومة بالذّكاء الاصطناعيّ، وهناك من يخشى على نفسه وعلى مهنته. صحيح أنّ هذه التّطبيقات قادرة على مُساعدة الطّلّاب والمتعلّمين على التّعلّم الذّاتيّ، وهي أيضًا قادرة على بناء مجتمع متطوّر، مجتمع يتمتّع أفراده بالتّفكير النّاقد والتّحليل والإبداع. برأيي، علينا الاستفادة من هذه التّطبيقات، فهي تسهّل كثيرًا العمل، ولكن في الوقت عينه علينا تدريب الأساتذة على كيفيّة استخدامها والأهم من ذلك كيفيّة توظيفها هذا من جهة، ومن جهة أخرى لِمَ لا ندرّب المتعلّمين والطّلّاب على كيفيّة استثمار هذه التّطبيقات، وتربيتهم على الشّفافيّة والموضوعيّة والعلميّة منذ سنواتهم الدّراسيّة.

“الحصاد” قد يكون من الصعب التمييز في مجال الفنون وخصوصًا الرسم، بين لوحة من إبداع إنسان وأخرى من صنع الذكاء الاصطناعي. وهذا ما يوّجهنا نحو سؤال أساسي: الفنون إلى أين اليوم وغدًا؟

“جويل فضّول” تذكّرت المُسابقة الّتي فاز فيها بوريس إلدغسن بصورة عن الذّاكرة الزّائفة، وذلك خلال جائزة سوني العالميّة للتّصوير، ولكنّه رفض استلام الجائزة بعدما صرّح أنّه أنشأ هذه الصّورة بوساطة الذّكاء الاصطناعيّ. بالطّبع إنّ تطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ تُشكِّل عائقًا أمام الكثير من الفنون، ولكن لا أرى أنّ ذلك سيؤثّر في الفنّ بالطّريقة الّتي نسمعها. الفنّ إحساس، الفنّ إبداع، ونحن هنا أمام تطبيقات يغذّيها الإنسان بنفسه، لتنتج له ما يريده. أظنّ أنّنا سنكون أمام نوع جديد من الفنون مع هذه التّطبيقات.

“الحصاد” كذلك إذا نظرنا إلى اللغة بوصفها وسيلة تواصل، ما هو مصيرها في عصر الذكاء المتقدم وهل سيحتاج الإنسان إلى التواصل مع الآخرين؟ ألا ترين العزلة الاجتماعية تلوح في الأفق حيث غياب الحاجة إلى اللغة؟

“جويل فضّول” العزلة الاجتماعيّة موجودة، شئنا أم أبينا. ولعلّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ أجّجت نيران هذه العزلة، وساهمت تطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ والألعاب الإلكترونيّة في جعل الأمر أكثر صعوبةً. ولكن تبقى اللّغة هي الأساس، فلولاها لما تمكّن أحد من التّواصل. لاحظي مثلًا، كيف يتمّ التّحدّث مع المواقع المدعومة بالذّكاء الاصطناعيّ، وخصوصًا تلك الّتي نطرح الأسئلة عليها ونتناقشها كـ ChatGpt وغيره، أو ليس ذلك نوعًا من التّواصل أيضًا؟ ولكن بتنا نتواصل اليوم مع آلات، آلات قام العلماء ببرمجتها وتغذيتها، ونحن نُساعدهم بذلك أيضًا.

  “الحصاد”   في سيمينار الجامعة اليسوعية تحدثت عن “الأدب الاصطناعي” أو “أدب الروبوتات” وهو نوع أدبي جديد يمكن اعتباره ربما، ما هي قدراته وإلام يفتقر؟

“جويل فضّول” نعم، يفرض الأدب الاصطناعيّ اليوم نفسه بشكل لافِت على السّاحة الأدبيّة. قد يجد بعضهم أنّ هذا الأمر خطِر، وأنّه يُهدّد مصير الأدباء والكتّاب، ولكنّ الأمر يستحقّ التّجربة. حقيقة، هذا ما حاولت القيام به بينما كنت أحضّر لمداخلتي في ذلك اليوم، ولقد لفتني الأمر كثيرًا. إنّ النّتيجة الّتي حصلت عليها، بينما كنت أوجّه هذا التّطبيق وأعطيه التّعليمات الّتي أريدها، كانت مميّزة. ولكن، ما لمسته حينها أنّه لو لم أمتلك هذه القدرة على الخيال، وإعطاء هذه الآلة عناصر مشوّقة لما استطاعت أن توصلني إلى هذه النّتيجة. لا يزال هذا الأدب يحتاج إلى الكاتِب، إلى الشّاعر، إلى المُبدع، إلى الفنّان. فهو لا يحتاج إلى إنسانٍ عاديّ، إنّما يحتاج إلى شخصٍ مُبدع، مُرهف الإحساس، يعيد النّظر بما توصّلت إليه هذه التّطبيقات، يُدخل إليها لمسته الخاصّة، لنكون فعلًا أمام عملٍ مميّز. وإن تُرك العمل كما هو، سيكون عملًا من دون أيّ قيمة.

“الحصاد” كونك ناقدة وأستاذة مُحاضرة في جامعة القدّيس يوسف USJ وجامعة القدّيس جاورجيوس في بيروت SGUB،  وتشتغلين في مجال التكنولوجيات الحديثة، كيف يمكن التمييز بين الروايات التي يكتبها أو يعرضها الذكاء الاصطناعي وبين روايات المبدعين الحقيقيين؟

“جويل فضّول” بكلّ بساطة، لا وجود للإبداع فيها إذا تُركَت كما هي، من دون تدخّل بشريّ على جميع المستويات. قد ترد فيها الأفكار بطريقة عشوائيّة، لا منطق فيها. والجدير ذكره، أنّ الوضع باللّغة العربيّة أشدّ صعوبة. فتطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ غير قادرة على التّعامل بشكل احترافيّ مع المحادثات الآلية الّتي تجرى، وهذا يعتبر لمصلحة الأدباء والكتّاب العرب. قد يكتب الذّكاء الاصطناعيّ روايات وأساطير وقصصًا وخواطر، لكن تبقى الكلمات اصطناعيّة لا روح فيها.

