عشرة من شيوخ المسلمين يجلسون في ساحة مدينة في منطقة البوسنة في يوم ماطر رطب من العام 1913, أكثرهم تجاوز السبعين من عمره، وهم يتذكرون بلادهم الممتدة حتى إسطنبول ثم الى الحدود الصحراوية في آخر الجزيرة العربية، وهم يعتبرون البلاد جماعتهم الكبرى التي لا يمكن أن تنقسم، لكنهم يعرفون أن السيطرة التركية تراجعت من الصرب الى البوسنة ثم تراجعت الى السنجق، وها هي ذي تنحسر الى أمكنة لا تصل إليها أبصارهم، بينما هم يبقون كأعشاب مائية في أرض يابسة، ويشعرون أن الأرض تنسحب من تحت أقدامهم كبساط.
انها البلقنة، وايفو اندريتش الروائي المولود في صربيا والمتوفى في بلغراد (يوغوسلافيا السابقة) يكتب عن بلاده رواية “جسر على نهر درينا” معاينا السيطرة التركية في هزيعها الأخير ثم تقطيع الأوصال الذي أصاب منطقة البلقان فمزق البشر قبل أن يحيلها دولا ذات حدود وهوية.. ايفو اندريتش يكتب عن تغير يصيب القيم والجغرافيا والسياسة والاجتماع والدين قبل أن يصيب الأفراد انفسهم، ومن ابرز الافراد_الأبطال في الرواية “علي خجا”، إنه بين القلة الذين لم يرحلوا والذين يعاينون الوافدين الجدد الى المدينة فيرونهم ولا يرونهم، فهويحاول ألا يعترف بالجديد لكي يحافظ على بعض قوامه النفسي والحضاري، صحيح أنه سيؤول الى انقراض، ولكنه ينقرض وهو متماسك باعتباره جزءا من ماض انسحب وكان له شأنه وتأثيره، يصفه اندريتش قائلا:”إنه يهرب من بيته قبل شروق الشمس، يمضي الى حانوته فيفتحه قبل أن يفتح سائر التجار حوانيتهم. وهناك يصلي. وهناك يؤتى إليه بطعامه. حتى إذا اضجرته الأحاديث وأضجره المارة وأضجرته الأعمال، اغلق باب دكانه وانزوى في ركن صغير بآخر الحانوت كان يسميه تابوته. إنه موضع مختبئ ضيق واطئ مظلم، يكاد الخجا يملؤه كله حين يندس فيه… وفي ذلك المكان الضيق المظلم كان الخجا يسمع من خلال جدار حانوته الرقيق صخب الحياة بحي السوق، ووقع حوافر الخيل وصراخ الباعة. يصل ذلك كله إلى أذنيه كأنه يصل من عالم آخر.. بل إنه ليسمع صوت بعض المارة يقفون أمام دكانه المغلق فيقولون عنه بعض الملاحظات اللاذعة وينتدرون عليه. ولكنه يصغي الى كلامهم هادئا، لأن هؤلاء الناس هم في نظره أموات لم يسكنوا بعد. إنه ما يكاد يسمعهم حتى ينساهم في اللحظة نفسها. إنه في ملجئه ذاك بين الواح الخشب، تحميه أفكاره حماية قوية من كل ما يمكن أن تأتي به هذه الحياة التي فسدت في رأيه منذ مدة طويلة وسارت في سبيل ضالة”.
لقد ادرك علي خجا منذ زمن أنه قد قضي عليه، وأيقن بذلك كل اليقين عندما قرأ الإعلان الأبيض الذي علقه جنود امبراطور النمسا في نسخة تركية:”يا سكان البوسنة والهرسك ضعوا أنفسكم باطمئنان تحت حماية رايات النمسا المجر المظفرة. استقبلوا جنودنا استقبال أصدقاء، واخضعوا للسلطات وعودوا الى اعمالكم، واعلموا أن ثمرات أعمالكم مصونة”.. لم يطمئن الخجا منذ ذلك الإعلان بل استقرت في قلبه رصاصة باردة ثقيلة جعلته يتذوق مرارة الموت دون أن يموت”.
إنها البلقنة في وقعها على أهل التوحيد، قلوب واسعة توضع في الإمكنة الضيقة، ونفوس عراض تحشر في قنوات جديدة، وفكر كوني يوضع داخل حدود.. وحين البلقنة تصيب سكين التقسيم أرواح المخضرمين وأجسادهم، فلا يتأهلون لممارسة ولادة ثانية بعد ولادتهم الأولى وعيشهم الطويل. ليس مهما في النهايات تحميل المسؤولية، حتى لذلك الضابط التركي الذي كان يعدم الثوار بوضعهم على الخازوق، ففي النهايات لا يبقى سوى الطعم المر، وسوى استعادات حلمية لماض مضى، وسوى جسد يمارس جسديته قبل النهاية التامة.
