الأوراق اللبنانية التي لم تحترق

حين تودع لبنان كله، وطنك كله، تتراجع أهمية الوداعات الصغيرة: الاصدقاء، الاقارب والذين كنت تراهم في شارع بيتك ولا تكلمهم. قيل لك ان لبنان يموت محترقاً بحروبه وأحقاد بنيه وأطماعهم المغلفة بالكلام الكبير، وأياً كان السبب فهو في نظر اهله وطن يموت ثم يولد من جديد مستعيداً تكوينه من نثار الرماد المتطاير.

يتعزى اللبنانيون بالكلام ويرفضون الاعتراف بأنهم شعب يعاود بناء نفسه من الصفر، ولا يراكم تجارب ولا يرسي صرحاً على بناء سبقه. واللبناني لا يطور لغته بقدر ما يبتكر لغة جديدة تفرقه عن الآباء والاجداد، ويرفضها الابناء منصرفين الى لغتهم الخاصة بهم.

ولا ينتهي الكلام في هجاء وطنك، هذا الذي من كثرة حبك له تصل الى نكرانه بل احياناً الى لعنه لأنه اشياء عظيمة انتهت الى لا شيء، ولأنه رماد ما كان لا آثار ما كان. وفي رحلتي الأخيرة للبنان زرت بيت احد الاصدقاء الذين ودعوا دنيانا، معزياً اهله وعارفيه. وأثناء مغادرتي لحق بي أخو الفقيد الى مدخل البيت وسلمني اوراقاً تركها شقيقه وطلب ان أتسلمها يداً بيد. ولأن لا شيء مهماً أكثر من الانسان نفسه، لا ماله ولا أفكاره ولا عائلته، أدركت ان صاحبي الراحل لا يزال متأثراً بالكلمات/الوصايا وبأنها ستفعل فعلها حين يتسلمها صديق ويوزعها على من يهتمون بكلام الراحلين ويستهدون به.

ومن الكلمات التي تركها صديقي:

  • اللبناني ينسى شيئاً اسمه “كرامة وطنية” ويعتمد بدلاً من ذلك ما يسميه كرامة الدول الصديقة واتفاقاته معها، وقد تبين للجميع ان لا صداقه دائمة ولا عداوة دائمة، وان طلب الكرامة من الآخرين هو مجرد وهم.
  • الأشياء تتكرر في لبنان الذي صار مملاً، بالنضال الذي ينتهي قبض ريح وبالبناء الذي نستدعي من يهدمه …. مع تحياتنا.
  • اللبناني الفرد غير موجود. انه دائماً ممتزج بالزعيم أو بالطائفة أو بالمندوب الأجنبي في العاصمة بيروت.
  • مجموعة خائفين تشكل الشعب اللبناني اليوم. كل خائف هو أيضاً مخيف للخائف الآخر.
  • الذين يخافون والذين يستثمرون خوف هؤلاء.
  • في الهزيع الأخير من أيامي – هكذا كتب صديقي- تبدو الطائفية في أقوى صورها في لبنان، وأكثرها خطراً وبلاهة أيضاً. وحين يعجز اللبنانيون عن كبح شرورهم الطائفية يلجأون الى الكذب والأناشيد الوطنية ما فوق الواقعية.
  • وأخيراً تطور النظام الطائفي منتقلاً من حماية معتقدات الطوائف الى حماية مرتكبي جرائم الاحتيال ونهب المال العام والمال الخاص، باسم الانتماء الطائفي لهؤلاء.
  • 17 زمرة من الناس تتنافس ثم تتصارع وقد تتحارب في أحيان كثيرة للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة مما كان وطناً فحطمته الحروب الأهلية وضعف الانتماء.

17 زمرة أو طائفة تتكاذب ثم تتصارح، تبني على الكذب وتهدم عند الحقيقة.

  • مسكين ذلك اللبناني الذي صدّق انه ينتمي الى وطن لا الى طائفة تنافس غيرها على مساحة من ذلك الوطن.

لبنان الذي يدفع أهله الى القسمة لا الى الجمع.

  • عينا اللبناني لا تريان سوى لون واحد، وقيده الطائفي يستدعي دائماً من يكرهونه.

ما سبق بعض اوراق صديقي الراحل، وكان الأفضل لي وله ان نقرأها معاً قبل موته وأن نفرق بين الدائم من معانيها والعابر. فبقدر ما تبدو الادانة سهلة نعجز عن ايجاد البدائل الافضل، ونذهب الى وضع الأعذار للغالبية المنخرطة في مواكب التعصب والعدوانية والقتل.

وربما كنت اتفقت مع صديقي على تمجيد ما بقي من تنوع ووطنية جامعة في بيروت وطرابلس وصيدا، فأهل هذه المدن الثلاث لا يزالون يرعون مساحة التعدد والاختلاف ويحضنون ما تبقى من المشترك اللبناني.

ولنعترف ان التعددية والتنوع يتراجعان في عالمنا اليوم، وأن كثيرين من اللبنانيين حضنوا التنوع واعتبروه مفخرة لوطنهم، لكن صغر مساحة لبنان وضغوط الداخل العربي والمأساة الفلسطينية ساهما في تراجع تجربة الديمقراطية اللبنانية القائمة على الاعتراف بين الطوائف والتوفيق بين تنوعها ووحدة المجتمع اللبناني.

التعددية والتنوع يتراجعان في عالمنا مع تزايد موجات الاصوليات الدينية والعرقية. والامر المستغرب ان الولايات المتحدة الامريكية، التجربة الأكثر نجاحاً في تعايش الاقوام والجماعات على اساس الاعتراف المتبادل وتنمية الحكم المحلي كحافظ للحريات وللهويات الصغيرة، الولايات المتحدة هذه تتحالف مع نزعات معادية للتنوع تمثلها الطبقة الحاكمة اليوم في اسرائيل، تلك التي ترفض الآخر وتستعلي عليه وترى في سيطرتها على الآخرين بشراً وتراثاً حقاً مشروعاً لها بل هو حق الهي. اسرائيل هذه تعتبر موضوعياً أعدى اعداء اميركا من حيث التكوين والنظرة الى الذات والآخر، وها نحن نرى تحالف النقيضين ونعاني من عدوانيتهما ولا تستطيع واشنطن ان تقنع العرب الذين تربطها بهم وتربطهم بها اواصر ثقافية وانسانية وسياسية لا يدركها الّا من يرى العلاقات على حقيقتها بين الطرفين لا من يسمع نداءات نضالية متسرعة، فمتى تتحرر الولايات المتحدة من التحالف مع نقيضها ومن ادارة الظهر لشبيهها؟

ربما نلمح في نتائج مأساة غزة وحدود لبنان الجنوبية بعض الوعي للضحية وللجلاد أيضاً.