الاقتصاد المصري يبتعد عن الهاوية… لكن طريق التعافي لا يزال طويلاً

بتطبيق برنامج الخصخصة جوهري في سلة الإصلاحات

* الحكومة المصرية فقدت حوالي 7 مليارات دولار من إيرادات قناة السويس

* حجم الدين الخارجي بلغ 160.6 مليار دولار بنهاية مارس

صحيح أن الاقتصاد المصري استطاع أن يبتعد عن حافة الهاوية بعد الدعم الذي حصل عليه من صندوق النقد الدولي ومن دول خليجية ومؤسسات دولية، لكن هذا لا يعني أن الاقتصاد نجا كلياً. فالحرب التي حصلت بين إسرائيل و”حماس” طالت شظاياها هذا الاقتصاد الهش أصلاً بعدما تسبّبت بتراجع كبير في إيرادات قناة السويس التي تعتبر واحدة من أهم مصادر العملة الصعبة والإيرادات في مصر إلى جانب قطاع السياحة وتصدير النفط والغاز.

ففي العام 2024، انخفضت إيرادات القناة بحوالي 60 في المائة، حيث أنها فقدت حوالي 7 مليارات دولار بسبب تطورات البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بحسب إقرار الحكومة المصرية.

تحتاج مصر إلى حجم كبير من الاحتياطيات الأجنبية لتغطية احتياجاتها بالعملات

لا تلعب قناة السويس دوراً كبيراً في الاقتصاد المصري فحسب، بل يمتد دورها أبعد من مجرد الإيرادات المباشرة؛ فهي من أهم الممرات المائية في العالم، حيث تربط البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ما يجعل دورها استراتيجي كطريق ملاحي حيوي للتجارة العالمية.

حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2023 (تاريخ تشوب الحرب بين اسرائيل وحماس)، كانت مصر تواجه تحديات اقتصادية تتعلق بالتمويل الخارجي بسبب عوامل عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر، عجز الميزان التجاري، والتزامات الديون، وتذبذب احتياطيات النقد الأجنبي.

وحتى ذلك التاريخ، كانت البلاد تشهد زيادة في حجم الدين الخارجي على مدى السنوات الأخيرة. فبحسب تقرير البنك المركزي المصري، بلغ حجم الدين الخارجي 160.6 مليار دولار بنهاية مارس (آذار) 2024، مقابل 164.5 مليار دولار في نهاية الربع الأول من العام المالي 2023 /2024.

من هنا أهمية العملات الصعبة بالنسبة لمصر التي تعتمد أصلاً على استيراد العديد من السلع الأساسية، بدءًا من المنتجات الغذائية وصولاً إلى المواد الأولية والتكنولوجيات الحديثة، من أجل سداد ديونها وخدمتها، وتوفير احتياطات كافية من العملات الأجنبية للمساعدة على استقرار سعر صرف الجنيه المصري، مما يقلل الضغوط التضخمية ويساعد على استقرار الأسعار داخلياً، وتعزيز التجارة الخارجية، وتغطية العجز في الميزان التجاري.

الدعم الخارجي

حصلت مصر على دعم مالي خارجي أدى إلى انتشال اقتصادها من حافة الهاوية، وذلك في إطار خطة إنقاذ عالمية بلغ مجموعها نحو 57 مليار دولار. إذ وقّعت في مارس (آذار) الماضي حزمة إصلاحات مالية بقيمة 8 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي، بعد تأمين 35 مليار دولار من دولة الإمارات في فبراير (شباط). كما أضاف الاتحاد الأوروبي 8 مليارات دولار، ووفّر البنك الدولي 6 مليارات دولار أخرى على شكل مزيج من القروض الميسرة والمشاريع.

مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي

 وهدف البرنامج مع صندوق النقد الدولي إلى مساعدتها على تقليص عجز موازنتها وتبني سياسة نقدية أقل تأجيجا للتضخم. لكن هذا الدعم مشروطاً بإصلاحات جوهرية مثل التخلي عن نظام سعر الصرف الثابت وتغيير قواعد الدعم والضرائب.

أنتج برنامج صندوق النقد الدولي نجاحات، من أهمها:

– تم إصلاح نظام سعر الصرف في مصر. وبحسب متوسط ​​توقعات المحللين للعملة في استطلاع لـ”رويترز”، من المتوقع أن يتراجع الجنيه المصري إلى 52.0 جنيها للدولار بحلول نهاية يونيو (حزيران) 2025، و54.75 بحلول نهاية يونيو (حزيران) 2026.

وكان البنك المركزي أبقى الجنيه ثابتاً عند 30.85 مقابل الدولار قبل السماح له بالهبوط كجزء من برنامج صندوق النقد الدولي.

-تباطأ التضخم، حيث سجل 24.1 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) في أدنى مستوى في عامين. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ معدل التضخم في مصر إلى 16 في المائة بحلول نهاية السنة المالية 2024/2025، والتي تنتهي في يونيو (حزيران) 2025.

وكان التضخم بدأ في الارتفاع الجنوني عام 2022 عقب أزمة أوكرانيا، وهو ما دفع المستثمرين الأجانب إلى سحب مليارات الدولارات من أسواق الخزانة المصرية. وسجل ذروته عند 38 في المائة في سبتمبر (أيلول) 2023، وكان أدنى مستوى له منذ ذلك الحين عندما سجل 21.27 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) 2022.

-انخفضت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وإن كانت لا تزال مرتفعة، بنسبة 7 في المائة في السنة المالية 2023/2024 إلى 89 في المائة. وتستهدف الحكومة خفض نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 88 في المائة في السنة المالية 2024/2025، كما أنها ملتزمة بخفض مستويات ديونها المرتفعة إلى أقل من 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول السنة المالية 2026/2027 كجزء من برنامج قرضها مع صندوق النقد الدولي، والذي من المقرر أن ينتهي في سبتمبر (أيلول) 2026.

