عادوا…. من آخر النفق الطويل إلى مراياهم …عادوا حين استعادوا ملح أخوتهم فرادى أو جماعات ….. لن يرفعوا أيديهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا ….عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم ويرتبوا هذا الهواء ويزوجوا أبنائهم لبناتهم … ويعلقوا بسقوفهم بصلاً وثوماً للشتاء .
هكذا كتب شاعرالفلسطينيين الكبير محمود درويش ما استعادوه في رحلة عودتهم من جنوب قطاع غزة إلى شماله لعيد الفلسطينيون اكتشاف ملحمته في العودة والصمود ” ملهاة النرجس ومأساة الفضة ” وهم عائدين من خيام لم تتسع لها السماء نحو ركام البيوت التي حملتها أحلامهم لخمسة عشر شهراً من أبشع أنواع الإبادة …كانوا يسجدون للأرض وللمكان ولوحي الطفولة ولما تركوا من ذكريات عادوا ليحتضنوها لينفضوا عنها غبار الصواريخ التي مزقتها بكل روح الإنتقام والكراهية ممن يعيش هاجس ملاحقة الفلسطيني وإزاحته عن هذه الأرض وإن لم يستطع فبقتله .
ارتكبت اسرائيل الجريمة الكبرى جريمة الإبادة لكنها لم تقتصر على البشر بل قامت بتجريف الحياة في المنطقة الشمالية التي عاد إليها الفلسطينيون يبحثون عن بقاياهم وبقايا بيوتهم وشوارعهم ولم يجدوا سوى الركام فمخيم جباليا الأكبر بين المخيمات الفلسطينية الذي يحتوى 116 ألف فلسطيني حولته إلى أثر بعد عين فالمشهد كان صادما للسكان الذي عادوا في ذلك الطابور الطويل سيراً على أقدامهم في رحلة مشقة عكست حجم الجريمة التي إرتكبتها قوة الإحتلال .
العودة هي حلم الفلسطيني منذ النكبة والنزوح ، و اللجوء هو هاجسه اللعين وما أن بدأ الإسرائيلي هذه الحرب المسعورة بالطلب من سكان الشمال النزوح جنوباً حتى استعادوا التاريخ القديم ولكن الدولة المتوحشة التي تمتلك فائض القوة تمكنت من خلال الترويع والتجويع من طرد جزء من سكان الشمال وهم الذين عادوا في السابع والعشرين من يناير بصفقة كان قد تدخل الرئيس الإميركي دونالد ترامب فارضاً قوة وصوله للبيت الأبيض على أطراف معادلتها حماس وتسرائيل وفي صالح اسرائيل.
روايات انسانية لم يتخيلها الفلسطيني يوماً صاحبت عودة الناس وحتى تلك الأحلام المجبولة بالدم قبل العودة عندما بدأ الكثيرون يضعون سيناريو الخوف من الفرح وكانت تلك لحظة امتزجت يها الكارثة والفرح حد السخرية ليكتب الصحفي سامي أبو سالم على صفحته على الفيسبوك ملخصاً تراجيديا الفاجعة حيث يقول ” كم نحن محظوظون في حرب الإبادة على غزة لأنه حين دمر الإحتلال منزلنا لم نكن في المنزل قبل تسويته بالأرض ولأن منزلنا من أربع طوابق هناك أناس خسارتهم بمنزل من عشر طوابق نحن أكثر منهم حظاً لأن خسارتنا أقل ….. كم نحن محظوظون لأن الإحتلال لم يقتل من أخوتي إلا واحد صحيح قتل أعمامي وأبناء عمي وأبناء عمتي وأبناء خالي الأطفال وأعدم صهرنا ووالديه لكن من الأخوة قتل واحداً فقط كم نحن محظوظون ….ويواصل قائلاً كثر يحسدوننا لأننا وجدنا جثمان أخي ويحسدوننا أكثر لأننا وجدناه بعد شهر فقط ، الوصول إليه خلال يومين فقط وهذا نحسد عليه وغيرنا يبحث عن جثامين أحبته منذ أكثر من عام ومحظوظون لأن الكلاب الضالة لم تنهش جسد أخي لأنها لم تستطع الوصول إليه تحت الكتل الإسمنتية ومحظوظون لأننا وجدنا قبراً ندفن فيه أخانا الشهيد “
تلك واحدة من قصص الوجع التي أفاق عليها سكان شمال قطاع غزة العائدين فقد عاد نافذ عكاشة إلى حي القصاصيب غرب مخيم جباليا باحثاً عن بيته ليحده مع كل أبنية الحي قد سويت بالأرض وأن المنطقة تبدو منطقة أشباح بالكاد تمكن من رؤية أربعة من أفراد الحي عادوا مثله ليجلس على ركام المنزل ويشعل نار الحطب يتدفئون بها ويصنعون الشاي بعد أن أجروا جولة متعبة فيما تبقى من بيوت الحي المهدمة باحثين عن بقايا أشياء تمكنهم من الفوز بكأس شاء ساخن أعدوه فوق الحطام وحين سألت قال هذا بيتي سأبني فوقه خيمتي وأبقى .
