محارق اليهود الاروبيين أثناء الحرب العالمية الثانية تكاد تغيب عن الإعلام بعدما ورثت إسرائيل دور النازيين و جددته في قطاع غزة . و سبق أن تقدمت صورة المحارق باعتبارها الأكثر فظاعة في مآسي حرب دفعت ثمنها الباهظ شعوب أوروبا.
شاهدت فيلما وثائقيا معادا عن المحارق ،انتج في سبعينات القرن الماضي. و التعليق على الأحداث بصوت الممثل المسرحي لورانس اوليفييه ( قبل وفاته طبعا)
مشاهد مؤثرة لابرياء يساقون إلى الموت في غرف الغاز في اشفيتز و في مدن أخرى ، فضلا عن مقتلات يهود آخرين في بلاد احتلها النازيون ،خصوصا ليتوانيا مسقط رأس شمعون بيريز ( المسؤول الأول عن مجزرة قانا الأولى في جنوب لبنان ).
كيف لا يستدعي الضحايا اليهود مشاهد أبرياء آخرين قتلوا في دير ياسين و كفر قاسم و حولا اللبنانية ،فالضحية واحدة ايا كان انتماؤها و القاتل واحد إلى أي عقيدة انتمى.
يخيل لمشاهد الفيلم الوثائقي ان هتلر انتصر في الحرب العالمية الثانية ، و إن دم الضحايا ذهب هدرا ، في حين أن المنتصر هو الحلفاء ، اي الدول الديمقراطية (في وجهيها الاشتراكي و الرأسمالي ) . هذا الانتصار لم تترجمه الحركة الصهيونية ، إنما تصرفت كأن هتلر انتصر فصار لزاما نقل اليهود من أوروبا إلى بلد آخر اسمه فلسطين ،فيما المنطق أن الضحية انتصرت على الجلاد ،وصار الاعتراف بمواطنة اليهود في أوطانهم الأوروبية جزءا لا يتجزأ من الانتصار.
قال أحد الشهود : ‘انا ألماني يدين باليهودية ،لكن النازيين أصروا على أنني غير ألماني ،لكنني ألماني و أعتبر نفسي كذلك”. مشكلة الانتماء هذه تتفاقم في عالمنا اليوم ،والحركة الصهيونية (و الحركات المماثلة لدى الأديان الأخرى) تخاطب الشاهد أو أمثاله :انت يهودي ،اذا انت إسرائيلي و لست ألمانيا أو فرنسيا أو روسيا أو غير ذلك،
في أي حال ينبغي الاعتراف بأن معظم يهود العالم يعتبرون إسرائيل رمزا ،حتى عندما يرون مظالمها ،لكنهم يختلفون على طبيعتها : اتكون قلعة حربية أم بلدا آمنا متعاونا في منطقة آمنة؟ هنا تتداخل مصالح السلطة الإسرائيلية المتعسكرة القائمة على كيمياء الخوف والتخويف مع مصالح قوى عظمى لا تريد للمنطقة العربية الاستقرار و النمو و مع مصالح فئات عربية احترفت سيادتها في أجواء الحروب.
القراءة الإيجابية لصور المحارق اليهودية في أوروبا لا يمكن أن تصب في مصلحة النهج العدواني في إسرائيل و ربما يصب إنكارها في مصلحة هذا النهج،
.و ها أن مأساة غزة المتلاحقة تضع ضحايا المحرقة الأمانية لليهود في موضع نقيض .هنا الضحية جلاد و أكثر قسوة و احترافا. و قد أصبح المشهد الغزي المأساوي على مائدة كل بيت في عالمنا محدثا شروخا في الضمائر و بشائر تغيير لم تتم بعد.
باسم النبريص، كاتب فلسطيني من غزة ،عاش أيام الحصار و الضربات الإسرائيلية و كتب هناك يومياته،من الأحد ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨ إلى الاثنين ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩ ،جمعها كتاب عنوانه ” يوميات الحرب على غزة “،نشرته دار التوباد التي يرعاها في تونس الشاعر خالد النجار.
