البروفيسور والناقد والأديب والشاعر والروائي والمسرحي الفلسطيني إبراهيم عبد الرحيم السّعَافين متميز بتجربته السردية وخصوصية لغته الإبداعية. ولد عام 1942 في الفالوجة بفلسطين. حصل على ليسانس في اللغة العربية وآدابها عام 1966 والماجستير عام 1972 ونال درجة الدكتوراه عام 1978 من كلية الآداب جامعة القاهرة. حصل كذلك على الدبلوم العام في التربية من جامعة الكويت. وهو أستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بالجامعة الأردنية. وجامعة اليرموك وجامعة تنيسي الأمريكية وجامعة الملك سعود بالرياض وجامعة الإمارات العربية المتحدة وجامعة الشارقة. كذلك كان أستاذًا زائرًا للعديد من الجامعات مثل جامعة تينيسي في توكسفيل . هو رئيس تحرير مجلة أبحاث اليرموك. ورئيس لجمعية النقاد الأردنيين، وعضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وهو رئيس تحرير وعضوًا في هيئات التحرير والهيئات الاستشارية لعدد من الدوريات العلمية والثقافية. وعضو اللجنة التنفيذية لمهرجان جرش الثقافي. شغل منصب عضو مجلس أمناء في عدد من الجامعات
ومؤسسات الجوائز. ورئيس جمعية النقاد الأردنيين وعضو مراسل للمجمع العلمي الهندي منذ عام 1983. عضو الهيئة التأسيسية للاتحاد العربي لباحثي الأدب الشعبي ببغداد 1989.
حصل على جائزة درع مهرجان جرش للثقافة عام 1983.وجائزة الدولة التقديرية في الآداب في الأردن عام1993. وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 2001.لديه أكثر من 32مؤلفًا في النقد والدراسة والإبداع، منها: مدرسة الإحياء والتراث. نشأة الرواية والمسرحية في فلسطين. أصول المقامات. ليالي شمس النهار (مسرحية). رواية في ظلال الرمان. الديوان الشعري “أفق الخيول” وغيرها. وأخيرًا اختير ليكون الشخصية الثقافية العربية لعام 2023م من قبل النادي الثقافي بمسقط.
الحصاد:أولًا، كيف حالكم شخصيًا في هذه اللحظة التي يستباح فيها دم الأطفال والنساء والشيوخ في غزة باسم محاربة حركة حماس؟
د. إبراهيم السّعافين: لا شك في أن قلوبنا وعقولنا هناك في غزّة.أمتحان الأمة العسير هناك. أنا في ألمي وحزني مذبوح من الوريد إلى الوريد ، وأعلم أنّ العالم كلّه منافق متوحّش، أقصد الأنظمة، لكنني فيّ الوقت نفسه متفائل بأنّ هذا الوحش البشع سيسحبه بئر الدم ويموت.
الحصاد :الأديب والناقد والأكاديمي البروفيسور إبراهيم السّعافين كيف كانت بداياتك؟
د. إبراهيم السّعافين : البدايات عادةً ما تكون جذورها غامضة. كنت أشعر بالرّغبة في التعبير عن مشاعري وأفكاري فأجد أمامي عوائق أهمّها المخزون الثّقافي والمعرفي والثقة بالنفس. حاولت أن أعبّر عن نفسي حيال موضوعاتٍ وطنيّة في المرحلة الابتدائية ورحت أكتب الشعر بانتظام في المرحلة الثانويّة. شاركت في تحرير مجلة الفصل وفي النّدوة الشّعريّة في المدرسة وألقيت القصائد أمام طابور المدرسة. وكانت بدايتي الحقيقية في الجامعة حين شاركت في الندوات والملتقيات والجمعيّات داخل جامعة القاهرة وخارجها
وكان لوالدك الشاعر الكبير محمد حسيب القاضي الفضل في نشر أوّل قصيدة لي في جريدة أخبار فلسطين الغزيّة التي كان يشرف على صفحتها الثّقافيّة بعنوان ” بيتنا الخالي” عام ١٩٦٣ حين كنت في السنة الأولى من دراستي الجامغيّة وكان لنشر قصيدة لي في مجلة الشعر التي كان يرأس تحريرها عبد القادر القط ومحمود حسن إسماعيل في مجلة الشعر القاهرية ثاني قصيدة بعد عز الدين إسماعيل وقبل قصيدة الشاعر ذائع الصّيت صالح جودت وقع خاص في نفسي، وفي هذه المرحلة كتبت رواياتي الثلاث التي لم تزل مخطوطة. هذه هي البدايات على ضوء ما سعيت إلى تحصيله من خبرة ثقافيّة ومعرفيّة متنوّعة.
