تروما الزلازل بين الحقيقة والشعوذات
الزلازل ظاهرة طبيعية ، قديمة قدم الأرض .لطلما محت بلداناً عن الخرائط ، مُخلفةً دماراً وويلات ، وموتاً في كل مكان أصابته .
لكن الناس في يومنا هذا ، لم يشهدوا منذ مدة طويلة ، على التقلبات المزاجية لباطن الأرض ، لقد ألفوا الأمان والاستقرار في ربوعها ، بحيث بدا الزلزال المفاجئ والمُدمر ، الذي أصاب جنوب تركيا والشمال السوريّ ، في السادس من شهر شباط الماضي ، بمثابة جرس إنذار ، أيقظ العين الثالثة للبشر ، ونبههم بأن الزلازل لم تنته ، وبأن مخاطرها قائمة ، وأن هدوء الأرض لفترات مؤقتة ، ليس دائماً وأبدياً.
لقد تَبع زلزال تركيا المُدمّر ، مئات الهزات الارتدادية ، وقد خَلّف الآف القتلى، والآف الأبنية المُدمرة والمُتصدعة ، وأجبر ملايين الناجين ، على الإقامة في العراء ، والبحث عن أماكن بديلة ، عزّ وجودها ، كذلك فقد اتخذَ البعض منهم من سياراتهم ، أماكن للسُكنى .
لقد كان ما حَدث ، أشبه بسيناريو مُصغر عن يوم القيامة ، كما ذهب البعض إلى القول ، خاصةً ، وأن دائرة الكارثة اتسعت لتشمل ، إضافةً إلى تركيا وسوريا ، دولاً أخرى مجاورة كلبنان وفلسطين وجزءٍ من الأردن .
وكان لا بدّ لكارثةٍ بهذا الحجم ، أن تُثير الهلع ، للذين بقوا على قيد الحياة ، وأن تُصيب القسم الأكبر منهم بأضرارٍ جسيدية وتصدّعات نفسية ، وأمراضٍ عصبية ، تحتاج معالجتها إلى وقتٍ طويل . خاصة، بعد عرض مشاهد الدمار ، وصور الضحايا والمُشردين ، وتداول فيديوهات مؤثرة للناجين من تحت الأنقاض.
لكن أكثر المشاهد تأثيراً وباعثاً على الأمل في النفوس ، هو مشهد ولادة طفلة سورية تحت الأنقاض ، بعد أن لَفظت أمّها أنفاسها الأخيرة ، فكأن الحياة تُصرّ دائماً على مواجهة الموت بطرق مؤثرة ومُفاجئة .
تحدثُ الزلازل ، كنتيجة طبيعية لحركة صفائح الأرض التكتونية، هذه الصفائح تتصادم وتتباعد ، وتنزلق الواحدة عن الأخرى ، ممّا يُولّد الزلازل والبراكين بأنواعها كافة .
تنجمُ الزلازل من وجهة نظر بعض المُتدينين ، من غضب الله ، على عباده المارقين والخارجين عن طاعته ، فيلجأ مثل هؤلاء إلى الخرافة ، لمجرد الشعور بالطمأنينة ، والهدوء النفسيّ ، وسط الركام العام المحيط بهم .
لقد وَلدَ الزلزال الذي ضرب كل من تركيا وسوريا ، وطالت ارتداداته بعض دول المنطقة ، أنواعاً عديدة من الخوف الشّديد ، وأحياناً المُبالغ به ، وقد وصلت عند البعض إلى حدّ الرهاب ، والوسواس القهريّ.
لقد دفع هذا الأمر بالكثيرين ، إلى قراءة الأدعية ، وإيفاء النذوز ، ليمنعوا عن عائلاتهم البلايا والشرور ، ومنهم من تفاقمت لديه أعراض الهلع إلى حدّ لجوئهم إلى أخصائي نفسيّ للعلاج من الترددات النفسية والعصبية لمسلسل الزلازل المتواصل.
وفي حوار لمجلة الحصاد مع الكاتب والمترجم التركي محمد حقي صوتشين ،
قال فيه : “إن تفاعل الأدب والفن مع الكوارث الطبيعية ، أرّخه عدد من المثقفين الغربيين عن زلزال لشبونة الذي وقع عام 1755 حيث يعتبر ميلادًا لمقاربات جديدة في مجالات عدة وعلى رأسها الأدب واللاهوت والفلسفة والعلوم، وذلك من خلال أفكار فولتير وروسو ولايبنتس وكانط وغيرهم. ويعتبر المثقفون في كتاباتهم ، أن الكوارث الطبيعة ليست عقوبة للبشرية كما يدّعي البعض، بل هي نتاج أحداث طبيعية جيولوجية تعرّضت وتتعرّض وستتعرض لها الأرض بصورة متواصلة. لكن النّص الأكثر تأثيرًا فيما يتعلق بزلزال لشبونة، هي قصيدة طويلة كتبها فولتير تحت عنوان “قصيدة عن زلزال لشبونة”. لقد أثارت القصيدة صدمة كبيرة في الأوساط الثقافية والفكرية الغربية ليتم ترسيخ مقاربة جديدة حول الزلزال، أنه ليس قَدَرَ البشرية بل هو “موقف سياسي وأخلاقي ” يتبناه الإنسان، حيث يقول فولتير: “أملُنا أن يصبح كل شيء على ما يرام يومًا ما / لكن كلّ شيء على ما يرام اليوم: ها هو الوهم / خَدَعني الحُكماء والرب لوحده على حق.”