يذكرنا “علي خجا” بالمواطن اللبناني الذي حكمته البلقنة اللبنانية بالاقامة في رقعة محددة بعد أن كان الوطن كله يضيق به.. صحيح أن أمثال “علي خجا” اللبنانيين لاقوا مصيرا أسوأ منه فلم يتح لهم أن يسمعوا الإعلانات البيضاء للاباطرة، لأن إعلانات الاباطرة اللبنانيين صبغت بدمائهم ولم تسمح حتى بالبقاء في محل تجاري يسميه صاحبه تابويا.. ولكن، ربما، هناك “علي خجا” لبناني واحد يستحق رواية عن وقع البلقنة اللبنانية ومعانيها الدموية خارج الإعلانات البيضاء.
ان بدايات البلقنة تبدأ بتسلط همجي، كما هي اللوحة الدامية لفلاح يوضع على الخازوق:
“رقد الفلاح كما امر، متجها بوجهه الى الأرض. فتقدم الغجريان وشدا يديه الى ظهره أولا، ثم ربطا كل ساق من ساقيه بحبل، وأخذ كل منهما يشد الحبل الى جهته، فتباعد ساقاه تباعدا كبيرا، بينما كان “مرجان” يضع الخازوق عل قطعتين قصيرتين من الخشب بحيث يصبح رأس الخازوق بين ساقي الفلاح. وبعد ذلك أخرج “مرجان” من جيبه سكينا عريضة قصيرة، وركع قرب الرجل الممتد، ومال عليه ليقطع قماش سرواله بين الفخذين، وليوسع الفتحة التي سينفذ منها الخازوق الى الجسم. ومن حسن الحظ أن هذا الجزء الرهيب من عمل الجلاد لم يستطع أن يراه المتفرجون. وإنما رأوا الجسم الموثوق يرتعش تحت الطعنة السريعة القصيرة، ويرتفع بعض الارتفاع كأنه يريد أن ينهض لكنه ما لبث أن سقط فجأة، فطرق الألواح طرقا اصم (…).
كان الصمت على الضفتين قد بلغ من العمق أن الناس كانوا يسمعون الطرقات ويسمعون صداها يترجع في مكان ما على الضفة الصخرية المنحدرة. وكان أقربهم يستطيعون أن يسمعوا الفلاح وهو يضرب الأرض بجبينه، وأن يسمعوا صوتا آخر ليس بالأنين ولا النحيب ولا بالحشرجة، ولا هو أي صوت من أصوات البشر كائنا ما كان نوعها. لقد كان يخرج من الجسم الممتد المعذب صرير أو صريف كأنه صوت سياج من الأوتاد يقرع بالأرجل، أو كانه صوت شجرة تكسر. والغجري يمضي الى الجسد الممتد بين كل ضربة وأخرى فيميل عليه، ليرى هل يتقدم الخازوق في الاتجاه الصحيح، حتى إذا تأكد من أنه لم يجرح أي عضو من أعضاء الحياة، عاد إلى مكانه يتم عمله(..).
لقد أدخل الخازوق في الرجل كما يدخل السيخ في الخروف لا فرق بين الامرين إلا في أن الخازوق لم يخرج من الفم، بل خرج من الظهر، كما أنه لم يصب الأمعاء ولا القلب ولا الرئتين بكبير أذى، وعندئذ رمى مرجان المطرقة، واقترب ففحص الجسد الساكن، ودار حول الدم الذي كان يتساقط قطرة قطرة قطرة من موضعي دخول الخازوق وخروجه ويتجمع بركا صغيرة على ألواح الخشب. وقلب الغجريان الجسم المتخدر فصار ظهره على الأرض، وأخذا يربطان الساقين إلى اسفل الخازوق وفي أثناء ذلك كان مرجان يفحص الرجل ليرى الا يزال حيا، وينعم النظر في هذا الوجه الذي ازداد حجمه على حين فجأة فأصبح أعرض وأكبر. لقد اصبح الرجل لا يستطيع التحكم ببعض عضلات وجهه، لذلك كان وجهه اشبه بقناع. لكن قلبه ما يزال يخفق خفقانا اصم، وما تزال تخرج من رئتيه أنفاس قصيرة متسارعة. وأخذ الغجريان ينهضانه كما ينهض خروف في سفود، وكان مرجان يصيح بهما أن انتبها ولا تهزا الجسم، وساعدهما هو نفسه في ذلك، فوضعوا الطرف الأسفل الغليظ من الخازوق بين وتدين، وثبتا ذلك كله بمسامير كبيرة ثم دعماه من الخلف على ذلك المستوى نفسه بقطعة قصيرة من الخشب سمروها بالخازوق وبأوتاد السقالات.”.