الإنسان والثورة الصناعية الرابعة

   في كتاب “العهد الآتي في ظل الثورة الصناعية الرابعة” (2024) الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية، عمان،  يتطرق الكاتب محمد سناجلة عبر سبعة فصول إلى مستقبل الإنسان من الحياة إلى الموت في ظل الذكاء الاصطناعي، فيتوسع في الكتابة عن مستقبل الموت والطب والوظائف والعمل والمرض ومستقبل الزراعة والغذاء والأنترنت، ليصل إلى قناعة أن الذكاء الاصطناعي هو المستقبل ويختم بحثه بفصل عن مستقبل الأدب والرواية في ظل الثورة الصناعية الرابعة.

الكاتب محمد سناجلة

    هذه الثورة الصناعية الرابعة التي يشهدها العالم اليوم ولدت من الثورة الصناعية الثالثة فيها الرقمنة والأنترنت وكل التكنولوجيات الحديثة ولها الفضل في ما وصلنا إليه في عصرنا هذا، والذي لا يمكن العودة عنه فهذه الثورة هي مستقبل الوجود الإنساني.

 ويعتبر محمد سناجله أننا اليوم أمام تقنيات تساعد على فهم الحدود بين العوالم المادية الواقعية والرقمية والبيولوجية والذكاء الاصطناعي والعالم الافتراضي والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد والطيارات من دون طيار… هكذا تتم عملية دمج العالمين الافتراضي والحقيقي.

ولادة الإنسان الجديد

    إنها ولادة إنسان جديد ويطلق عليه الكاتب تسمية “الإنسان المنغمس” الذي سيصل إلى مرحلة يستطيع فيها استخدام حواسه في العالم الافتراضي من دمج للخلايا البشرية والأجهزة باستخدام برامج وتقنيات “النانو تكنولوجي”.

ويتساءل الكاتب حول مستقبل الإنسان ووجوده في هذا العالم الواسع ويقارن بين الماضي واليوم مفكّرًا بما يحدث وبما في ذلك، المرض والموت وما لم يكن ممكنًا علاجه أيضًا. فهذه الثورة جاءت لإنقاذ الإنسان بوساطة التطور.

مستقبل الثورة الرقمية وفكرة الخلود

    وبعد هذه المقدمة يكتب الناقد والأكاديمي المغربي سعيد يقطين عن سناجلة الذي بدأ منذ عقدين العمل على هذا الموضوع بكتابة مجموعة من المقالات. ويرى يقطين أن سناجلة يحمل رؤيا استشرافية منذ الثمانينات مع الثورة التكنولوجية الجديدة للمعلومات والتواصل، وهذه السرعة كان من الصعب مواكبتها. كذلك رأى الناقد في هذه الدراسة معلومات جديدة وقناعات تفتح آفاق المستقبل فخصوصية هذا الكتاب هو تقديم مستقبل الثورة الرقمية وما هو قيد التطوير والإنجاز، ما يسمح للباحث بطرح أسئلة متعلقة بهذا الموضوع.

    إننا أمام فكرة مصير مستقبل الإنسان في الحياة والموت وعلاقته بالواقع والممكن وبقضايا أخرى.

    أثارت قضايا الخلود الكثير من الفلاسفة والعلماء وظل هذا السؤال عصيًّا على الإنسان إلى أن وصلت المعارف الجديدة لتعطي هذا الموضوع بعدًا جديدًا، ويفكر الدكتور سعيد يقطين بالطفل الذي سيبلغ ال 20 وسيبحث عن إنسانيته، الطفل الذي سيعيش زمنًا مختلفًا عن زماننا في الحياة والموت والأمراض والبيئة والأخلاق، ليأتي السؤال هنا: كيف يمكننا الحديث عن مواجهة الموت والحلم بالخلود في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد المنتحرين وطلاب الموت الرحيم والمهاجرين السريين وهم يغامرون بحياتهم في البحر بسبب تراكم المشاكل التي يحياها الإنسان المعاصر، والتكالب على ممارسة السلطة والهيمنة؟ كيف يمكننا الحديث عن الطب والغذاء والسلم ونحن نرى العالم يتجه نحو المزيد من التقاطب الذي سيؤدي إلى المزيد من التسلح والحروب الفتاكة؟ وهو بهذه الأسئلة لا يطرح موقفًا سلبيًّا إنما ينظر إلى أبعاد هذه الثورة الرقمية.

