يقول جوزف بيلاتس :” نتقاعد مبكراً جداً ونموت في سن مبكرة جداً ، يجب أن تكون بداية حياتنا في السبعينات ، ويجب ألّا يأتي سن الشيخوخة حتى سن ال١٠٠ تقريباً” .
التقاعد هو مرحلة يتوقف فيها الإنسان عن العمل ، ليبحث عن حياة بديلة أو عمل جديد ، وقد يكون بالنسبة للبعض محطة للعبور نحو سباق جديد مع الحياة ، أمّا عند البعض الآخر فهو محطة للانعزال في البيوت الريفية ، بعيداً عن صخب المدن بصحبة الأصدقاء والأحفاد ، في محاولة حثيثة منهم لاسترجاع طيف الطفولة الضائعة .
فهل يُعتبر التقاعد جزءاً من الشيخوخة وترميم الأوجاع المتنقلة أم هو الجسر الذي نعبره لنركز على أنفسنا وهواياتنا المُغلفة بغبار الزمن والتعب؟
لا شك أن للعمر استحقاقاته وأمراضه ، ولكن هذا لا ينفي أن لكل مرحلة عمرية جماليتها وفتنتها الخاصة ، فبعد سنوات يقضيها الإنسان ملتزماً بقانون العمل وبالروتين اليوميّ ، يأتي سن التقاعد ليدق كالمنبه في زوايا النفس ، وليمنحنا وقتاً إضافياً ، نختبر من خلاله أعماقنا ، ونُعيد حساباتنا بدقة ، فإمّا أن نملأ الفراغ الهائل بالحكمة والتأمل من خلال القراءات المتواصلة ، أوعن طريق صقل الهوايات الرياضية والفنية ، وإمّا باللجوء إلى الله كما يُقرر البعض وذلك من خلال ممارسة طقوس العبادة المختلفة والتخطيط لزيارة الأماكن المقدسة .
من هنا فإن استجابة الأفراد ليست متشابهة في حال التوقف عن الذهاب للعمل ، فمنهم من يجد السكينة بعيداً عن التبعات المرهقة للمهنة وعن التوجيهات والوصايا وتنفيذ الأوامر ، ومنهم من يؤثر الاستمرار في عمله عن طريق التعاقد الوظيفي .
إن القسم الأكبر من المتقاعدين هم الأكثر عرضةً للمشكلات الصحية والنفسية والبيولوجية فيما بعد ، إذ يربطون بين التقاعد والشيخوخة والضعف والحياة النمطية وفقدان السلطة ، فيستسلمون إرادياً للأمراض المختلفة ، وخاصة في حال لم يتلقوا الدعم العائلي والتعويض النفسي، الذي قد يساعدهم في زيادة تقدير الذات و التخطيط لحياة جديدة ، مليئة بالمغامرة والثراء الروحي والعاطفي على حدّ سواء .
إن تقبل الإنسان لذاته ، بكافة مراحل حياته تُعتبر نوعاً من القبول بالواقع ، وعدم السماح للأفكار السلبية بالتغلب على مسار الحياة الطبيعيّ ، فقد يلجأ المتقاعد المرن للمشاركة في مختلف أنواع الأنشطة ، ومتابعة الشؤون الفكرية والسياسية التي لم يكن يجد لها الوقت الكافي خلال مسيرته الوظيفية .
وهكذا فإن الانتساب للجمعيات الخيرية أو العمل التّطوعي هو أسمى أنواع المحبة غير المشروطة أو المتناهية ،والتي تُضفي على حياة الأفراد طابعاً إنسانياً وتقلل الهوة بين مختلف الفئات العمرية ، بحيث يصبح الجميع واحداً من خلال الصفات المشتركة فيما بينهم كالتضحية والعطاء وبذل الذات .
وممّا نلاحظه في هذا السياق هو انصراف العديد من المتقاعدين ، مدنيين ودبلوماسيين وعسكريين لتحقيق ذواتهم من خلال الانصراف الى البحوث العلمية والسياسية والمعرفية المختلفة ، كما يتحول البعض منهم إلى محللين استراتيجيين وخبراء في الاقتصاد والسياسة ، متصدرين الشاشات ووسائل الاعلام ، ومتحولين إلى نجوم حقيقيين.
و علينا أن لا ننسى أن سن التقاعد يمنح الكثيرين فرصة ذهبية للسفر و التنقل بين قارات العالم و اكتشاف أصقاعه وجمالياته المجهولة ،هذا عدا عن الاستجمام والراحة وقضاء أوقات رومانسية ووضعها في إطار الذكريات ، وملأ السوشال ميديا بابتسامات ولحظات طافحة بالسحر والجمال والفتنة .
أمّا بالنسبة للأشخاص الذين يوقنون بأن التقاعد عن العمل هو المحطة الأخيرة لقطار العمر السريع ، وأنّهم الآن أمام استحقاق الشيخوخة والأمراض المتصلة بها، فهم أكثر عرضة للقلق والتوتر وهم غير قادرين على التّعبير عن أنفسهم ومعاناتهم ، لذلك فهم الأكثر استغراقاً في العزلة والتصدعات النفسية والاستسلام لهاجس الموت .
