الأديب والروائي جمال حسين علي: لا توجد لدى المثقف حقوق ثقافية على الإطلاق

في أروقة الفكر والثقافة، حيث تتعانق الأفكار وتتناقض، وتتداخل الآراء وتتصادم، تتجلى ظاهرة صراع المثقفين كظاهرة تستحق التأمل.

معنا في هذا اللقاء الكاتب الأديب البروفيسور جمال حسين علي، الذي طرح في كتابه “لماذا يكره المثقفون بعضهم” أعقبهما جزئين بعنوان: “بلطجة المثقفين” و “بارزا الثقافة الكبير” ، موضوعًا مثيرًا للجدل. يسَلِّط الضوء على ظاهرة معقدة تتجاوز مجرد الاختلاف في الرأي. يتناول في الأجزاء الثلاثة من كتابه، الديناميات المعقدة التي تحكم العلاقات بين المثقفين، كالعازف المبدع على أوتار الثقافة، حيث ينقلب على قضايا شائكة ويناقش الأسباب النفسية والاجتماعية وراء هذا الكره الذي قد يبدو غير مبرر. سنستعرض خلال الحوار أفكاره حول الأسباب التي تجعل المثقفين يتنافسون ويتصارعون بدلًا من التعاون، وكيف يمكن أن تؤثر هذه الانقسامات على المشهد الثقافي بشكل عام.

جمال حسين علي هو روائي وكاتب صحفي عراقي، وُلِد في مدينة البصرة. حصل على دكتوراه في الفيزياء والرياضيات من جامعة موسكو عام 1993. له ثمان روايات منشورة، وثلاث مجموعات قصصية، وكتب مؤلفة ومترجمة في الأدب والريبورتاج الصحفي والسياسة.

عمل في العديد من الصحف العالمية، ويعمل حاليًا في جريدة القبس الكويتية.

من أهم مؤلفاته الروائية: رواية “صيف في الجنوب” (1983)، بالإضافة إلى الروايتين “الفنارات” و”التوأم”، التي أعاد نشرها تحت عنوان “الذاكرة العراقية” (ثلاثية روائية) (2018. وبعد توقف نسبي لاستكمال دراسته العليا في الفيزياء والرياضيات، نشر رواية “أموات بغداد” (2008)، وهي الجزء الأول من ثلاثية بغداد التي أعقبها برواية “رسائل أمارجي” و “حبّة بغداد ، واستمر في نشر الروايات مثل “زمن الغزلان” و “مقاصب الحياة” ، ونشر نصوصا شعرية في كتبه: “ما التقطه الطير من العاصفة” و “لا تذم الشوك.. امتدح الوردة ” (2016)، و”فالق الآلام” (2017)،)، و”كتاب الناس والعالم” (2018)، و”سونار الرجل والمرأة” (2017)، “أسلحة الجمال الشامل” (2019).

كما عمل كمراسل حربي، ونشر في الأدب الوثائقي  كتابيه: ” قمحة النار.. نسار في ليالي الحروب” (2009) و “انكسار عباد الشمس” (2013).

وله ثلاث مجموعات من القصص القصيرة هي: “ظل متبخر”، و”الضريح الحي”، و”التويجات”.

نال جمال حسين علي جوائز في القصة والمسرح والصحافة، منها: جائزة صحفي العام في حقوق الإنسان من الأكاديمية العربية لحقوق الإنسان في المملكة المتحدة سنة 2014، وجائزة الصحافة العربية في دورتها الرابعة عن فئة التحقيقات الصحافية عام 2005. ومؤخرًا، أصدر كتابه “لماذا يكره المثقفون بعضهم” في ثلاثة أجزاء. سنناقش في هذا الحوار رؤيته حول الكتاب المثير للجدل.

الحصاد:  في مستهل الحديث، ما الثقافة الحقيقية والأصيلة؟

جمال حسين علي: المثقف كما أشاعوا، وصدّقهم بعض الناس: “من قرأ كثيرًا وتلقى تعليمًا جيدًا وسافر كثيرًا، ويعرف عدة لغات”. وفي ظنّ أخرين أنّ المثقف: “مَن ينشر الشعر أو يوقّع في كلّ معرض على رواية جديدة”.وهناك من يعتقد أن المثقف: “من يجلس على المنبر ويردد الأكاذيب والأعاجيب ويبيع الأوهام ويقبّل الناس أطراف عباءته وهي تسحب عفن عقله معها”. كما أحذّر -في هذه المناسبة- الطلبة من تصديق كذبة أن دكاترتهم مثقفون أو يعلمون الكثير. هؤلاء وغيرهم، قد يكونوا مثقفين، ولكن المثقف الأصيل قد لا يمتلك أيّا مما ذكرناه.

