“لم يكن للساحة.. وتمثال الشهداء الذي أعطاها الاسم، أي وقع على المارّين بها. كان الجميع يمرّون بها وكأنّهم يتجاوزونها، أو حتى يتفادونها… “.
كيف خسرت الساحة جمعها وبهجتها الخضراء، وكيف أسلمت للمدينة غربتها. وهي التي كانت في الثلاثينيّات وحتى بداية السبعينيّات مكانًا زاخرًا بالحياة!
في كتابه ” الباكِيَتان” (سيرة تمثال). يُثير الصحفي والكاتب اللبناني “رامي الأمين”، إشكاليّة البحث في حكاية تمثال “الباكِيَتان” الذي كان محل تمثال الشهداء الحالي في ساحة البرج في بيروت أو ما اصطُلح على تسميّتها بـ”ساحة الشهداء”، إشكاليّة تطرح الكثير من التساؤلات التي قد تبدو في السياق بلا إجابات نهائيّة، ولكنها محمّلة بالكثير من الافتراضات، وفي مكمنٍ ما بدى البحثُ في سيرة التمثال كقيمة معنوية بأبعادٍ سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة أيضًا وعقائديّة.
رامي الأمين كاتب وصحافي لبنانيّ يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، حائز على درجة ماجستير في العلاقات الإسلاميّة والمسيحيّة، له كتاب شعر بعنوان “أنا شاعر كبير” وكتاب سياسي بعنوان ” يا علي لم نعد أهل الجنوب” وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي “معشر الفسابكة”.
الباكِيتَان، سيرةُ تمثال، أم سيرة شعب!
صدر “الباكِيَتان” بطبعته الأولى في سبتمبر\ أيلول ٢٠٢٤، عن دار النهضة العربية لبنان، يتناول سيرة تمثال للنحّات اللبناني يوسف الحويّك. يقع الكتاب في حوالي الثمانين صفحة، ويُقسّم إلى عناوين ويحوي على بعض الصور التوثيقيّة عن التمثال.
كان لشُحّ ِالمعلومات المرتبطة بالتمثال، وغيابه عن الذاكرة الجماعيّة للبنانيين دافعًا للأمين للبحث في ذاكرة تلك الحقبة التاريخيّة من حياة اللبنانيين، والتي لا يعرف الكثيرون منهم بحكاية “الباكِيَتان”.
حرص المين على تضمين بحثه العديد من المراجع والمصادر عن باحثين ومؤرخين كتبوا عن تلك المرحلة من تاريخ لبنان، وعن القيمة المعنويّة للتمثال بشكل عام التي تتخطى محدوديّة الصورة والشكل.
يقول في كتابه: ” لا شيء يقدر على الترميز إلى نهاية حقبة تاريخيّة وبداية أخرى، أكثر من التماثيل والنصب التذكاريّة، يمكن لهذه النصب أن تخبرنا الكثير عن تاريخنا، في حضورها وانتصابها كما في انكسارها وزوالها ..”، فالتماثيل ليست محايدة كما يقول ولا توجد في الفراغ.
وفي حديث للحصاد يُشير: “ما حاولت فعله هو كتابة سيرة تمثال “الباكِيَتان” كنوع من الاعتراض على النسيان. التأويلات السياسية والاجتماعية هي جزء من سيرة التمثال وسيرة المدينة. وقد لا يرى كثيرون في التماثيل أيّة أهمية وأي معنى. ولا بأس بذلك. لكني على الصعيد الشخصي لطالما أوليت اهتمامًا للتماثيل وما تقوله لنا عن تاريخ المكان، في كلّ الأمكنة التي سافرت إليها أو زرتها في لبنان وفي العالم.”
تعود قصة التمثال إلى السادس من أيار 1916، حيث قام العثمانيون بإعدام ١٦ معارضًا لحكمهم وعلّقوا المشانق في وسط ساحة البرج -والتي اصطُلح من أسمائها أيضًا ساحة الاتّحاد، ساحة الحرية، وصولًا حتى ” ساحة الشهداء”- وفي عهد الانتداب الفرنسي، تأسست لجنة عُرفت بـ “عصبة تكريم الشهداء” كان هدفها تنظيم احتفال رسمي سنوي تكريمًا لذكرى الشهداء، وطلبت اللجنة من سلطة الانتداب تعيين تاريخ السادس من أيّار عيدًا رمزيًّا للشهداء، رفضت السلطة بشخص مفوّضها السامي، وقامت بتعيين الثاني من أيلول يومًا للاحتفال، وعلى أثر ذلك كلّفت الفنان والنحّات يوسف الحويّك تخليد الذكرى في تمثال، فكان الباكِيَتان الذي ظهر في 19 كانون الأوّل العام 1930.