الحصاد :يقول فيديريكو غارسيا لوركا: “أه يا لها من أحزانٍ عميقة لا يمكن تجنّبها.. تلك الأصوات المتوجّعة التي يغنّيها الشّعراء”؟
د. إبراهيم السّعافين : يبدو أن التعبير في جوهره وجذوره ذا صلةٍ عميقة بالأوجاع والأحزان، فالحزن يتجاور حتّى مع الأفراح والمسرّات، نلمح ذلك في صوت المنشد أو المغنّي الذي يشدو أو يُغّنّي للبهجة والأمل والمتعة وأفراح الحياة حتى قارئ القرآن تشدّك نبرة الحزن في صوته ومما يُروى عن النبيّ عليه الصّلاة والسّلام قوله في هذا الصدّد:” إنّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وتغنّوا به، فمن لم يتغنّ به فليس منّا”
وكلّما كان المبدع وحتّى المفكر صادقًا في التعبير عن الإحساس أو الرّأي أو الموقف حين يتأمل الزّمان والمكان والحياة والواقع والوجود نلمح رنّة الحزن واضحةً أو ذائبةً في نسيج النصّ.
أقول هذا وأنا أتحدّث عن الطّبيعة الإنسانيّة بشكلٍ عام، فكيف إذا كان الأمر يتّصل بالمبدع الذي عاش دواعي الحزن منذ الطّفولة واليفاع. أنا من جيل النّكبة الذي ورث جينات الحزن من عائلته أكثر من معاناته الشخصية
وقد ترك أثره في ما أكتب وفي رؤيتي للحياة والواقع والوجود. على أنّ هذا الحزن لم يدفع باتّجاه اليأس أو الانكسار ولكنه دافع نحو الأمل والتفاؤل والتغيير. أنا متفائل دائمًا رغم قسوة الواقع وشراسة التحدّي وظواهر الغطرسة والاستقواء وتجذّر الشرّ في هذا العالم أفرادًا وجماعات.
الحصاد :لقد وظّفت في كتابك (الرّواية العربيّة تُبحر من جديد) أبرز الرؤى المنهجيّة الحديثة لقراءة فريدة لأهم الرّوايات العربيّة. ما هو برأيك مسار الرّواية العربيّة الحديثة اليوم وإشكاليّات التلقّي؟
د. إبراهيم السّعافين : يتضّح من مسار الرّواية العربيّة الحديثة منذ النّشأة أنّها مرتبطة بالواقع والتّراث من جهة وبحركة الرواية العالميّة من جهة أخرى. والتّراث عندي ليس مرتبطًا بنقطة متعيّنة في الزّمن، بل ما يزال يسري حتّى هذه اللّحظة.
يتوهّم بعض الدّارسين أنّ الرّواية وحتّى ظاهرة السّرد برمّتها جديدة طارئة ومستنبنة في تربتنا، وهذا غير صحيح؛ فقد اختصرت الرّواية العربيّة تيارات الرّواية الغربيّة واتّجاهاتها على مدى ما يزيد على مائتي عام في خمسين عامًا من الرومانس إلى الرومانتيكيّة إلى الواقعيّة والتّجريب. وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على ارتباط الرّواية العربيّة بحركة الواقع ارتباطًا شديدًا، وليس استنباتًا أو استنساخًا، فلا زمان ولا مكان ولا شخصيّات ولا روح ثقافة أو جوهر حضارة تجلب من خارج رؤية الكاتب الحقيقي الأصيل.
كلّ ما قلت لا ينفي وجود محاولات تجريبيّة لا تستجيب لما أشرت ولكنها تظلّ محاولات هامشيّة لا تمسّ الرّوحِ أو الجوهر
نحن الآن ما زلنا في مرحلة التّجريب وهي مرحلة لا بدّ منها وأظنّ أنّها مستمرّة. وميزة هذه المرحلة من التجريب أنّها تتقاطع مع الواقعيّة، بل هي كما سمّيتها ” واقعيّة جديدة” بمعنى أنّها تحمل كلّ المكتسبات الفنيّة والمضمونيّة التي ثقفتها في تطوّرها. أنا أتحدّث بالطّبع عن الاتّجاه الرّئيسي هذه الأيّام. بعض الدارسين يتحدثون عن رواية المستقبل مثل حضور الجنس والنّسويّة والرّقميّة والتكنولوجيا والذكاء الصّناعي وما أشبه فذلك على وجاهته ربّما يؤثّر على مستقبل الرّواية بل على مستقبل الأدب برمّته.