“الحصاد” كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي وتقدمه في الكتاب والناشرين؟

“جويل فضّول” سنشهد نوعًا جديدًا من الكتابات، وأعتقد أنّ هذه التّطبيقات ستفعّل حركة النّشر أكثر، خصوصًا أنّ التّطبيقات المدعومة بالذّكاء الاصطناعيّ باتت تُسهّل كثيرًا عمل النّاشرين، كما يُمكن استثمارها بطريقة محفّزة ترغّب القارئ بشراء الكتب، أكانت ورقيّة أم إلكترونيّة. جلّ ما في الأمر، هو أن نستفيد من هذه التّطبيقات بطريقة ذكيّة، بطريقة تسمح لنا أن نُبدع أكثر فأكثر.

“الحصاد” أسستِ أكاديمية لتدريب الأساتذة، كما أنّك تدرّبين الطلاب على استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في الجامعة اليسوعية. أخبرينا عن هذه الأكاديمية ورؤيتك المستقبلية لها.

“جويل فضّول” أكاديميّة Ed-Cloud قمتُ بتأسيسها بالشّراكة مع المُستشارة التّربويّة الأستاذة كوزيت غنيمه. تعنى هذه الأكاديميّة بتدريب الأساتذة على الإدارة الصّفّيّة بطريقة تفاعليّة وتحفيزيّة، فضلًا عن استخدام الوسائل التّكنو بيداغوجيّة الحديثة واستثمارها خلال حصصهم التّعليميّة. فنحن ندير دورات بأسعار مدروسة جدًّا نظرًا للوضع الّذي تمرّ به البِلاد، إيمانًا منّا بأهّمّيّة مُساعدة الأساتذة ومواكبتهم خلال مسيرتهم المهنّيّة. وأحيانًا أخرى نقوم بورشات تدريبيّة مجّانيّة، ولدينا أيضًا مفكّرة أسبوعيّة نعمل من خلالها على إرسال فيديوهات تعليميّة وأسماء لمواقع وملفّات يستفيد منها الأستاذة مجّانًا. كما تعلمين إنّ الظّروف الّتي نمرّ بها ليست سهلة أبدًا، لكنّنا نؤمن كثيرًا بهذه الأكاديميّة، ونعمل بجهد على تطويرها يومًا بعد يوم، ولا سيّما أنّ الأساتذة يحتاجون إلى هذا النّوع من التّدريب بهدف جعل حصصهم التّعليميّة أكثر تشويقًا وحثّ المتعلّمين على التّعلّم بطريقة مُحفّزة ومثمرة في الوقت نفسه.

 أمّا بالنّسبة إلى مواكبتي لطلّابي في جامعة القدّيس يوسف، وتحديدًا في معهد الآداب الشّرقيّة، فنحن نعمل جاهدين مع إدارة المعهد على تدريب الطّلّاب على كيفيّة استخدام هذه الوسائل الحديثة وتوظيفها بالطّريقة الّتي تتوافق مع ما يحتاجون إليه، خصوصًا أنّ طلّاب الآداب الإنسانيّة وتحديدًا اللّغة العربيّة يحتاجون إلى هذا الدّعم. وهنا أجمع ما بين مهاراتي اللّغويّة ومهاراتي التّكنولوجيّة لتحفيز الطلّاب، ومساعدتهم على استثمار تلك الوسائل التّكنولوجيّات والتّطبيقات الحديثة خلال مسيرتهم الجامعيّة وما بعد هذه المرحلة أيضًا.

“الحصاد” كونك ناقدة وأكاديمية وشاركت في لجان تحكيم أطاريح الدكتوراه في الجامعة اليسوعية. هل ما زال للأدب القوة والاهتمام والمستوى نفسه؟ وما الذي اختلف عن الماضي؟

“جويل فضّول” لن أكذب عليك، نعم الوضع أصبح مُختلفًا. نادِرًا ما يختار الطّلّاب أن يتخصّصوا باللّغة العربيّة وآدابها. جيل اليوم يميل أكثر إلى الاختصاصات العلميّة وإن قرّر أن يتخصّص بالعلوم الإنسانيّة، فغالبًا ما يبتعد عن اللّغة العربيّة، ولعلّ ذلك يعود أيضًا إلى عدم اهتمامه بهذه اللّغة منذ سنواته الدّراسيّة المدرسيّة، وهذا ما نحصده اليوم. قليلون هم الأساتذة الّذين يرغّبون المتعلّمين باللّغة العربيّة، ويحثّونهم على المُطالعة واكتشاف خبايا هذا الأدب وغرائبه، خصوصًا مع التّحدّيات الّتي نمرّ بها اليوم. لذا، فالمسؤوليّة الأساسيّة تقع على عاتق إدارات المدراس، والأساتذة، والأهل بهدف تقريب هذه اللّغة من ذهن المتعلّمين، على أن تواكب عصرهم من خلال المواضيع الّتي تُطرح للمعالجة، فضلًا عن الطّريقة الّتي تعلّم بها هذه المادّة. فالمسؤوليّة تقع على عاتِقنا جميعًا، للنّهوض بهذه اللّغة، قبل فوات الأوان.