الثقافة لا تقتصر على المعرفة فحسب، بل بالقدرة على فهم الآخرين. إنّها تتجلّى في العديد من التفاصيل والأشياء الصغيرة، في صون كرامة الآخرين والنقاش المحترم والتصرّف بتواضع ومساعدة المحتاج بكتمان والاعتناء بالطبيعة والشفقة على الكائنات والمخلوقات. لقد رأيت المثقفين الحقيقيين في الأهوار والجبال والكثير من القرى، لقد حافظوا على نفوسهم النقيّة وكانوا مثقفين حقًا في طريقة سردهم للحكايات ومنحك فرصة التعبير عن نفسك والاستماع المهذّب إلى حديثك. الثقافة هي فهم وإدراك وتقدير وتهذيب وذوق ومواقف عادلة تجاه العالم وتجاه الناس.

الحصاد: عملت لسنوات طويلة في الصحافة الثقافية.. ما هو دور المحرر الثقافي في إرساء ثقافة حقيقية؟

  جمال حسين علي:  المحررون أنواع ، مثل الأدباء والفنانين .. هناك من ينفذ، وآخر يخطط، وثالث يخطط ويبتكر ويفكر استراتيجيا في تطوير الثقافة وينفذ ذلك بيديه. وبالطبع يحتاج إمكانيات مادية، فإما هو يعمل بمؤسسة إعلامية تعيل نفسها، وتستطيع دعم مشروعه الثقافي، أو يجد من محبي الثقافة، مَن يدعم مشروعه. واذا حالفه الحظ ونجح في كل ذلك ، تبدأ علاقته العملية مع ما يطلقون عليه الوسط الثقافي. الذي سيرى فيها كلّ الأعاجيب مجتمعة. وعليه تسليم نفسه للريح، ما دام اختار اجتياز العاصفة. وتدخل هنا الخبرة مع الدبلوماسية ومعرفة الأولويات في النشر، ومراعاة القواعد المهنية الأساسية ، واحترام القوانين ، ففي النهاية ، المحرر الثقافي أول كبش فداء في أول محرقة تحدث.

و سيبقى “المحرر الثّقافي” في الظلّ، ربما يذكر تاريخ الأدب عزرا باوند الذي حرّر قصيدة “الأرض اليباب” لـ “ت أس. إليوت”، والمحرر المجهول الذي انهمك أشهرًا طويلة في تحرير رواية “يولسيس” جيمس جويس وأجرى عليها أكثر من ألفَي تعديل، ونفسه صاموئيل بيكيت ارتضى مهمة التّلميذ لدى جيمس جويس، ومحرري كتّاب كبار مثل همنغواي وفيتزجيرالد وشتاينبك وفوكنر كانوا يمتلكون القدر الكافي من السّمعة الطيّبة وليس الشّهرة الذّائعة.

 الحصاد: ذكرت في كتابك “لماذا يكره المثقفون بعضهم”:”إنّ الخطر الأكبر الذي يهدد الثّقافة، ليس الإنترنت ولا التّلفزيون أو السّينما ولا أي تطور تكنولوجي، أكبر الأخطار هو «الثّقافة» نفسها حِينما تُقدَّم على نحو سيئ.”كيف تقدم لنا الثقافة على نحو سيئ، وما مستقبل الثقافة في زمن سادته الحروب والانتهاكات ، والتدمير الممنهج للطبيعة، وانحسار المساحات الخضراء،والمجاعة، وشح المياه، كيف يمكن التعامل مع تلك المآسي ثقافياً، وكيف السبيل إلى إنقاذ العالم ؟

جمال حسين علي:  لقد فقد المثقف الحقيقي سلطته، بعد أن انجرفت الغالبية نحو ثقافة الفاشينستات التي من الصعب أن نتحرّر منها في المدى القريب. لقد ألقوا بنا في المياه الآسنة وعلينا الآن أن نسبح.

في أغلب الأحيان، نحن لا نرى أولًا ثم نحدد؛ بل نحدد أولًا ثم نرى. وفي خضم الارتباك الكبير المزدهر للعالم الخارجي، نحن نميل إلى إدراك ما اخترناه بالشكل النمطي الذي رسمته لنا ثقافتنا.

كانط الثوري يقول: “ليس هناك ما هو أكثر إثارة للخوف من حقيقة أن تصرفات إنسان ما تخضع لإرادة إنسان آخر”.

