التوترات الجيوسياسية وتباطؤ الصين وحربها التجارية مع الولايات المتحدة من عوامل الضغط
* من المتوقع استمرار النمو الاقتصادي العالمي في العام المقبل عند 3.2 في المائة لكنه دون المأمول
* برغم الأخبار الجيدة عن التضخم، لكن تضخم أسعار الخدمات لا يزال مرتفعاً للغاية
* من المتوقع أن ينخفض الاقتصاد الصيني إلى 4.3 في المائة العام المقبل من 4.8 في المائة في 2024
يقترب العالم من عام جديد يحمل العديد من المخاطر في ظل تنامي الصراعات الجيوسياسية والتي تنعكس بشكل كبير على أداء الاقتصادات بمجملها.
صحيح أن العالم قد أعلن في نهايات العام 2024 انتصاره على التضخم بشكل كبير، ونجح في هندسة هبوط اقتصادي ناعم وتجنب الركود، لكنه يواجه مخاطر جيوسياسية متزايدة وآفاق نمو أضعف على المدى الطويل.
العامل الإيجابي في العام 2024 كان أن التضخم الكلي قد تراجع من مستوياته القياسية التي بلغها في العام 2022 عند 9.4 في المائة، وسط توقعات بأن يأفل العام الحالي على تضخم بنسبة 3.5 في المائة، في وقت بات التضخم قريباً من مستهدفات المصارف المركزية، وهو ما يمهد الطريق للتيسير النقدي عبر المصارف المركزية الكبرى.
ويرى صندوق النقد الدولي أن معدل التضخم في نهاية العام 2025 سيكون أقل قليلاً من متوسط الارتفاع السنوي للأسعار في العقدين اللذين سبقا جائحة كوفيد-19.
وفي المقابل، من المتوقع استمرار النمو الاقتصادي العالمي بصورة مطردة في العام المقبل عند 3.2 في المائة لكنه دون المأمول، رغم أن هذه التوقعات قد تختلف في بعض الاقتصادات منخفضة الدخل والنامية ارتباطاً باحتدام الصراعات. مع العلم أن الاقتصاد الأميركي سيستمر في توفير معظم الزخم للنمو العالمي بقيادة الإنفاق الاستهلاكي القوي الذي صمد خلال نوبة تضخم مؤلمة وأسعار الفائدة المرتفعة المستخدمة لترويضه.
وفي أحدث توقعاته للاقتصاد العالمي، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي لعامي 2024 و2025 للولايات المتحدة – الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي شهد ارتفاع توقعاته للعامين – وقال كبير اقتصادييه إن “الهبوط الناعم” الذي سعى إليه بنك الاحتياطي الفيدرالي والذي يخفف فيه التضخم دون إلحاق ضرر كبير بسوق العمل قد تحقق إلى حد كبير.
المخاطر إلى تزايد
لكن، لا شك أن المخاطر تتزايد على الاقتصاد العالمي بسبب الصراعات المسلحة والحروب التجارية الجديدة المحتملة والآثار المترتبة على السياسة النقدية المتشددة التي يستخدمها الاحتياطي الفيدرالي والمصارف المركزية الأخرى لكبح جماح التضخم.
فبرغم الأخبار الجيدة عن التضخم، لكن تضخم أسعار الخدمات لا يزال مرتفعاً للغاية، ويبلغ تقريباً ضعف المستويات
التي كان عليها قبل الجائحة. ويواجه عدد قليل من اقتصادات الأسواق الصاعدة ارتفاعاً في الضغوط التضخمية مرة أخرى، كما بدأت مجدداً في رفع أسعار الفائدة الأساسية.
كما أن مخاطر التطورات السلبية آخذة في التزايد وأصبحت الآن مهيمنة على الآفاق. ويمكن لتصاعد الصراعات الإقليمية، ولا سيما في الشرق الأوسط، أن يفرض مخاطر كبيرة على سلاسل الإمداد وأسواق السلع الأولية وعلى الأسعار، بحيث يفرض هذا الواقع أن تبقى السياسة النقدية مفرطة التشديد لفترة طويلة للغاية.