البقاء هي كلمة السر العميقة في عقل الفلسطيني والتي رافقته على امتداد تاريخه الدامي لا هدف له إلا البقاء حياً صامدا بكل فداحة التكلفة وهو يقاتل عدواً في غاية الوحشية استعمل ضده أحدث وسائل التعذيب والقتل بكل أشكال الموت سريعها وبطيئها بالأسلحة الغبية والذكية بالذكاء الإصطناعي والغباء الأيدلوجي المدجج به مع مجموعة الأساطير المؤسسة قديمها وحديثها ومع كل هذا بقي الفلسطيني منغرساً في جذور المكان يبني عشه فوق أنقاض المنازل وأنقاض الضمير العالمي الذي شهد موته بالبث الحي والمباشر .
اسرائيل دولة ماكرة وحين يتعلق الأمر بالفلسطيني تستدعي كل ما لديها من مخزون الدهاء لصناعة واقع يمهد لأهدافها فلا شيء عرضي في الوحشية الإسرائيلية ويمكن القول أنها وحشية منظمة تسير وفق خطط مرسومة بدقة تسير هذه الخطط على فوهة المدافع والصواريخ وأجنحة الطائرات والدبابات ففي الأيام الأولى طالبت اسرائيل سكان شمال غزة بالإنتقال جنوباً بعد تقسيمها إلى قسمين وقد بدأ يظهر ما الذي أرادته مبكراً حتى بعد عودة السكان للشمال فالطرد ثم تدمير الشمال وخطة الجنرالات كلها جاءت في سياق واحد .
بعد العودة اكتشفت الناس أن المكان لا يصلح للحياة الآدمية فلا بيوت ولا كهرباء ولا ماء ولا شوارع ولا مستشفيات فقد دمرت جميع البنى التحتية لتجعل الحياة مستحيلة إذ يكتب أحمد المقيد من سكان جباليا ” إضطررنا لإحضار الماء من مدينة غزة سيراً عل الأقدام حملنا جالون الماء لمسافة تعادل أربعة كيلومترات أو خمسة ، كم كانت ثقيلة لأن لا قطرة ماء واحدة في الشمال ” وطبعاً لا شبكة انترنت ولا شيء لكن ما يثير هو ما يتسرب عن نقاشات ما قبل الصفقة والعودة بأن ستيف ويتكوف مستشار الرئيس الأميركي ومهندس الصفقة كان قد أعطى نتنياهو وعداً بمنع إعمار الشمال … كل المسارات تؤدي إلى طريق واحدة لا حياة للفلسطينيين في شمال قطاع غزة .
ما علاقة هذا الأمر بالبرنامج المعلن للرئيس ترامب بتهجير الفلسطينيين أو 60% من سكان قطاع غزة وما علاقته بقيام اسرائيل بنفس الوقت بإجتياح مخيمات الضفة الغربية مخيم طولكرم ونور شمس ومخيم جنين وتجريف الأخير وإخلائه من السكان وهدم البيوت هناك ؟ وما علاقة مخيم جباليا بالأمر ؟ بات من الواضح أن هناك تصوراً اسرائيلياً بأن المسألة تتلخص باللاجئين الفلسطينيين في الضفة وغزة ويبدو أن ترامب يحمل هذا التصور ويبدي استعداد لخلق واقع وفق المشاريع والرغبة الإسرائيلية والمصالح العليا لإسرائيل كدولة تمثل المشروع الغربي دون التعاطي مع التطلعات الوطنية الفلسطينية .
إذن يبدو أن ال60% هم اللاجئين في غزة الذي يريد ترحيلهم ومعهم الضغط على لاجئي الضفة في المخيمات ” يشكل اللاجئون في الضفة الغربية 20% من سكانها لذا ليس من المصادفة أن تتركز المقاومة في المخيمات وفي طليعتها مخيم جنين وبهذا يبقى في الضفة وغزة من هم غير اللاجئين وهم الوطنيون الفلسطينيون لكن ليس لديهم مطالبات بحق العودة كونه لم يجر طردهم من المدن والقرى الفلسطينية إبان النكبة وبالتالي هم على أرضهم وفي مدنهم
هذا يتقاطع طبعاً مع مقدمات السنوات السابقة من ملاحقة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات الشتات وتدمير مخيم نهر البارد في لبنان وعدم إعادة إعماره رغم مضي كل تلك السنوات وإقحام مخيم اليرموك الأكبر في مخيمات الشتات في الأزمة السورية وتشتيت سكانه معظمهم وصل أوروبا وتحديداً ألمانيا وأصبحوا مواطنين ألمان ومنهم من استقر في تركيا وباقي دول أوروبا .