نقتطف منها :أنام كالقتيل، و اصحو على اخبار مفجعة.لا شيء يفاجئني .فكلما اقترب موعد الإتفاق السياسي، تغولوا كالبهائم .كالبهائم يا باسم؟ كم تتعهر اللغة على أيدي الكتابين ! لا والله حرام . لا يصح .اشرس بهيمة في الأرض لا تعادل شراسة مجندة فائقة الجمال و الترف ،و لاوحشية زميلها المجند “السكسي” ، و هما يتابعان على شاشة حاسوب ،ربما من المجدل أو حتى من مدن أبعد،ذلك المواطن البائس،الذي جاء عليه الدور و الحظ ،فوقع عليه ميكروسكوب طائرتهم ،ليقصفوه بصاروخ . يقصفونه بصاروخ فيتقطع أربع أو سبع قطع،كما رأيت بام عيني. فأيهما أشرس و اوحش؟الأسد الجائع مثلا،أم زهافا و ياكوب و هما يضغطان فقط على زر،و يقتلون عن بعد ،كأنها لعبة لوغو،فيشطبان حياة من حضن أهلها و مواطنيها؟(…]
متى تأتي السخرية . متى تدخل في اسلوبي،فارتاح من ثقل هذا الحمل ؟ آه لو أستطيع أن أتهكم.حينها فقط أكون ندا. أما إذا جروني إلى شروطهم هم ،فلم تبرح كتاباتي تمتح من بئر الانفعال ، فقد انتظروا علي. انتصروا على “الكاتب” في . كلا لن أسمح لهم ، حتى لو متلأت العينان بالدم. إنما مصيبتي هي في عدم القدرة على وضع مسافة بين سخونة الحدث و برودة الكتابة . و مع هذا ليساعدني أحدهم ،و لأحاول.
سأحاول ، و لتغفري لي يا دماء الذبائح .ثمة وقت لنكتبك، أفضل من وقتنا المضغوط هذا.
ماذا نسمي الليلة التي بلا ذرة نوم؟ ليلة بيضاء على رأي تشيخوف؟ كلا أنا أقل تفاؤلا، و أكثر شقاوة و موضوعية . أقترح : ليلة حمراء! استيقظ الأولاد من نومهم ، و ما زلت أكتب على الشاشة . إنها السادسة و النصف و دقيقة الآن. و لماذا لم انم بعد . و لهذا تروني اكتب ما أزال ، فماذا أعمل ؟ إني أزجي الوقت بالتكتكة على الأزرار، فذلك أهون ألف مرة، من التقلب على شوك الفراش.
فقدت تلقائيتي في الكتابة، ففقدت بذلك التكيف و التلميح بدل التصريح . لقد أكتشفت متأخرا أن المخيلة هي التي تلمح و تكثف،أما العقل فهو الذي يصرح و يستطرد، بل قل يثرثر، كما لو كان عجوزا خرفة. هذه هي إحدى خسارات الحروب : موت المخيلة”.
و ليس من ماض لما يبدأ مجددا مع كل لقاء. نطوي صفحة غزة التي لا تنطوي و نترك باسم النبريص لاستشرافاته
و تعجز ذاكرتنا إذ نفتح الحب او نجدد افتتاحه. وحدنا نقص الشريط داخلين إلى فراغ نؤثثه بجسدينا.
(لا باقة ورد فالهدايا تأكيد لحب لا يحتاج تأكيدا)
و الرؤية غائمة كلما دخلنا في التجربة.
وجهك المكتمل وحيدا في غرفة لا تكتمل. الصور مركونة لم تعلق بعد.و الكتب في زاوية ثانية، و مشجب للملابس القليلة، و طاولة تتكاثر عليها اليوميات و إنذارات البنك.
(وقت الحب يعلو على أعراض اليومي الكثير الوطأة)و لا مواعيد لأن الأعمار قصيرة و العيش ملتبس و دخان الحرب يمنع الرؤية.
(يكثر الحب في الحرب و يتخذ أشكالا لا يعرفها المحبون أيام السلم )
و لا مرايا سوى الوجهين يلتقيان. نتلمس بالأنامل آثار الغياب و تراخي الجلد و نترك للعيون قراءة الروح بين لقاء و لقاء.
(حساسية الأعمى لأناملنا، و لها إمكانية تعبير ابلغ من الكلام)
لا حب ممكنا سوى هذا القليل ، يكفينا، لأنه حبنا لاشبيه له و يشبهنا وحدنا.
( يبقى من الحب طعم يسمونه حلاوة الروح)
و لا كلمات لهذا الحب الذي يفيض عن لغة مستعملة.
(لا وقت لابتداع قاموس للحب من خارج المتداول. الأفضل تخصيص الوقت للحب نفسه، و لا ضرورة للبوح فلكل اثنين حبهما الخاص اذا أحبا)