ويتساءل الكاتب مجدّدًا عن تقبل فكرة الموت على أنه قدر لا مفر منه أو أنه تقنية يمكن حلها أو مرض يمكن علاجه وهل الموتى أناس قضوا للأبد أو أشخاص بحاجة إلى إنقاذ؟

ويتابع الكاتب تحليلاته حول كل المحاولات التي تمت في سبيل الخلود وقد باءت بالفشل منذ أسطورة جلجامش، فالإنسان لم يستطع  تجنب الموت وتحقيق  الخلود الذي يعدّ قدرة الجسد على التغلب على أي مرض محتمل إنها رغبة البقاء التي تعتمر كل إنسان. علميًا منذ اليوم  وحتى العام 2050 قد يتمتع الإنسان بما يزيد عن 120 عامًا وذلك من خلال السيطرة على الأمراض والشيخوخة. لأن الشيخوخة تتسارع بسبب التدهور الجسدي وانخفاض قدرات الحواس ما يعيق الإنسان. ويقارن سناجلة بين الإنسان والكائنات والحيوانات التي لا تظهر عليها علامات الشيخوخة وهي قليلة منها قنديل البحر والإسفنج الزجاجي والمرجان الأسود مثلًا، فهي تعيش لفترات طويلة.

   ويطرح الدكتور “أوبري دي جراي” استخدام النهج القائم على الضرر الذي تسببه الشيخوخة وهناك استراتيجيات كثيرة لمكافحتها منها العلاجات المطورة وإعادة البرمجة الخلوية للتغلب على الأمراض وتجديد الخلايا، كذلك هناك أفكار عدة علماء وتجارب كثيرة حول إعاده برمجة الخلايا لباحثين في هذا العالم.

وهناك عقاقير جديدة لمواجهة الشيخوخة والموت وذلك من خلال فهم بيولوجيا الإنسان لمكافحة المرحلة الأخيرة من العمر.

 تحميل العقل  بشكل رقمي

ومن إحدى الطرق إطالة عمر الإنسان بتجديد خلايا الجسم أو استبدال أعضاء حيوية بانشاء أعضاء بشرية. ويعتبر الدكتور بيرسون أن هناك إمكانيه ربط العقل بالعالم والعيش في “السحابة” في عالم الآلة وسيكون الانسان قادرًا على استخدام جهاز روبوت عن طريق تحميل الوعي بشكل رقمي، ومن الممكن أيضًا تحميل بيانات العقل ليصبح لدينا نسخة عن عقل الإنسان.  كذلك تعمل شركة نيورا لينك التي أسسها إيلون ماسك، على تحميل العقل البشري ريثما تتطور التقنيات لتعود أجسادهم إلى الحياه فيحافظون عليها بشكل موقت.

ويتابع محمد سناجلة بحثه حول صحة الإنسان والأمراض التي ستنتهي بحيث ستولد أمراض أخرى فالصحة ستتأثر بالتطورات الهائلة وسنكون أمام البيانات الضخمة والقياسات الحيوية وأنترنت الأشياء والتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي وتطور طرق التحليل، وأمام تغير المناخ والمخاطر البيئية والنانو تكنولوجي والروبوتات النانوية والهندسة الوراثية والطباعة الحيوية…

ويعتبر الكاتب أنّ الأمراض النفسية والعقلية ستكون مشكلة الزمن المقبل، إذ أن أمراضًا جديدة ستظهر وسيسيطر القلق الصحي على جميع أنحاء العالم، وسيكون هناك تطور كبير على صعيد الصحة من خلال زرع الإلكترونيات داخل جسد الإنسان.