الحصاد :في ديوان ” حوار الحكايات” كتبت هذه الأبيات ” كنّا ننام على الرّمل/ لا شيء يستر أحلامنا غير عري الطّبيعة/ دغدغة الموج، دفء العواطف/ رعشة شيءٍ تشكّل بين الحنايا/ وكأسٍ من الشّاي خدّره الشّوق والغربة العاتية” تعبّر عن حالةٍ فيها الكثير من الذّكريات والغربة. ما هو الباب الذي تفتحه القصيدة لك سريعًا عند لقائك بها في منحدر اللغة. وللشّاعر في أبوابه أسرارٌ وألغاز؟
د. إبراهيم السّعافين : القصيدة في الغالب تفتح باب الذّاكرة وتنفتح على ذكرياتٍ لا أقول إنّها أنتجتها ولكنّها ذكريات توحّدت معها. عالم القصيدة لدى الشّاعر عالم معقّد، من الواقع والخيال من العيني والميتافيزيقا، تبدو كالسّديم إلى أن تتشكّل، ومن الطّريف أن الجملة الشّعريّة أو الفكرة الشّعريّة إذا ضاعت أو أنسيت فلن تعود كما كانت وكأن ساعة إيجادها ساعة إلهام مع أنّني أميل إلى أنّ الشّعر صناعة.
وبما أنّ الشّعر تعبير عن حالات معقّدة تجمع ما بين فعل الذّاكرة والتفكير والحلم والعاطفة والحدس والحس والرّغبة فإنَ ما يصل إلينا من القصيدة يُترجم عن ذلك كلّه: العاطفة والرّغبة والذّاكرة والواقع والحدس والحسّ والحلم. حين ننتقل من الحالة السّديميّة إلى التشكّل ننفتح على ما قلنا ونجد أنّ النص أصبح شركةً بيننا وبين المتلقّي بل على وجه الدقّة نصبح أحد المتلقّين. ولا أغالي حين أقول إنّ اللّغة تتيح للمتلقي أن يُطلع المبدع على ما خفي عليه أو ما لم يخطر له على بال وهذه، بالضّرورة، مهمّة المبدع الأصيل.
الحصاد :لقد صرّحت في لقاء: ” التفكير النقدي مطلب أساسي للإنسان في سلوكه وفي رؤيته للحياة وللواقع وللأشياء وللعالم. وبغير هذه المعادلة تختلّ المعادلة بين الفرد والأسرة والمجتمع والمؤسّسة والسّلطة.” كيف يمكن للنقّاد الأدبيّين أن يساعدوا في تطوير وتحسين الأدب. وما هي الصّعوبات التي يمكن مواجهتها في النّقد الأدبي؟
د. إبراهيم السّعافين: نعم. التفكير النقدي مطلب اساسي ولكنّه مطلب في غاية الصّعوبة، وتكتنفه تعقيدات كثيرة، لأنّ التفكير النقدي ليس حالةً موضوعيّة حاسمة يمكن تحليلها وإعادتها إلى موادّها الأوّلية. إنّها مرتبطة بالذّوق والهوى والمزاج والإيديولوجيا. وإذا كان التفكير النقدي مطلبًا أساسيًّا لدى المثقّفين الذين يعلون من قيمة الديموقراطيّة وما يتصل بها من حريّة الرّأي وأهميّة الحوار فإنّ الواقع العمليّ يشير إلى أنّ غالبيّة المثقّفين لدينا على وجه الخصوص لا يحترمون التّفكير النّقدي ويسارعون فورًا إلى الإقصاء ويساهمون بسكّ تعبيرات يتوسّل بها رجال السًياسة أحيانًا لأغراضهم الخاصة.
ربّما أشرت أوّلاً إلى المثقّفين لأبيّن خطر هذه الظّاهرة في حياتنا برمّتها. يغلب على مجتمعاتنا التّعالم والتّظاهر بالإحاطة بكلّ شيء وترويج الإشاعة والرّغبة في اغتيال الذّاتِ والتعميم
ولعلّ هذا ينعكس بصورةٍ أكبر في مجال النقد الأدبي على أكثر من صعيد؛ منها ضعف التحصيل المعرفي وتواضع الموهبة وتجربة التعامل مع النص ثمّ غلبة الهوى والغرض وحضور الشلليّة ودَّخَل جهات خارج المنظومة المعرفيّة والأدبيّة والنقدية للإمعان في تحطيم الحركة النقدية وفرض معاييرها الغريبة، كلّ ذلك وغيره يحول دون وجود حركة نقديّة معافاة، على أنّ ذلك لا يدعو للتشاؤم والحيلولة دون حركة جادّة.