يصوّر امرأتان، مسيحيّة ومسلمة تجلسان متقابلتين، وتمدّان أيديهما إلى جرّة جنائزيّة تشير إلى استشهاد ابنيهما، والجرّة عبارة عمن مرمدة ترمز إلى ماضي لبنان الفنيقي، في إشارة إلى الأسى الأمومي.
وصف النٌقّاد منهم الصحافي فؤاد سليمان وهو قومي سوري، التمثال بأنه حجر منحوت للعبيد ووصفه بالكريه وفيه إرادة مذلولة مقهورة وذليلة، وعدّه صخرة كئيبة جامدة وجثّة منتصبة ودعا إلى دقّ رأسه، كما يذكر الأمين في كتابه، وقد قامت مظاهرات تطالب بإزالته.
البحث عن سامي سليم!
كان “سامي سليم” ينتمي إلى عصبة تكريم الشهداء التي كانت ترى في النُصب إهانة للبنانيين ولعيشهم المشترك، وكانت له ميول قوميّة سوريّة. ويذكر الأمين بتاريخ أيلول العام 1948، عمد سليم إلى اعتلاء النُصب في وسط الساحة، وأعمل مطرقته في أنف إحدى السيّدتين وتسبّب بأثر واضح قبل أن يُقبض عليه ويتمّ إنزاله، ويسجن لعشرة أيّام. ليُصار إلى إزالة التمثال تمامًا من الساحة في منتصف الخمسينيّات.
سقط اسم “سامي سليم” من كثير من المؤلفات والسرديات التي تحدثت عن سيرة التمثال. فهل كان ذلك استهانة بفعلة سليم والذي اتٌّهم بعقله في تلك المرحلة وهو الأستاذ والصُحفي؟!
يأخذ الأمين على عاتقه مهمة البحث عن سامي سليم حتى يصل إلى ضيعته ويحكي لنا عمّا لم تذكره السرديات التي أغفلت الحديث عنه.
يذكر الأمين في حديث للحصاد: ” في الواقع ما دفعني إلى البحث في سيرة سامي سليم هو مطرقته وأثرها في التمثال. بدت لي الندبة في أنف احدى الباكيتين شديدة الدلالة على أن الطرقة هي التي تسببت في النهاية بإزالة التمثال وإحالته إلى التقاعد. ما بدا لافتاً لاحقاً حينما بدأت البحث عن سامي سليم في المراجع، هو إهمال سيرته وأحيانا إسقاط اسمه، والاكتفاء بذكر محاولة تحطيم التمثال. ثم تدحرجت كرة الثلج، ووجدتني أبحث أكثر فأكثر عن حكاية الرجل الذي اتُهم بالجنون بعد توقيفه، وعومل على انه مضطرب نفسياً في سياق قراءة أفعاله. ولم يكن هدفي هو الدفاع عن سامي سليم، بل منحه الحق في أن يُسمع وأن يُقرأ سلوكه بلا أحكام مسبقة، حتى بعد أكثر من ستة عقود على وفاته. بالإضافة طبعاً إلى سيرة سامي سليم الذي بدت لي مغرية للبحث عنها.”
حتى تمثال مازاكوراتي
في العام ١٩٥٢ أأعلنت الحكومة اللبنانية عن مسابقة دولية لوضع مشروع جديد لنٌصب الشهداء التذكاري حينها نال المهندس سامي عبد الباقي اللبناني الجائزة والتي قدرها عشرة آلاف ليرة لبنانية، ولكن تصميمه لم يلق التنفيذ، في العام ١٩٥٦ في السادس من أيار وضع الرئيس كميل شمعون حجر الأساس للنصب الجديد والذي نُفّذ في العام ١٩٦٠، وهو من تصميم النحات الإيطالي مارينو مازاكوراتي، الذي مثّل امرأة تحمل مشعلًا وتحضن باليد الأخرى فتًى وعلى الأرض خلفها وأمامها شهيدان، صمد تمثال مازاكوراتي ولو أنّ بعضهم عاب عليه أن ملامحه ليست لبنانية.