وقد يحتاج بعضهم لجلسات علاجية لتقبل الواقع المستجد ، سواء من خلال تراجع مستوى مداخيلهم المادية والتقديمات الاجتماعية التي كانوا يحصلون عليها في السابق ، أو من حيث انقطاعهم شبه الكامل عن أولئك الذين كانوا يحيطون بهم ويلتفون من حولهم بحكم الوظيفة أو المنصب ، ذلك أنهم يشعرون فجأة أنهم لم يكونوا محبوبين لذواتهم الشخصية ، بل لما يقدمونه للآخرين من خدمات .
من هنا فإن الباحثة الأميركية وخبيرة سلوكيات المتقاعد ” أوليفيا ميتشل ” تعتبر أنه من المهم زيادة سن التقاعد ، على غرار ما حصل في فرنسا التي أقرت زيادة السّن التقاعديّ ، على الرغم من الاعتراضات والمظاهرات وأعمال الشغب التي هددت أمن فرنسا لأشهر طويلة . إذ تبعاً للأبحاث التي أجرتها ميتشل فإن الانسان سيكون بحال أفضل في حال تم رفع السن القانوني للتقاعد ، وتقديم مزايا اقتصادية تُشجعه على الادخار والتخطيط والاستثمار الذكيّ ، مؤكدة من جهتها على ضرورة استغلال التعويض المالي بمشاريع مثمرة ، توفر للمتقاعد حياة آمنة وعدم الحاجة للآخرين أو الشعور بالقلق نتيجة الضغوط المالية .
وفي حديث ميتشل عن نفسها تؤكد بأنه في حال لم تتدهور صحتها للغاية ، فهي تعتزم ألّا تتقاعد مطلقاً” .
نخلص من خلال ما أوردته ميتشل في دراستها إلى أن تأثير التقاعد خطير على كل من الصحة الجسدية والعقلية ، وهو يختلف من شخص لآخر تبعاً للتوجيهات الشخصية ولناحية التكيف مع الحياة الجديدة ، وتبرز الاختلافات بحسب الجندر والبيئة المحيطة بالإنسان ، لكنها لا تخلو لدى الجميع من أعراض نفسية وجسدية . لذلك يبدو من الضروري بحسب آتشلي التخطيط لمرحلة التقاعد كما يتم التخطيط لشهر العسل ، وذلك بهدف الاستمتاع بأوقات الفراغ ، ومن ثم الاستخدام الفعّال للوقت وتقديم الأولويات ومن بعدها الشعور بالاستقرار وبناء عالم جديد ومواز يترتب عليه الاستفادة من خبرة المتقاعد وتقديم الفرص المناسبة له ، كي لا يعتقد بأن الحياة انتهت مع نهاية الدوام اليوميّ.
إن الاشكالية الأكثر طرحاً تتجلى بتدهور العلاقة بين الأزواج بعد سن التقاعد ، وذلك نتيجة الفراغ من جهة ، و بسبب تواجدهم في مكان واحد طوال الوقت من جهة ثانية ، فلقد كشفت الدّراسات أن المشاكل الزوجية تزداد بوتيرة كبيرة بعد سن التقاعد وأنّه بدلاً من الاحتفال بتحريرهم من قيود العمل فإنهم قد يحتاجون إلى علاج نفسي لتعلم كيفية العيش مع بعضهم البعض ، خاصة بعد رحيل الأبناء عن المنزل ، وهذا ما قد يتسبب بحدوث مشاكل وجدالات عقيمة بين الطرفين حول أمور تافهة ، يُضاف إلى ذلك عدم توفر المال الكافي لقضاء أوقات الفراغ في الخارج ، ممّا يؤجج الجدل والتدخل بشؤون الآخر أو اللجوء إلى الهاتف لساعات طويلة ، لقتل الضجر والشعور الممض بالملل والكآبة والصراع مع الذات .
وهذا ما يؤكد على ضرورة التخطيط المالي والنفسي لهذه المرحلة ، للتخفيف من حدّة التوتر والفراغ والاستفادة منه بمحاكاة الطبيعة والرياضة وكافة الأنشطة الثقافية والحسية والروحية ، إضافة الى الاستشفاء النفسي في حال لزم الأمر من أجل تقبل الواقع الطارئ.
” مرحباً ، أنا فقط أبحث عن عذر للتقاعد كي أتمكن من لعب دور البيسبول الصيفي ، أو الذهاب لتدريب أبناء أخي ، ولعب كرة السلة الصغيرة ، لطالما كانت لديّ هذه القدرة على الانتقال إلى الشيء التالي “. هذه الكلمات هي لدوغ فلوتي وهي بمثابة محفز للانتقال عبر الزمن والفن والأحلام إلى عالم آخر ، أكثر شفافية من الأول .
فالتقاعد ليس نهاية العالم وليس فترة استرخاء وملل ، بل مساحة أمل قد نملأها قمحاً وألواناً وموسيقى وكلمات ويوغا للتخلص من كل ما هو سلبي و جاذب للمتاعب النفسية والجسدية ، وهو اكتساب لمزيد من الخبرة وسرقة المزيد من اللحظات الثمينة من الحياة .
أمّا بالنسبة للفن فيقول هنري مور :” ليس هناك تقاعد للفنان ، أنّها طريقتك في العيش ، اذا لا نهاية له ” .
فالفن هو الرادع ضد الموت وتعويذة لا نهائية لاستبعاد الشيخوخة والضجر ، لذلك كلما ازداد الانسان شغفاً به كلما شعر أكثر بخفة الحياة وبأنه سيحيى إلى الأبد .