الخصومات الأدبية… قراءة موضوعية

 عرف أدبنا العربي مناظراتٍ ومنازعاتٍ وخلافاتٍ وحتى حروباً كثيرة بما يصدق عليها كلها في المصطلح (الخصومات الأدبية) منذ عصر ما قبل الإسلام وحتى يومنا هذا. نعم قد تخبو نارها قليلا وقد تستعر لكنها كانت وما زالت باقية. إلا ان الاختلاف بين ما مضى وما أصبحنا عليه هو أن جوهر الاختلاف والخصومة انتقل من واقع الوعي الأدبي الحقيقي لواقع آخر اختلطت فيه المشاعر الشخصية والسياسية بالمتداخلات الأدبية؛ وهذا ما يمكن أن نلاحظه على خصومات زمننا الأدبية إنْ صحت تسميتها بالخصومات الأدبية.

فمن منا لا يعرف خصومات جرير والفرزدق وما جرى بينهما من قصص ووقائع كان نتاجها دررا شعرية عززت ترسانة الشعر بقيم فنية جوهرية جديدة.

نعم نحن مع الخصومات الأدبية التي لا تعبر عن دواخل النفس بقدر ما تستثير الشعراء والأدباء والفنانين لاستخراج إمكانياتهم الفنية والأدبية. فهي أشبه بالمحفز الذي يثير تفاعلات الأديب والشاعر ليستخرج أفضل وأحسن وأجمل ما لديه.

فعلى سبيل المثال لا الحصر لما بلغ جرير موت الفرزدق قال فيه:

مات الفرزدقُ بعدما جدّعتُه

ليت الفرزدق كان عاش قليلاً

ثم سكت طويلاً وبدأ يبكي بكاءً شديداً، فقيل له (أتبكي على رجلٍ يهجوك وتهجوه منذ أربعينَ سنة؟)، فقال (إليكم عنّي، فواللهِ ما تبارى رجلان وتناطح كبشان، فمات أحدهما، إلا وتبعه الآخر عن قريب): ثم أنشأ مرثيته الشهيرة للفرزدق:

فُجِعنا بحمّال الدِّيات بن غالبٍ

وحامي تميمٍ عِرضِها والبراجم

بكيناك حِدثان الفراق وإنّما

بكيناك إذ نابت أمور العظائم

فلا حمَلت بعد ابن ليلى مُهَيرةٌ

ولا شُدّ أنساعُ المَطيّ الرّواسم

نعم هكذا كانت الخصومة الأدبية. فهي تلتزم إطارها الأدبي ولا تتعداه للأمور الشخصية.

والخصومة لغة هي الجدل والنزاع. وفي المعجم أنَّ خاصمه جادله ونازعه ويقال تخاصم القوم واختصموا تجادلوا وتنازعوا. ويقال للخصم خصم سواء أكان مفردا أم مثنى أم جمعا مؤنثاً كان أو مذكراً لأنه مصدر.وخاصَمَه خِصاماً ومُخاصَمَةً فَخَصَمَه يَخْصِمه خَصْماً غلبه بالحجة.

وقد تأتي معاني الخصومة على النزاع والقضاء والانقطاع والمنافسة والمزاحمة. لأن الخصومة قد تؤدي الى النزاع وربما القضاء كما قد تؤدي الى انقطاع الصلة فيما بين المتواصلين بسبب المزاحمة أو المنافسة.

وهناك مصطلحات عدة قريبة من هذا المعنى مثل الجدال والمراء والمحاورة والمناظرة. فالجَدَلُ هو اللَّدَدُ في الخُصومةِ والقُدرةُ عليها فجادَلَه خاصَمَه مجادَلةً وجِدالًا. وهو يشمل مُقابلة الحُجَّةِ بالحُجَّةِ، وقد يسمى خصومةً لشِدَّتِه. أما المِراءُ من التَّماري والمُماراةُ  فهو المُجادَلةُ على مذهَبِ الشَّكِّ والرِّيبةِ وكَثرةُ المُلاحاةِ لبيانِ أغَلاَطِ الغير وإفحامِه بقصد التَّرفُّعُ. بل قد ذهب الجرجاني لأكثر من هذا بقوله ان (المِراءُ طَعنٌ في كلامِ الغَيرِ لإظهارِ خَلَلٍ فيه من غيرِ أن يرتَبِطَ به غَرَضٌ سِوى تحقيرِ الغيرِ).

أما المُناظرة فهي نظر الحس وبصره، حيث ينظر كل منهما إلى صاحبه بعين البصر والمقصود التفكر والتأمل في الأدلة والحجج والأقوال بعين البصيرة. لذلك نرى الراغب يعرفها بأنها (المباحثة والمباراة في النظر واسْتِحْضَارُ كُلِّ ما يَرَاهُ ببصيرته).