لم يؤثر عصف انفجار الرابع من آب ولا الشظايا التي تناثرت على تمثال الشهداء ولم تقدر عليه رشقات رصاص الحرب الأهلية فالتمثال من البرونز. بينما كان تمثال الباكيتان من حجر جيري قابل للتفتّت، فهل أنقذت مطرقة سليم التي انهالت عليه في الثامن من أيلول ١٩٤٨! يتساءل الأمين.
خضع تمثال الباكيتان للترميم قبل أن يُنقل إلى باحة قصر سرسق الأماميّة على قاعدة لا يتعدى ارتفاعها مترًا واحدا.
عن التراموي الذي غاب
يذكر الأمين كيف كانت الساحة قلب بيروت وفيها كل مقوّمات الحياة من مطاعم وفنادق ومقاهٍ، ومكتبات وفيها محطة الترام التي كانت نقطة محطة إيصال وتواصل بين مكوّنات المجتمع اللبناني، وكانت الساحة نقيضًا للحرب، وقد تحولت بفعل الحرب إلى ميدان واسع وفارغ وساحة رمزية للتظاهر والاعتصامات تجمع حينًا وتفرّق حينًا آخر.
فقدت الساحة كل شيء أشجارها وناسها، تحوّلت إلى ممر بعدما كان مستقرًا. كان خطّ التراموي الذي ينطلق من محطته الرئيسيّة في الساحة، يمرّ بالدوائر الرسميّة والمخافر والمدارس والجامعات ودور العبادة ويربط بين كلّ مناطق المدينة، قبل أن تقرّر الحكومة إلغاءه. في العام 1964.
يلفت الأمين للحصاد: ” في النهاية الناس لم يعترضوا بما يكفي على قتل الترامواي. ظهرت أصوات متفرقة، ثم بدأت السرديّة تصير قائمة على الحنين. نتذكّر ونبكي. وهذا السياق انسحب على مسائل كثيرة ترتبط بالعيش المشترك، الذي تحول في جوانب منه إلى فولكلور. إزالة الترامواي مثلًات مسألة في عمقها مرتبطة بالفساد والمال والتطوير القائم على الانتفاع من التلزيمات، بمعزل عن الجدوى الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أدى إلى القضاء رويدًا رويدًا على النقل المشترك في لبنان لصالح النقل الخاص. ويمكن القياس على ذلك.”
ليست قصّة تمثال فقط!
يتخطى الكتاب مضمونه ليُحاكي الاضطراب الطائفي والسياسيّ الذي يُشكله تواجد التماثيل كما إزالتها، “ما تمثله هذه التماثيل من رفعها ومن دافع عنها ومن قام بإسقاطها ولماذا! “
يلفُت المؤلف في سياق الكتاب أنه بعد الانسحاب السوري من لبنان في نيسان ٢٠٠٥، طلبت سوريا حينذاك من الجيش اللبناني تفكيك معظم تماثيل حافظ وباسل الأسد ونقلها إلى سوريا.. تفاديا لإسقاطها وتدميرها. قد يتقاطع هذا الحديث مع الأحداث الأخيرة في سوريا وسقوط نظام الأسد، واندفاع الناس إلى إسقاط التماثيل في مختلف المحافظات، وصولًا حتى إحراق ضريح حافظ الأسد والذي قيل أنّ الجثّة ليست فيه.
يُفيد الأمين للحصاد: ” التماثيل، بقيامها وسقوطها، تحدّد غالبًا نهاية حقبات وبداية أخرى، خاصّة في الأنظمة التي تقدّس الأشخاص وتصنّع لهم تماثيل تنصّبها في كل مكان لتأكيد السيطرة. لهذا حينما ينهار نظام قائم على الشخص الواحد، تكون سقوط تماثيله مدوّية والأكثر تعبيرًا عن انهياره.”
يرى الأمين أن كتابه هو سيرة متواضعة لتمثال، “أحزنني أن لا يكون معروفًا لأجيالنا مع أنه أمضى أكثر من ربع قرن في قلب مدينتنا” ويختم: “أنا ممتن لوجود تمثال “الباكِيَتان” في متحف سرسق. وأتمنى أن ينُقل إلى ساحة عامة ليكون متاحًا أكثر لعدد أكبر من اللبنانيين. “