الدين العام
والى العوامل السابقة، تبرز مخاطر صعودية تهدد وضع الدين العام في جميع أنحاء العالم، حيث يُتوقع تجاوز الدين العام العالمي 100 تريليون دولار (93 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) بحلول نهاية عام 2024، وسيقترب من 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2030.
وهذه زيادة بمقدار 10 نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي أعلى مما كانت عليه في عام 2019، أي قبل جائحة كوفيد-19.
ويتضح من خلال تقرير الراصد المالي الذي يصدره صندوق النقد الدولي أن مستويات الدين في المستقبل قد تكون أعلى من المتوقع، وأن زيادة احتمالات تحقيق استقرار الدين أو خفضه تتطلب عمليات تصحيح مالي أكبر بكثير من المتوقع حالياً.
ويعني هذا الرقم أن تأخير الدول في إجراء عملية تصحيح مالي سيكون مكلفاً كثيراً بالنسبة لها وهو أمر محفوفو بالمخاطر، لأن حجم التصحيح المطلوب يزيد بمرور الوقت.
تباطؤ الصين
وفي حين يُتوقع أن تظل آفاق النمو العالمي ضعيفة لخمس سنوات من الآن، حيث انها قد لا تتجاوز 3.1 في المائة – وهي أدنى نسبة منذ عقود- فان سبباً أساسياً في ذلك هو آفاق النمو الأضعف للصين.
ويتوقع البنك الدولي أن يضعف نمو الصين بشكل أكبر في عام 2025 حتى مع التعزيز المؤقت الناجم عن تدابير التحفيز الأخيرة، وهو ما يفرض ضغوطاً إضافية على الاقتصادات الإقليمية. فمن المتوقع أن ينخفض الاقتصاد الصيني إلى 4.3 في المائة العام المقبل من 4.8 في المائة في عام 2024.
وعلى رغم أن الدعم المالي الذي أعلنت عنه الصين قد يدعم النمو قصير الأجل، لكن النمو على المدى الأطول سيعتمد على إصلاحات هيكلية أعمق.
وكانت بكين أطلقت في أواخر سبتمبر (أيلول) موجة من التحفيز تركز بشكل أساسي على السياسة النقدية، مع تدابير مثل خفض أسعار الفائدة.
كانت السلطات الصينية قد حددت هدفا للنمو يبلغ حوالي 5 في المائة لعام 2023، ولكن هذا أصبح أقل احتمالاً بسبب ضعف الإنفاق الاستهلاكي وسوق العقارات المتعثر. وقد لا يبدأ قطاع العقارات في التحسن حتى النصف الثاني من العام المقبل ــ حتى مع أحدث تدابير التحفيز، رغم تعهد الرئيس الصيني شي جينبينغ بـ”وقف انحدار سوق العقارات”.
وقال محللون في “غولدمان ساكس” في مذكرة بعنوان “توقعات سوق العقارات في الصين في عام 2025: القاع في الأفق”: “لقد وصلنا أخيراً إلى نقطة تحول في الدوامة الهبوطية المستمرة في سوق الإسكان على خلفية حزمة تخفيف شاملة ومنسقة”. أضافوا: “هذه المرة مختلفة عن تدابير التخفيف الجزئية السابقة”.
ويتوقع المحللون أن تستقر أسعار العقارات في الصين في أواخر عام 2025، وأن ترتفع بمعدل 2 في المائة بعد عامين. ومن غير المرجح أن تستقر مبيعات العقارات وبناء المساكن الجديدة حتى عام 2027، وفقا لتوقعات “غولدمان.
في حين نشرت شركتا “ستاندرد آند بورز غلوبال” للتصنيف الائتماني و”مورغان ستانلي” تقارير تتوقع أن يصل سوق العقارات في الصين إلى أدنى مستوياته في النصف الثاني من عام 2025. وفي مذكرة “ستاندرد آند بورز غلوبال”، “إذا استمرت الحكومة في إعطاء الأولوية لدعم تمويل المطورين وتخفيض المخزون، فإننا نعتقد أن مبيعات العقارات والأسعار قد تستقر بحلول النصف الثاني من عام 2025”. وحذرت من أن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى تدخل السياسات حيز التنفيذ.
