بكين تحقق نمواً غير متوقع فيما واشنطن لا تزال ترزح تحت وطأة التضخم
*إدارة جو بايدن تدرس برنامجاً لتقييد استثمارات خارجية أميركية
* نجحت الصين في دفع العديد من الدول على استعمال اليوان بدلاً من الدولار
يوماً بعد آخر، تشتد وطأة المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما ينعكس سلباً على الاقتصاد العالمي.
هذا المشهد الذي يعززه توتر متنامٍ بين البلدين بسبب تايوان ومسألة منطاد التجسس الصيني، بات الشغل الشاغل لمن يرصد التطورات الكبيرة، وأصبح محوراً رئيسياً في نقاشات المتخصصين في الشأن الاقتصادي والمؤسسات الدولية القلقة من تبعات هذا النزاع على العالم أجمع؛ كمثل صندوق النقد الدولي الذي أطلق أخيراً تحذيراً عالي النبرة قال فيه إن التشرذم الجيوسياسي الناجم عن المواجهة بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن يؤدي إلى “تفتيت العالم” وزيادة الفقر فيه. بمعنى أن انقسام العالم إلى كتلتين ترتكزان على الولايات المتحدة والصين قد يتسبَّب في قيام الشركات بنقل الإنتاج إلى الولايات القضائية للدول الأكثر صداقة من أجل تجنّب مشكلات سلاسل التوريد وسط التناقضات

الجيوسياسية. ومثل هذا التطور للأحداث يؤدّي إلى انخفاض في الإنتاج العالمي بنسبة 1 في المئة في السنوات الخمس المقلة وبنسبة 2 في المئة على المدى الطويل وفق الأرقام التي نشرها صندوق النقد الدولي.
كما أن صعوبات العلاقات التي تمر بها أكبر الولايات المتحدة والصين يمكن أن تؤثر في الأنظمة المصرفية. فلسلاس التوريد التي ستضطرب بسبب هذا التوتر يتسبب بتأجيج التضخم لتصبح عندها المصارف مجبرةً على تحمل المخاطر وتقليص عمليات إقراضها، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم تباطؤ النمو الاقتصادي.
في ظل هذا التوتر، جاء غصن الزيتون الذي رمته وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين باتجاه بكين ليعطي أملاً في إعادة تصويب هذه العلاقات، خصوصاً وأن يلين لا تنفك عن إبداء رغبتها في زيارة الصين. فيلين تؤكد في أكثر من مناسبة أن الولايات المتحدة ترغب في “علاقة اقتصادية بناءة وعادلة” مع الصين، وأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لا تنوي الانفصال عن الصين، لأن هذا سيكون “كارثياً لكلا الاقتصادين”، مع تمسك واشنطن بموقفها في الدفاع عن أمنها القومي والذي يشكل أولوية دائماً بالنسبة إليها.
كما أن يلين تسعى إلى تهدئة المخاوف من الاجراءات الجديدة التي تدرسها واشنطن، مؤكدة أن دوافع بلادها هي “فقط مخاوفنا على الأمن والقيم”.
من جهتها، إدارة جو بايدن تدرس برنامجاً لتقييد استثمارات خارجية أميركية، بما يشمل بعض التقنيات الحسّاسة التي قد تكون لها آثار على الأمن القومي. وكانت فرضت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قيوداً شاملة جديدة بهدف الحد من وصول الصين إلى التكنولوجيا الضرورية لقوتها العسكرية المتنامية.
إلا أنّ بكين ترى في الإجراءات الأميركية محاولة لعرقلة مسار تقدم ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة (وهي أيضاً أكبر مُصدّرٍ للعديد من المنتجات الرئيسية، مثل الأجهزة الإلكترونية والملابس والأدوات الكهربائية والأجهزة الطبية والسيارات).
ولكن لماذا وصلت هذه العلاقات الى الدرك الذي هي عليه اليوم؟
في العام 1979، أعادت الولايات المتحدة والصين علاقاتهما الدبلوماسية ووقّعتا اتفاقية تجارة ثنائية.
وقد أسست الزيارة التاريخية التي قام بها في عام 1972 الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة، ريتشارد نيكسون، لجمهورية الصين الشعبية، الأرضية لانهاء حال الخلاف وإعادة العلاقات الدبلوماسية.
هذا التطور أعطى بداية لنمو سريع للتجارة بين البلدين. فمن 4 مليارات دولار (الصادرات والواردات) في ذلك العام إلى أكثر من 600 مليار دولار في عام 2017، وفق الموقع الرسمي لمكتبة الكونغرس.
لكن البلدين انخرطا في حرب تجارية منذ العام 2018 عندما فرض الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب تعريفات جمركية على سلع صينية تبلغ قيمتها حوالي 300 مليار دولار. ردت بكين على هذا الإجراء بفرض تعريفات جمركية على حوالي 100 مليار دولار من السلع، مع التركيز بشكل أساسي على المنتجات الزراعية والمأكولات البحرية.
ومنذ توليه منصبه في عام 2021، أبقى الرئيس جو بايدن التعريفات سارية، رغم أن كلاً من الصين والولايات المتحدة قد وسعتا أخيراً استثناءات الرسوم الجمركية التي كان من المقرر أن تنتهي في أواخر العام الماضي.