ويُضيف صوتشين بأن تركيا تقع على العديد من أحزمة فاعلة للزلزال، وقد تعرّضت لحد الآن لزلازل كبيرة دمرت كلا من أرزنجان عام 1939، وبينغول عام 1971، ودياربكر عام 1975، ووان عام 1976، وأرضروم عام 1983، ومنطقة مرمرة عام 1999، وأخيرًا مرعش والمناطق القريبة منها. نعرف أن الزلزال يحطم الصحة العقلية والعاطفية والاجتماعية للناس أكثر من أي كوارث أخرى. بعد الزلزال يتحول الناس إلى أنقاض بشرية ولو تخلصوا من الموت الحقيقي. والزلزال يقلب كل شيء رأسًا على عقب في حياة الناس، ومن الصعب الهروب من الدّمار النفسيّ الذي ينجم عنه. ويحاول الناس مواصلة حياتهم في أماكن جديدة في ظل ظروف صعبة خارج منازلهم تجعلهم يعانون من اختلالات نفسية واجتماعية.
يعتبر صوشين من جهته ، أن سياسات الحكومات في تركيا ، فيما يتعلق بالزلازل تزيد من صدمة الإنسان التركي وقلقه ويأسه على مستقبله. كما ينطبق علينا هذا المقطع من أغنية الفنّانة التركية سيزان آكسو التي تقول: “الناس مذنبون / والألسن مذنبة / إنه حريق العصر / العالَم بأسره مذنب / لا أحد منا بريء”
وفي سؤال عن ردة الفعل الأولى أثناء الزلزال، وكيف تلقى الصدمة وما هي المشاعر الأولى التي انتابته يقول صموتشبن :
“كنت في الكويت لمشاركة فعاليات جائزة الملتقى للقصة العربية القصيرة. تلقيتُ عند بكور الصباح مكالمة هاتفية من الأديب القدير طالب الرفاعي الذي
أخبرني بما حصل. في البداية لم أعِ مدى جسامة الزلزال لكن مع مرور الوقت أصبح الزلزال جزءا من حياتي.
وعن كيف تتوقع أن يكون انعكاس الزلزال على مستويي الادب والفن التركيين ، يعتبر صوتشين أن البلاد لا تزال في حالة صدمة. وأن الابداع قد يأتي في وقت لاحق، بعد قدرة الإنسان التركي على التعامل مع هذه الصدمة.
أمّا بالنسبة للشاعر والناشر السوري محمد طه العثمان الذي ترك سوريا ، المصابة بويلات الحرب طلباً للطمأنينة في تركيا ، وهو المقيم بين اسطنبول وهاتاي ، فقد عاش لحظات أليمة وصادمة ، بسبب تواجده في جنوبي تركيا ، في وقت حدوث الزلزال.
يصف محمد طه العثمان بصوت مُتهدج ، وحزن عميق ما عايشه في تلك اللحظات العصيبة ، لقراء مجلة الحصاد .
فيقول:” استيقظت في السادس من شباط الماضي ، على صراخ زوجتي وبكاء أطفالي ، وقد ظننت للوهلة الأولى أنها هزة عابرة ، ولكن فجأة أظلم المكان ، وبدأت الأرض تُطوى كطي الكتب ، وبدأ المنزل بالتساقط ، ممّا دفعني لعزل عائلتي في غرفة واحدة ، كي لا يموت كلاً منا بمفرده “.
ربما ساعد الحظ محمد العثمان على النجاة ، إذ وقعت أقسام البيت كافة ، ونجت الغرفة الّا من تشققات في جدرانها . لتأتي صدمة ما بعد النجاة ، إذ وجد محمد العثمان نفسه مع عائلته في مدينة منكوبة ، بيوتها مُتداعية بالكامل ، وكان صراخ الناس يتردد من بين أنقاض المنازل المُهدمة .
إنه يوم القيامة التي تصفه كتب الديانات ، يُتابع محمد العثمان ، الجميع يعيش الفقد والضياع واللاجدوى ، ويبحث عن مفقودين ومأوى .
المأساة تُعتبر أكبر على النازحين السوريين ، فالمشكلة النفسية والاحتماعية ، كانت أكبر من الموضوع الجيولوجي والأبنية المنهارة .
فالسوريون الهاربون من الحرب والموت ، عانوا الفقد وخسارة الأقرباء والعلاقات الاجتماعية ، وقد جاء زلزال السادس من شباط ، ليشردهم من جديد. إمّا بالنسبة لتأثير الزلزال على الأدب ، فيعتبر العثمان ، بأن هناك الكثير من الأعمال التاريخية التي خلّدت الزلازل والأوبئة ، كقصائد أسامة بن منقذ في رثائه لأهله بسبب الزلزال الذي ضرب قلعة شيزر ، وغيرها من الأعمال التي أضافت الكثير إلى الفنون ، وهي تتفاوت بأهميتها طبعاً. ويعتقد العثمان أن الكتابة عن الزلزال الأخبر ، تحتاج إلى زمن لاختمارها ونضوجها
سواء تعلق بالشعر والرواية والمسرح ، أو بالسينما وفنون التشكيل .