 الحصاد: اعتبر يوجين يونسكو:” أن الفن عديم الفائدة لكن عدم نفعه قد يكون ضرورياً”. كما ذكرت في كتابك. إلى أي مدى يسهم الفن في الثقافة وتنمية الفكر التوعوي؟

 جمال حسين علي:  لقد علمنا الأدب، أن الأديب ليس وحده في العالم، ولكن هناك من يسعى بكل جهده، لا لكي يطوّر نفسه، ويرتقى بجهده الخاص، بل للنيل من الآخر، وعدم منحه الفرصة، وتهميشه والتقليل من شأنه. لكن أشباه المثقفين الذين امتلكوا كلّ الحظوظ للانفراد بالساحة الثقافية، لضعفها وخلوها من المنافسين الأقوياء، لم يقدموا أيّ شيء إلى أنفسهم والأدب، وانشغلوا في صراعات المنتديات والملتقيات والجمعيات والاتحادات والشلل، وانصهروا في عصابات ثقافية، مستعدة إلى سحق أيّ شخص يكون ضدها، بل لمجرد أن لا يكون معها. لم يتعبوا على أنفسهم بالقراءة والمتابعة والتعلّم وتطوير المهارات واكتشاف أدوات جديدة، بل بقوا حبيسي المقاهي والسوشل ميديا يبثون سمومهم على كلّ من لا يكون معهم، ويلغون وجود كلّ شخص يحاول أن يظهر إمكانياته بمجهوداته الفردية الخاصة.

الحصاد: تحدثت عن أدب المستقبل الأسود ، أو أدب الديستوبيا الذي أحدث خسائر فادحة تكبدها جيلنا المعاصر على كافة المستويات والذي صدر قطع نثرية وشعرية سوداوية إلى شباب المستقبل،ما أدب المستقبل الأسود،وكيف يمكن القضاء عليه؟

جمال حسين علي: كتب نيل بوستمان في عمله المهم “تسلية أنفسنا حتى الموت” أن ما كان يخشاه أورويل هو أولئك الذين يحظرون الكتب. بينما حذّر هكسلي من أنّه لن يكون هناك سببٌ لمنع كتاب، لأنه لن يكون هناك من يريد قراءته. كان أورويل يخشى أولئك الذين يحرموننا من المعلومات. بينما هكسلي يخشى “أولئك الذين سيعطوننا الكثير لدرجة أننا سنتحول إلى السلبية والأنانية”. كان أورويل يخشى أن تُخفى الحقيقة عنا. كان هكسلي يخشى أن تغرق الحقيقة في بحر من عدم الأهمية. كان أورويل يخشى أن نصبح ثقافة أسيرة. كان هكسلي يخشى أن نصبح ثقافة تافهة، منشغلة بما يعادل المشاعر.

الحصاد: ما المعوقات المخفية للأدب؟

جمال حسين علي:  أعتقد أن الخطورة ليس منع الثقافة أو تحجيمها، خطورة الثقافة حينما تكون مبتذلة. مشكلة الثقافة ليست بالطغاة، بل منها وفيها. وهنا لا أميل إلى إدانة الأجيال السابقة، لأن الندم على الجروح القديمة يشبه الندم على ولادتك في العالم أو ولادتك ف٩كي هذه العائلة. فهُم في كلّ الأحوال أجدادنا وآباؤنا، بعضهم تخاذل والآخر عمل ما يقدر عليه. لا يمكن فعل أي شيء حيال ذلك. فالماضي يتراجع والمستقبل يتقدم.. اليأس يتضاءل والأمل يتصاعد.

الحصاد: لماذا يتجنب النقاد والاكاديميون الكتابة عن المستقبل؟

جمال حسين علي: لأنهم لا يجيدون ذلك. الأمر يتطلب موهبة عظيمة وخيال خلاّق .. وهاتان الصفتان لا توجدان لديهما. هناك تقليد طويل لمثل هؤلاء المثقفين، وخاصة من الأوساط الأكاديمية وعالم الفنون، لكنهم أعضاء في سلالة تحتضر ولم يعد يُحتَفى بإرثهم باعتباره عنصرًا حاسما في الذاكرة العامة. سواء كنا نتحدث عن دبليو إي بي دوبوا، أو جين جاكوبس، أو إدوارد سعيد، أو جيمس بالدوين، أو موراي بوكشين، أو مارتن لوثر كينغ جونيور، أو مايكل هارينجتون، أو سي رايت ميلز، أو بول سويزي، أو إلين ويليس، فإن هؤلاء كانوا مثقفين جريئين كتبوا بقوة، العاطفة والوضوح ورفضوا دورهم كمجرد فنيين أو أتباع السلطة. لقد تبنوا الأفكار بشكل نقدي وأشركوها كعنصر أساسي في الفاعلية الفردية والعمل الاجتماعي.

الحصاد: لقد قلت :”الكتاب الفرديون هم زهرة الأدب الذين قاتلوا سرا ضد القمع وألهموا الناس بالأمل “، ما الكتاب الفرديون، ولماذا استمر الصراع إلى مالانهاية من أجل تكريس الحق في وجودهم المستقل؟

جمال حسين علي:  أرسطو تحدث عن العقول المثقفة، وأعتقد أن الأمر مرتبط بالكتلة الهائلة للروح ، إن كانت باسلة أم خاضعة، فالكثير من الأذكياء لا توجد لديهم فردية ويحشرون أنفسهم وسط الجمهرة وخائفون بالسرّ من الإفلات.