الحصاد : رواية “الطّريق إلى سحماتا” فيها الهمّ الفلسطينيّ وتبدأ بالموت والنكبة وتنتهي بالموت والكارثة إلاّ أنّها رواية إيجابيّة ومتفائلة وكانت الأحداث تدور في أمريكا. لماذا اخترت المكان أمريكا؟. أريد إضاءةً عن الرّواية؟
د. إبراهيم السّعافين : نعم. تحمل رواية الطّريق إلى سحماتا الهمّ الفلسطيني. المكان فيها متنوع ولكن البؤرة الرئيسية المكان الفلسطيني الذي تلتقي عليه كلّ الأمكنة، سحماتا المكان الرّمز الذي يشير إلى المعضلة والحلّ. سحماتا القرية المدمّرة المهجّرة مثل الفالوجة القرية المهجّرة المدمّرة. أمريكا الذي يجتمع فيه طلاب العلم من فلسطين والعالم العربي ليس المكان الوحيد ولكنه المكان الذي قام مثل بعض الأماكن على الاستيطان وفي ذلك شبه كبير مع الاستيطان الصّهيوني. هؤلاء تناديهم القضيّة المركزيّة قضيّة العرب وأحرار العالم ليشاركوا في فعل المقاومة مع اللاجئين والفدائيين حيث نرى معاوية العمر ابن سحماتا والمقيم في مخيم الرشيدية القريب من الوطن المحتل يرفض أن يغادر المخيم إلى مكان بعيد حتى يظلّ قريبًا من الأمل. لم يحقق المقاومون النصر في الجولة الأولى وتفرّق المقاومون في الآفاق لكنّ أجيالًا قادمة تعرف الطّريق إلى سحماتا. كلّ الأمكنة وكل ّ الطرق في الدّنيا تؤدي إلى فلسطين.
الحصاد :الكتابة روح متمرّدة تستوطن أعماق الكاتب. هي طاقة لا متناهية تأبى السّكون. هي نسائم الحريّة التي تتسلّل إلى رئتي الكاتب وسرعان ما تتحوّل إلى معاناة كلّما شرعنا في عمل جديد؟
د. إبراهيم السّعافين : الكتابة كما وصفت. الكتابة الهانئة الوادعة تخلو من جذوة الرّوحِ التي تتوق إلى تغيير الواقع تغييرًا إيجابيّا محمّلة بالقيم العليا قيم الحريّة والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز بين النّاس، وكتابة الذّاتِ كتابة مشروعة بشرط ألّا تعني العزلة والتقوقع والانسحاب إلى العوالم السلبية المسالمة. الكتابة تمرّد على الظّلم والخنوع والعبودية والنّفاق والوصوليّة والأنانيّة وعصيّة على الاحتواء والتّهجين والكسب الرّخيص. الكتابة باختصار دفاع مطلق عن إنسانيّة الإنسان، وفي حالة الكاتب الحرّ في كلّ مكان انحياز غير مشروط لفلسطين.
الحصاد :في كتابك “سلالة السّنديان” تتحدّث عن سيرتك الذّاتيّة. لقد قمت بخلق المشاركة الوجدانيّة مع القارئ وحقّقت الوظيفة التي كتبت من أجلها السّيرة فتعرّف القارئ على زوايا لم يكن يعرفها عنك… حدّثنا عن السّيرة الذاتية؟
د. إبراهيم السّعافين: سيرتي الذّاتيّة كتبت بعض حلقاتها في البداية على الفيسبوك. لقيت هذه الحلقات استحسانًا من الأصدقاء وكان بعض الأصدقاء فاتحوني من قبل لكتابة هذه السيرة. اقتنعت أخيرًا بهذا الأمر. حين فرغت من كتابتها وجدت أنّ ما كتبته يقع بين حدّين: الذّاتي الذي يخصّني أنا منذ الولادة حتّى الآن بما يسم حركتي في كلّ مكان، الظروف التي عشتها وتعليمي وإنجازي ورحلاتي وأفراحي وآلامي، وحدّ النّموذجي الذي أشترك فيه مع أبناء جيلي جيل النكبة الذين تعرّضوا لما تعرّضت وعانوا كما عانيت وكافحوا كما كافحت وحلموا كما حلمت وشهدوا الهزائم والانهيارات كما شهدت. من التعليقات والمقالات حول السيرة أشعر بارتياح لما لقيت هذه السّيرة من استجابات إيجابيّة.