وكانت الولايات المتحدة والصين، وفي محاولة منهما لاستعادة العلاقات التجارية، وقّعتا في العام 2020، المرحلة الأولى من اتفاق تجاري من مرحلتين، تعهد فيه كلا البلدين بزيادة الواردات من بعضهما البعض. وبموجب الاتفاق، تعهدت الصين بزيادة وارداتها من السلع الأميركية بما لا يقل عن 200 مليار دولار على مدى عامين (حتى عام 2021)، بما في ذلك السلع التصنيعية والزراعية والطاقة.
ومع ذلك، بحلول نهاية عام 2021، لم يتم الوفاء بمعظم الالتزامات التجارية. فعلى سبيل المثال، كان استيراد المنتجات الزراعية الأميركية إلى الصين أقل من 80 مليار دولار التي تم الاتفاق عليها في الصفقة.
وسط تدهور العلاقات بين البلدين، تعثرت المفاوضات بشأن المرحلة الثانية من الاتفاق التجاري. ويشك البعض في ما إذا كانت هناك إرادة كافية في واشنطن أو بكين للمضي قدماً في الصفقة.
التبادل التجاري
ولكن حتى مع تصاعد التوتر بينهما، إلا ان التجارة بين الولايات المتحدة والصين سجلت رقماً قياسياً في عام 2022، إذ ارتفعت تجارة السلع الثنائية بينهما إلى 690.6 مليار دولار في 2022.
وتحتل الصين اليوم المركز الثالث بعد كندا والمكسيك كأكبر شريك تجاري للولايات المتحدة بعدما كانت في وقت من الأوقات، في المرتبة الأولى. ومع ذلك، فهي لا تزال المصدّر الأكبر للواردات الأميركية.
وأظهرت البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الأميركي أن أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات كانت أكبر سلعة مستوردة للولايات المتحدة في عام 2022، حيث وصلت قيمة الواردات الجمركية إلى 161 مليار دولار ، بانخفاض طفيف بنسبة 0.4 في المئة على أساس سنوي.
علاوة على ذلك، تعد الصين ثاني أكبر مالك لسندات الخزانة الأميركية بعد اليابان.
بين اليوان والدولار
وبدأت الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة تستعر، مع نجاح الصين في دفع العديد من الدول على استعمال اليوان كعملة تبادل تجاري بدلاً من الدولار، كان أحدثها الأرجنتين بعد البرازيل.
ولطالما روجت الصين لاستخدام اليوان لتسوية الصفقات عبر الحدود كجزء من جهود لتدويل استخدام عملتها.
ووفق حسابات “رويترز “بناءً على بيانات من إدارة الصين للنقد الأجنبي، أصبح اليوان العملة الأكثر استخداماً في المعاملات عبر الحدود في الصين في مارس (آذار)، متجاوزًا الدولار لأول مرة، مما يعكس جهود بكين لتدويل استخدام اليوان.
وارتفعت المدفوعات والمقبوضات عبر الحدود باليوان إلى مستوى قياسي بلغ 549.9 مليار دولار في مارس (آذار) من 434.5 مليار دولار في الشهر السابق.
لكن المحللين يعتبرون أن طريق استمرار هيمنة الدولار لا يزال طويلاً، وأن حصة اليوان في المدفوعات العالمية قد تظل صغيرة.
وفقاً للاقتصادي المعروف بيتر إيرل من المرجح أن تظل العملة الأميركية عملة عالمية. وقال “أولاً، باستثناء حدث غير عادي أو سلسلة من التطورات، فإن السيناريو الذي لم يعد يستخدم فيه الدولار (على الإطلاق) في التجارة الدولية أمر مستبعد للغاية”. وأشار إلى الحجم الهائل للاقتصاد الأميركي واتساع العلاقات التجارية، معتبراً أن هناك حواجز كبيرة للخروج بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف تبديل العملات. “مثل هذا التحول سيستغرق عقودًا ، إن لم يكن أجيالًا”، قال.
بين كفي النمو والركود!
على المقلب الآخر، فإن الصين هذا العام قد تقود النمو الاقتصادي العالمي مع التعافي السريع لاقتصادها بعد رفع الإغلاق بسبب كورونا. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تستحوذ الصين والهند على حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2023.
في الأرقام الأخيرة المعلنة، نما الاقتصاد الصيني بوتيرة أسرع من المتوقع في الربع الأول، متوسعاً بنسبة 4.5 في المئة على أساس سنوي.
وفي المقابل، يشهد الاقتصاد الأميركي المزيد من التباطؤ مع استمرار زيادات أسعار الفائدة التي يجريها الاحتياطي الفدرالي من أجل مكافحة التضخم، وانتقال آثارها إلى الاقتصاد.
وبحسب آخر الأرقام، تباطأ النمو الاقتصادي الأميركي بقدر أكبر من المتوقع في الربع الأول ليسجل 1.1 في المئة.
فهل ستنقلب معادلة أقوى الأقوياء في العالم وتنخفض الولايات المتحدة إلى المرتبة الثانية فتكون الصين أول اقتصاد في العالم؟ قد تكون هذه الصورة صعبة التحقق، لكنها ليست مستحيلة!