 الحصاد: برأيك هل الآداب والفنون يسهمان في فهمنا للحياة وقدرتنا على تعزيز تقدم المجتمع بشكل مباشر؟

جمال حسين علي: لم يعد مثقف سقراط النقدي فاعلًا في المجتمع (حتى الافتراضي منه في وسائل التواصل)، واختفى -تقريبًا- ذلك المثقف الذي لا يدّخر جهدًا لمواجهة السلطة وزعزعة استقرارها والتصدي لنظامها في حال اعتبره غير عادل. فأول من سيحاربه المثقفون الخاضعون، قبل السلطة، وأحيانًا أكثر بطشًا منها. وفيما يتعلق بدور المثقف في المجتمع الحديث، لا بد من تسليط الضوء على قيمة “الولاء” الذي يتمتع به، باعتباره ذاتًا اجتماعية وتاريخية. يجب عليه، في موقعه، أن ينتمي إلى مجتمع الأقلية التي تتعرّض للتهميش والاضطهاد بسبب اللون والعرق والعقيدة والدين وغيرها، باعتباره صوتًا شجاعًا لأقلية محرومة تاريخيًا من حقوقها، وعندها يمكننا أن نحدد التمثلات الخاصة لوعي المثقف. وبالتوازي مع ما سبق، سوف يُسلط الضوء على الالتزام الأساسي الذي يجب على المثقف الحفاظ عليه تجاه المبادئ ذات الطبيعة الكونية وليس العمل الفكري المدفوع بولاءات بدائية نتيجة تعصبّه وتحزّبه المحلي والغريزي وعرقه الخاص، والشعب الذي ينتمي إليه، أو الدين الذي يعتنقه أو على العكس من ذلك، سينحاز إلى المبادئ الأخلاقية الكونية التي تجعله حرًّا.

الحصاد: لقد قلت: “إن الفردية التي تؤدي إلى الإقصاء قيمة رئيسة في الثقافة”وهذا يحيلنا للحديث عن الفرد الذي تعرض إلى الإقصاء من المجتمع في تراثنا العربي ويكون ذلك مدخل لنقاش ثقافة الإقصاء ؟

جمال حسين علي:  ثقافة الإقصاء” مُهيمنة كفيروس إبادة بالمعنى الميكروبي، بنشر بيئة مريضة تسيطر عليها الغازات الخانقة التي تعتمد على الذي يوجّه أنابيب الغاز، ليجد المثقف أو السياسي أو الفنان أو أيّ شخص مُراد إسقاطه وإلغائه، وحيدًا بمواجهة دغمائية جديدة خفية لا أحد يعرف التحكّم بها أو مصدر انطلاقها وموعد خمولها.

الحصاد : كيف للفرد الحصول على حقوقه الثقافية وبناء حياة ثقافية تساهم في الاندماج والمشاركة، وهل لعبت المكتبات والمقاهي الثقافية دورًا في عملية الدمج الثقافي؟

جمال حسين علي:  لا توجد لدى المثقف حقوق ثقافية على الإطلاق. والمكتبات والمقاهي الثقافية هذه جهود فردية ومبادرات شخصية، لا أحد يعلم إلى أي مدى تستطيع أن تصمد في عالمنا المادي والاستهلاكي. لذلك تحاول بعض المكتبات التحوّل الى مقاهي، وبعض المقاهي التقرّب من المكتبات. ولكن روادها يبقون نادرين، ومن الصعب أن تصرف على نفسها وايجارها ومرتبات العاملين. واذا ما وجدت أحد الممولين من البنوك والشركات، فهؤلاء سيفسدون أي مشروع  ثقافي يضعون أموالهم فيه.

الحصاد: هل يوجد قانون يعزز الحقوق الثقافية للأفراد، وما واجب المؤسسات الثقافية في السياق الثقافي؟

جمال حسين علي: الإدماج الاجتماعي من خلال الثقافة هو حق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. حيث تنص المادة 27 على أن “لكل فرد الحق في المشاركة بحرية في الحياة الثقافية للمجتمع، والتمتع بالفنون والمشاركة في التقدم العلمي وفوائده”.  وهذا الأمر غير محترم عندنا ، مثل كلّ الأمور الجيدة الأخرى.

بالنسبة للمؤسسات الثقافية، ففي الغالب مهمتها إرضاء الحكومات ونهجها، وكيف يكسبوا ولاء المثقفين، الذين يذكرونهم حسب مناسباتهم. وآخر همهم خدمة الثقافة والمثقفين.