وعلى ذلك يمكن لنا ان نقول ان الخصومة هي خلاف بين اثنين أو أكثر حول قضية ما قد تؤدي الى النزاع أو الانقطاع وربما الى ما هو أكثر من ذلك. أما المناظرة فهي في واقعها محاولة الاشتراك مع الغير في دراسة مجموعة من الأدلة والحجج والبراهين لاستخراج مركّبٍ نظري مشترك.

إلا ان الخصومة الأدبية كما هو مصطلح عليها هي مباراة بين اثنين أو أكثر في صنف من صنوف اللغة أو الأدب بغرض التنافس على الأفضل والأحسن والاجمل وهي ذات قيمة جوهرية فريدة كونها أثرت وتثري الأدب بأقسامه كافة.

ومن هنا نرى كيف استعمل القرآن الكريم ألفاظ الخصومة وما يقاربها من ألفاظ تدور بنفس فلكها مثل الجدال والتنازع والاختلاف. ولأنها في الأصل تتعدى الموضوع والحالة الناشئة من أجلها فالقرآن ينظر الى الأسباب الحقيقية وراءها. فأسباب الخصومة في مفهوم القرآن هي في حقيقتها نفسية داخلية مثل الظلم كقوله تعالى في قضية الخصم التي تعرض لها نبينا داوود عليه السلام مثل قوله تعالى (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ.إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ. إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ). فقوله ظلمك يعني ان الظلم من الأسباب الرئيسة لموضوع الخصومة.

أما السبب الثاني للخصومة فهو بقصد المخالفة وإن كانت على علم كقوله تعالى (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ).

أما بالنسبة للمجادلة فهي على نحوين في القرآن الأول إيجابي كونه يهدف للوصول الى الحق، مثل قوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ). وقوله (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). وقوله (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). والثاني إنما يهدف الى المخالفة والتكذيب ليس إلا رغم وجود الحجج والبراهين الكافية. كقوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). وقوله (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ). وقد استعمل القرآن الكريم لفظ التنازع في الاختلاف حاثا على تجنبه لأنه يفضي الى الفشل كما في قوله تعالى (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

كما حثَّ على عدم الاختلاف مبيناً أنَّ منشأه في الأصل هو البغي والظلم وهي دوافع في حقيقتها نفسية وداخلية حيث يقول (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).

ويمكن أن نوجز مفاهيم القرآن الكريم في موضوع الخصومة والتنازع والجدال وأشباهها بأن مصدرها الأنا والحسد مثلما يذهب العرفانيون والمتصوفة والزهاد الذين ذهبوا الى القول ان منشأ كل الضغائن والاختلافات والذنوب هو (الأنا) و(الحسد) فلو تجرد الانسان منهما أصبح جوهرا كاملا للإنسانية الحقة التي أرداها الله منه.

وفي موضوع الخصومات الأدبية لا شك أن المحرك الأساس فيه هو الفن واللغة والابداع ليس إلا وليست دوافعه النوازع النفسية والشخصية لذا من الأفضل تسميتها بالمباريات الأدبية.

لذا فكل خصومة كانت دوافعها شخصية ونفسية لا يمكن أن تنتمي للمباريات الأدبية كونها لا تعبر عن مقاييس الفن الأدبي ومعاييره وضوابطه. وخير مثال على ذلك ما جرى بين المتنبي وأبي فراس الحمداني التي وصفها أرباب السير والتاريخ على أنها أشهر المعارك الأدبية؛ إذ اتهم أبو فراس المتنبي بأنه يسرق شعر الآخرين وكان ذلك بحضرة سيف الدولة. فأجابه المتنبي بقوله:

أعيذها نظراتٍ منكَ صادقةً

أن تحسب الشحمَ فيمن شحمُه ورمُ

فضج أبو فراس وقال له من أنت يا دعيِّ كنده حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه؟ فلم يردّ المتنبي عليه وواصل أبياته قائلاً:

سيعلم الجمعُ ممن ضَمَّ مجلسُنا

بأنني  خيرُ من تسعى به قدمُ

أنا  الذي  نظر  الأعـمـى  إلى  أدبي

وأسمعَت كلماتي من به صممُ

فأزداد أبو فراس غيظًا وردَّ عليه قائلاً: قد سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد حيث يقول:

أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت

دهرًا وأظهرت أغرابًا وإبداعًا

حتى  فتحتَ  بإعجازٍ  خُصصتَ به

للعُمي والصمِّ إبصارًا وإسماعا

وعندما زاد الجدال وعلت الأصوات غضب سيف الدولة ورمى المتنبي بالدواة حتى أصابت جبهته وجرحتها، فرد المتنبي على سيف الدولة قائلاً:

إن كان سرَّكم ما قال حاسدنا

فـمـا  لجـرحٍ  إذا  أرضـاكـم  ألــمُ

وحينها عاد أبو فراس واتهمه بسرقة البيت من بشار بن برد في البيت الذي يقول فيه:

إذا رضيتم بأن نُجفى وسرَّكمث

قـولُ الوشاة فـلا شـكوى ولا ضــررُ

غير ان سيف الدولة أنهى الجدل بعد بيت المتنبي الأخير فقبّل رأسه في محل الجرح الذي أصابه.

ولم يقتصر الأمر على العصور المتقدمة فحسب بل لقد كان للعصور المتأخرة دور أيضا في المباريات الأدبية والشعرية التي نقلتها صفحات الإعلام بصنوفها كافة. فمن منا لم يسمع بخصومات العقاد وطه حين والرافعي وغيرهم. بل ان الأمر تعدى المقالات الى تأليف الكتب كما فعل الرافعي بتأليفه كتاب (على السفود) ردا على العقاد وقد أغلظ عليه القول. وذلك بعدما انتقده العقاد وادعى ان كتاب الرافعي (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) مسروق من سعد زغلول.

وغير بعيد عن هذا العصر لا يغيب أيضا عن البال الخصومات الشهيرة التي جرت ما بين الشاعرين العراقيين الكبيرين الرصافي والزهاوي. فبعد ان سطع نجم الرصافي في الشعر على الساحتين العراقية والعربية هاجمه الزهاوي متهما إياه بالجهل بعلوم العصر؛ الأمر الذي جعل الرصافي يرد عليه بقصيدة هجاء لاذع طويلة منها قوله:

قل للزهاوي إني كنتُ لاقيه

مقالةً كان فيها بادي الحذرِ

لقد بلعتَ علوم العصر قاطبةً

بلعا تضيق له بالوعةُ القَذَرِ.

والزهاوي هو الآخر لا يخفي غيرته من الرصافي في مواضع كثيرة منها ما هو المشهور من أبياته التي قالها في استقبال الرصافي بعد عودته من منفاه قائلا:

لقد عاد معروف أخي بعد غيبةٍ

 فأهلاً بربِّ الفضل والأدب الوفرِ

كلانا يريد الحقَّ فيما يقوله

وإني وإياه إلى غايةٍ نجري

فخذ بيدي اللهم في كل دعوةٍ

وهذا أخي معروف اُشدد به أزري

وقوله اشدد به أزري نبز يشير لعلو قدره وأنه في المقام العالي والرصافي يأتي بعده وهذا أغاظ الرصافي وجعله يخرج من الحفل مسرعا.

ورغم كل هذه المساجلات والمباريات إلا اننا لم نشهد للضغائن والاحقاد دورا أبدا فيما بين الشاعرين وان كل ما كان بينهما ما هو إلا في إطار الشعر والأدب تماما كما كان ما بين جرير والفرزدق.

فعندما سافر الزهاوي إلى مصر استقبله الرصافي بقصيدة حارة قائلا:

أرى بغداد من بعد اغبرار

زهت بقدوم شاعرها الزهاوي

زهت بكبيرها أدباً وعلماً

زهت بطبيب علتها المداوي

كما أنه وقف على قبره باكيا ورثاه بأطيب الشعر وأبلغه حيث قال:

أيها الفيلسوف قد عشت مضنى

مثل ميت وصرت بالموت حيا

ما حياة العظيم إلا خلود

بعد موت يكون للجسم طيا

سوف يبقى بين الورى لك ذكرٌ

 ناطقٌ بالبقاء لم يخش شيا

أنت فرد في الفضل حيا وميتا

حزت في الحالتين ذكرا عليّا

سوف أبكي عليك شجوا وإني

 كنت أبكيك في الحياة شجيا.

نعم كل الذي كان يجري على ساحات المعارك الأدبية وكان أبطاله فرسان من قوميات وعقائد شتى تعايشوا في المنطقة العربية مسلمين ومسيحين ودروزا وإيزيديين وغيرهم كانت قضيتهم الإبداع في بُعديه الفني والتجديدي. وهي دعوة صادقة لأدباء وشعراء وفناني هذا العصر في ان تكون الاختلافات الموضوعية والتنافس الشريف والحر فيما بينهم معياراً للفن والإبداع من أجل التجديد.