في حين حذر محللو “غولدمان” من أنه “بدون مثل هذا التحفيز، قد يطول تباطؤ سوق العقارات لمدة ثلاث سنوات أخرى”. وقالوا إن مثل هذا الدعم سيحتاج إلى معالجة مشاكل السيولة لدى المطورين، وتقليص مخزونات المساكن غير المباعة وضمان تسليم المساكن المباعة مسبقاً ولكن غير المكتملة.
لقد أوضحت بكين أن الجهود المبذولة لدعم قطاع العقارات المتعثر تأتي في المرتبة الثانية بعد هدفها المتمثل في تعزيز التصنيع المتقدم كمحرك جديد للنمو. لكن هذا ليس بالأمر السهل، حيث كانت العقارات تمثل ذات يوم أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي، مع ارتباطها بثروة الأسر ومالية الحكومة المحلية.
الصراعات
تستمر الصراعات المستمرة، وخاصة في أوكرانيا والشرق الأوسط، في إلقاء ظلالها على الاستقرار العالمي. ومن المتوقع أن تهدأ الحرب في غزة ولبنان جزئيا في عام 2025، مما يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط الخام برنت إلى حوالي 77 دولارا للبرميل، بحسب “إيكونوميست إنتليجنس”. ومع ذلك، تحذر من أن صراعاً أوسع نطاقا – يقدر احتماله بنسبة 30 في المائة – قد يدفع أسعار النفط إلى ما يزيد عن 100 دولار للبرميل، في حين يؤدي أيضا إلى ارتفاعات حادة في تكاليف الشحن والتأمين للتجارة العالمية.
كما أن أحد أكثر المخاوف إلحاحاً في عام 2025 هو تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. فالتوترات التجارية بين هاتين القوتين الاقتصاديتين العظميين تجبر الشركات على إعادة النظر في استراتيجياتها وتعديل سلاسل التوريد الخاصة بها للتنقل في عالم منقسم بشكل متزايد على أسس جيوسياسية.
وبالإضافة إلى حواجز التعريفات الجمركية المتزايدة، تواجه الشركات مجموعة متزايدة من اللوائح التنظيمية المتعلقة بالبيانات والضرائب والملكية الفكرية والتي تزيد من تعقيد العمليات عبر الحدود.
…وتأثيرها على النفط
من المتوقع أن تنخفض أسعار السلع الأولية على المستوى العالمي إلى أدنى مستوى لها في خمس سنوات في عام 2025 وسط وفرة غير مسبوقة في إمدادات النفط من المرجح أن تحد من آثار تمدد رقعة الصراع في الشرق الأوسط على الأسعار.
وفي هذا الإطار، يتوقع البنك الدولي أن يتجاوز المعروض العالمي من النفط الطلبَ بمعدل 1.2 مليون برميل يومياً في العام المقبل، وهي وفرة لم يتم تجاوزها سوى مرتين فقط من قبل؛ كانت إحداهما إبّان عمليات الإغلاق الناجمة عن جائحة كورونا عام 2020، والأخرى عندما انهارت أسعار النفط عام 1998.
ومن المتوقع أن تقوم العديد من البلدان غير الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط أو حلفائها (أوبك+) بزيادة إنتاجها من النفط. وتمتلك “أوبك+” نفسها فائض طاقة إنتاجية يصل إلى 7 ملايين برميل يومياً، أي ما يقرب من ضعف الكمية قبيل تفشي الجائحة في عام 2019.
ختاماً، تبددت الآمال في عودة العالم إلى طبيعته يومًا ما منذ جائحة كوفيد-19، ويبدو أن العام 2025 لن يكون مختلفاً. ورغم عودة أنماط العمل والسفر إلى طبيعتها، إلا أن التوقعات الاقتصادية والسياسية لا تزال غير مؤكدة. ومع احتمال استمرار الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط حتى العام المقبل، وتدهور العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، سيتعين على العالم التعامل مع التوترات الجيوسياسية المتزايدة، فضلاً عن التأثير المتزايد لتغير المناخ.