مستقبل الأدب والرواية

ويتحدث الناقد محمد سناجلة في الفصل الأخير عن مستقبل الأدب والرواية في ظل الثورة الصناعية الرابعة وعن ولادة “الإنسان المنغمس” وهي ولادة إنسان جديد ما زال في طور التشكل، إنه الإنسان المختلف عن الإنسان الافتراضي، ما يميزه هو استخدامه الحواس الخمس كافة ويتحدث عن “الميتافيرس” الذي يتيح للإنسان من خلال “الأفاتار” أن يعيش في بيئه “الميتافيرس” ويكون قادرًا على استخدام حواس، وبذلك يكون قد عاش في العوالم الرقميه بشكل كليّ.

ويطرح الكاتب مجموعة تساؤلات حول مستقبل الأدب في ظل هذه التطورات والأنظمه الفيزيائية السيبيرانية منها إشكالية التحديات التي يعيشها الكتّاب والأدباء إذ سيتم تغيير المصطلحات أو الانتباه إلى استخدامها،  فيفترض اختراع مصطلحات استجدت على هذه التحولات، إذ أنها ستتغير مع الإنسان المنغمس الجديد الذي قد لا تكون له القدرة على استيعاب الأدوات القديمة. فالإنسان الجديد يحتاج إلى طرق تعبير جديدة على قياس عصره ومجتمعه وهزائمه وأمراضه… هناك حقًّا تهديد للأدب لصالح أشكال تعبيرية جديدة ونلاحظ هنا الألعاب الإلكترونية المستحدثة والتي تتضمن روايات وقصص كاملة منها قصص أبطال ومجتمعات رقمية حيث اندماج الواقعين الافتراضي والحقيقي ما يؤدي إلى ولادة واقع جديد وصور جديدة لعالم الأدب.

وينتقل الكاتب في حديثه عن سهولة أدوات الذكاء الاصطناعي واستخدامها ما يولّد جنس جديد يسمى “الأدب الروبوتي” فشركة أمازون قدمت الكثير من هذه الأعمال بمساعدة برنامج “شات جي بي تي”

بالإضافة إلى أنه سيتمكن كل شخص من دمج النص مع الصور التوضيحية والنشر على المنصات وعرض الإبداعات عبر الإنترنت.

أما عن معنى الإبداع فيحدده الكاتب على أنه أفكار جديدة وقيمة وهو الابتكار والإتيان بكل مختلف، ويعطي أمثلة على ذلك متحدثًا أيضًا عن الخوارزميات والأصالة والقدرة على ابتكار أفكار وصور فريدة متسائلًا حول قدرة الكتاب من الاستفادة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي التعاوني في عمليات الكتابة، هذا بالإضافة إلى تصحيح الأخطاء اللغوية ومساعدة المبدعين على كتابة الحبكة وتصوير شخصياتهم.

العصر الجديد بالنسبة إلى الكتّاب هو العصر الرقمي في المجتمع الرقمي الذي يضم كل تناقضات الإنسان وآماله وأحلامه منذ أن بدأ مع أخيه الإنسان بكل ما في هذا المجتمع من سياسة وحرب وحب وكره وثقافة وأدب.

ويتابع الكاتب متسائلًا: فأي أدب سيكون قادرًا على التعبير عن الإنسان الافتراضي المنغمس الذي يعيش في المجتمع الرقمي والذي أنتجته الثورة الصناعية الرابعة؟ ومن خلال هذا السؤال يتفرع إلى عدة أسئلة تتناسل من بعضها البعض حول حاجة الإنسان إلى الأدب أو عن ماهية الأدب الذي يحتاج إليه الإنسان المنغمس اليوم.

ويكتب محمد سناجلة عن أنواع الرواية الرقمية الكلاسيكية من الرواية الترابطية إلى الرواية التفاعلية إلى الرواية الواقعية الرقمية ليتجه نحو نظرية أدبية ويستخلص أن الواقعية الرقمية أدب المستقبل حيث اجتراح لغة جديدة قد تكون مبنية على الصوت والصورة والحركة… فالكتابة وأساليبها بحاجة إلى من يستوعب هذا التغيير الاختلاف.

 يختم الكاتب بالدعوة إلى عالم إبداعي جديد وإلى تقبّل الفنون التقنية المختلفة لإنتاج إبداع جديد يتماشى مع العصر الرقمي والثورة الصناعية الرابعة والإنسان المنغمس.