لا يمكن عزل ذلك عن مقدمات اسرائيلية بالتحريض منذ سنوات على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين وتشير الوقائع أن بنيامين نتنياهو عقد قبل ست سنوات إجتماعاً وزارياً لمناقشة بند واحد على جدول الأعمال وهو إلغاء الوكالة وتحويل اللاجئين إلى المفوضية العليا للاجئين قبل أن ينصحه مستشاروه بأن وظيفة الأخيرة هي إعادة اللاجئين قبل أن يصرف نظر ويحول الأمر بإتجاه إلغائها وهو ما فعله قبل أربعة أشهر ودخل حيز التنفيذ مطلع شباط هذا العام وإغلاق مكاتبها في القدس ووقف نشاطاتها ويصل الأمر للمساعدات وعدم التعامل مع حساباتها المالية ومنع أية تحويلات من خلال البنوك الإسرائيلية أي تشريع تجفيفها وتلك ليست مصادفات بل مشروع طويل الأمد تعرف فيه اسرائيل ما الذي تفعله بالضبط وتتكامل في الكنيست مع الضغط الاميركي والكونجرس والدبابة على الأرض في الشمال ومراكز الدراسات كل هؤلاء وغيرهم يتحدون في مشروع واحد كل يلعب دوره بإتقان وصولاً للهدف النهائي .
هل يمكن أن تكتمل صورة جريمة قادمة أكثر لا تقل فداحة عن الجريمة الاولى ؟ كل المؤشرات والمعطيات السياسية تشي بذلك في ظل الفعل المنظم الذي يجري بخطوط ساخنة بين تل أبيب وواشنطن لكن لقاء الرابع من شباط بين بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأميركي دونالد ترامب شكل نقطة تحول خطيرة هي الاكثر وضوحاً في المخططات التي تعدها وأعدتها اسرائيل أخرّها نتنياهو كهدف معلِناً أهدافاً أخرى لكنه على الأرض كان يمهد لها بما يمتلكه الجيش الإسرائيلي من عتاد وكان واضحاً من سياساته التي كانت ترفض نداءات المؤسسة العسكرية بإيجاد بديل لحكم حماس بغزة وخاصة السلطة لسبب واضح أن وجود أي حكم لغزة خارج حماس كان يعني بالنسبة له استمرار وجود الناس هناك ونزع مبرر استمرار الحرب لذا كان يرفض كل محاولات الوسطاء لوقف الحرب وأعاق كل المحاولات للوصول لصفقة لأنه لم يكن حينها قد أكمل مهمته بعد وهي جعل قطاع غزة طارداً للبشر لذا كان يحتاج كل هذا الوقت لإستكمال عملية التدمير .
حديث ترامب عن التهجير تجاوز مسألة التفكير نحو لغة عملية تكتسي طابع البلطجة السياسية التي تدعو للقلق وهو يعطي ما يشبه الأمر لمصر والأردن باستقبال فلسطينيي غزة كحل بات يراه الحل النموذجي الأمثل وهنا يجب الإشارة لمشاريع ترامب الإقتصادية لغزة كمنطقة عقارية مهمة استثمارياً مع المشاريع الإسرائيلية بتفريغ قطاع غزة من السكان أو تخفيف سكانه للحد الادنى ومصدر القلق أننا نتحدث عن دولتين تملكان من ممكنات القوة ما يمكنهما من فرض رؤيتهما على محيط عربي يبدو بهذه الهشاشة .
فردورد الفعل العربية الخجولة أو المذعورة بهذا الشكل تفتح شهية ترامب أكثر نحو فرض رؤيته على العرب وفقد وصل في وقاحته السياسية أن يشير لدول عربية أخرى لتمويل هذا المخطط أي أن مخطط ضرب الأمن القومي العربي سيتم تمويله عربياً دون أن تدفع الولايات المتحدة أو اسرائيل التي هدمت في غزة ولبنان تبعات هذا الخراب بل يجري مكافأتها على ذلك وهذا ما يجب أن يستفز الحالة العربية لتبدأ بالإنتقال من عصر الهيمنة والإستقواء نحو عصر استدعاء عناصر القوة العربية في مواجهة ما يتم التخطيط له وهناك نماذج كندا والمكسيك اللتان أرغمتا ترامب على التراجع فهل سنشهد مواقف عربية صارمة أم سيستمر مسلسل الإستهانة بالعرب كما درجت العادة ؟