أين أصبح برنامج الخصخصة؟

لكن الإصلاحات ذات المغزى للحوكمة الاقتصادية، وتلك المرتبطة ببرنامج خصخصة شركات ومؤسسات تابعة للدولة، لم يتم تنفيذها وفق ما كان متفقاً عليه. وكان البرلمان المصري وافق في العام 2022 على برنامج يهدف الى زيادة رأس المال من خلال بيع 35 شركة من هذه الشركات. كما يهدف إلى تحسين كفاءة الشركات وجذب الاستثمارات وتخفيف العبء على الموازنة العامة وتطوير أسواق رأس المال . غير أنه مع تقلب سعر الصرف في عام 2023، اكتفت الحكومة ببيع حصص أقلية في خمس شركات فقط، مما نتج عنه تحصيل مبلغ زهيد بلغ 1.5 مليار دولار.

ويعوّل صندوق النقد الدولي كثيراً على هذا البرنامج في إطار تخفيف قبضة الدولة عن الكثير من الكيانات الاستثمارية. ويبدو أن جهود الأخيرة نجحت في بث الحياة إلى البرنامج. إذ كان لافتاً أن يعلن رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في 11 ديسمبر (كانون الأول)، أن الحكومة ستطرح عشرة شركات مملوكة للدولة، ومن ضمنها أربع عسكرية، للخصخصة في العام 2025، ليعلن الصندوق بعد نحو أسبوعين على هذا التصريح توصّله إلى اتفاق على مستوى الخبراء يتيح لمصر الحصول على شريحة جديدة من الإقراض تبلغ 1.2 مليار دولار، شرط موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي. ولاحقاً، في يناير (كانون الثاني) هذا العام،  وفيما كانت مصر تستعد لاستقبال شريحة من قرض الصندوق،كشف مدبولي عن نية الحكومة الإعلان عن شركات جديدة لطرحها للقطاع الخاص في 2025، بالإضافة إلى الشركات العشرة المشار إليها. وتؤشر هذه المعطيات على وجود شرط مسبق من الصندوق للاستمرار في حصول مصر على دفعات القرض.

تقول مؤسسة “كارنيغي” في هذا الإطار، إن الحكومة تعهّدت بإدراج جميع الشركات المملوكة للدولة – بما في ذلك الشركات العسكرية – ضمن إطار موحّد للإدارة المالية والإبلاغ المالي بصورة شفّافة، ونشر تقارير سنوية ونصف سنوية شاملة ومفصّلة عن الإنفاق الضريبي، وإلغاء الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة، فضلًا عن تحسين الإجراءات الجمركية ومشاركة المعلومات.

وتضيف: “لم يُبصر أيٌّ من هذه الوعود النور تقريباً، باستثناء إزالة الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة – علماً أن ذلك لم يُطبَّق على الشركات العسكرية. كذلك، يؤكّد مسؤولون في صندوق النقد والبنك الدولي في مجالسهم الخاصة أن الإبلاغ الضريبي المُقدَّم من الحكومة لا يزال أقلّ بكثير من المطلوب”.

وبحسب تقرير “كارنيغي”، لم يتمّ فعلياً طرح سهم واحد من أسهم الشركات العسكرية (والتي يفوق عددها السبعين) في البورصة المصرية بعد مرور سنوات على اقتراح ذلك للمرة الأولى في العام 2018.

وفي ظل هذه التطورات، خفّض صندوق النقد الدولي توقعات النمو في مصر لعام 2025 من 4.1 في المائة إلى 3.6 في المائة، وراجع مسار التعديل المالي للبرنامج. وتُظهر أحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزي المصري أن ميزان المدفوعات سجل عجزاً قدره 991 مليون دولار في الفترة من يوليو (تموز) إلى سبتمبر (أيلول) 2024، انخفاضاً من فائض قدره 229 مليون دولار خلال الفترة نفسها في عام 2023.

تنويع مصادر التمويل

يبدو أن اتفاق وقف الحرب بين اسرائيل و”حماس” كان له وقعه الإيجابي على الورقة المصرية. إذ شهد إصدارها بقيمة ملياري دولار في آخر يناير (كانون الثاني) لأول سندات دولارية منذ 4 سنوت تغطيةً بنحو 5 مرات، مع تلقي طلبات شراء بـ10 مليارات دولار، وهو ما يؤشر إلى عودة ثقة المستثمرين الدوليين بديون الدولة.

لكن العائد على تلك الديون مرتفع. إذ بلغ عائد طرح الشريحة الأولى من إصدار الملياري دولار، البالغ أجلها 5 سنوات، 1.25 مليار دولار بعائد بلغ 8.625 في المائة، فيما بلغ العائد على الشريحة الثاني البالغة قيمتها 750 مليون دولار ولأجل 8 سنوات، 9.45 في المائة. ورغم ذلك، يرى بعض المراقبين أن عودة مصر إلى سوق الدين العالمية وبحجم طلب كبير من المستثمرين، سيخفف بشكل كبير من قيود التمويل الخارجي التي تواجه القاهرة، وسيساعدها في دعم تدفقات العملات الأجنبية إلى البلاد.

مع الإشارة هنا إلى أن مصر تواجه استحقاقات سندات في النصف الأول من العام الجاري بقيمة إجمالية تقدر بنحو 2.25 مليار دولار.

ختاماً، لا تزال الطريق طويلة أمام التعافي الاقتصادي التام لمصر. والمفصل هو في مدى امتثالها للشروط الدولية وتنفيذها للإصلاحات كي لا يتم إغلاق الصنبور.