النقيب ربيع بعلبكي: “من المهم في ظل وجود التكنولوجيا، أن لا يُنتزع القلم”.
تبرُز الحاجة لتغيير مناهج التعليم في المدارس كأمر ملح وضروريّ في هذا العالم المتغيّر، والمنفتح على الثورة المعرفيّة الرابعة وأدوات الذكاء الاصطناعيّ، ويقف الإنسان أمام تحدّ كبير، يجهل الكثير من خفايا هذا العلم المستجدّ والمتسارع، والذي يُهدد بإقصائه عن الكثير من المهن، فهل يبقى متفرّجًا؟! وهل تتفوق الآلة على مشغّلها، وبالتالي المزيد من التغريب النفسيّ والفردي في المجتمعات التي خسرت الكثير من اجتماعياتها؟
للحديث عن دور الذكاء الاصطناعيّ في تغيير منهجيات التعليم، وعن دور الإنسان في هذه الحقبة التي لا يُسعف فيها الانتظار، التقت الحصاد بالنقيب ربيع بعلبكي، رئيس نقابة تكنولوجيا التربية في لبنان.
الذكاء الاصطناعي والتعليم ثورة معرفيّة
يُشير النقيب ربيع بعلبكي إلى الدور الكبير الذي يساهم فيه الذكاء الاصطناعيّ في تطوير المناهج التعليميّة، ويلفٌت إلى أنّ؛ القواعد المتعلقة بالمدى والتتابع للمناهج، وصفات المتعلّم، والأهداف هي من اختصاص وزارة التربية، وهي مُناطة بالمركز التربوي للبحوث والإنماء، والتي هي حاليًا في مرحلة الـ Scope &Sequence.
ويؤكّد بعلبكي، أنّ الذكاء الاصطناعي” يساعد في تأليف كتب، وتوليد محتوى متكامل بناء على هندسة عمل الخوارزميات ومنها يولّد صورًا ومحاكاة تفاعليّة، ولكم من الضرورة وضع هذه القواعد للمدى والتتابع الأفضل عبر تقديم نموذج درس، وبذلك بإمكانه أن يتولّى مهمّة التأليف وبكافة خصائص التصميم، بحيث يخدم المناهج والكتب التعليميّة والتدريسيّة بما فيها assessment التقييم والتقويم، وبما فيها الأنشطة والمشاريع.
وإذا ذهبنا أبعد من ذلك نقصد به التعليم القائم على المشاريع والتعليم القائم على التحديّ. لأن الذكاء الاصطناعي له محطات مختلفة في الاستخدامات، إن كان من ناحية البحث وتوليد المحتوى، أو كان من ناحية المحتوى التفاعليّ للنمذجة، ونتحدث هنا عن محاكاة افتراضيّة وصور ومقاطع فيديو وصوتيات، وأمور متعلّقة بالذكاء الاصطناعي وموارده الغنيّة. “
ويُضيف: ” يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يكون في خدمة المناهج التعليميّة، وتسهيل عملية التعلّم والتعليم أيضًا، حتى أنّها ممكن أن تتضمن أحدث المنهجيات التدريسيّة، وبخاصة التعليم القائم على المشاريع، وما يسمى STEAM وهو Integration التكامل ما بين العلوم والتكنولوجيا والهندسة والفنون والرياضيات والتي هي منهجية مبتكرة تُربي على الابتكار ومهارات التفكير العليا، والتصميم التفكيريّ والابتكاريّ، وتربط ما بين احتياجات سوق العمل بالثورة الصناعيّة الرابعة، وما بين مُدخلات التعليم الأكاديميّ، والتعليم عبر الأهداف، والكفايات، لأن التعليم عبر ذلك يسمح لنا بالدمج ما بين المعرفة والمهارة، وما بين المواقف والقيَم، بطريقة فعّالة حتى يمكننا القول أن لدى التلميذ الكفاية اللازمة من الابداع إلى الابتكار إلى الريادة”.
ويوضّح أنّه في العالم العربيّ: “هناك دول فرضت الذكاء الاصطناعي كمادة أساسيّة في مناهجها؛ مثل: قطر والسعودية والإمارات. أمّا الدول الأخرى فلم تتخذ بعدُ قرارًا بإلزاميّة تعليم الذكاء الاصطناعيّ في المناهج، باستثناء المدارس الخاصة والأندية التدريبيّة.”
هل انتهى زمن الحفظ؟!
تواجه مادتيْ التاريخ والجغرافيا تحديّاتٍ جديدة، فلم يعد بالإمكان تقديمها كمواد حفظ فقط، فلم تعد تُعلّم كمواد منفصلة، -يقول بعلبكي-” بل أصبحت مواد متعلّقة بالمهارات الحياتيّة، وبالتوجيه والتربية على التقنيّة، ومتعلّقة حتى بـ STEAM ودمج مع (العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) وصولًا إلى الاقتصاد الدائريّ.”
يضيف: ” يمكننا استخدام الكثير من المواد التكنولوجيّة الذكيّة في تقديم مادة التاريخ مثل التكنولوجيا الإنغماسيّة الذي يهدف إلى دمج العالمين الرقميّ والماديّ، أو خلق توأم رقمي متكامل، لتقديم تجربة تفاعليّة ومحاكاة لبيئات حقيقيّة وفي أماكن مختلفة. مما يمكّن التلميذ من معايشة واقع افتراضيّ يحاكي التاريخ، يشاهده كما لو أنه متواجد فيه، وهذا من الأنماط التعليمية التي لم تعد ثورة بصريّة فقط، بل أصبحت جسديّة وسماعيّة وتفاعليّة، مع حس حركيّ عالي، مما يساعد كثيرًا في تعلُّم التاريخ والمواد التجريديّة الجافة.”
ويذكر بعلبكي أنّ الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا دخلا لتعزيز الجغرافيا، وهناك تخصص كبير يتعلق بالاقتصاد الجيولوجي، ويمكن دمجه مع بقية المواد في حال تواجد ابتكارات أو مشاريع تخدم عالم الجغرافيا زراعيًّا، عسكريًّا وغذائيًّا.
فيمكن للتلميذ تعلُّم التلميذ GIS ( اختصار لـ Geographic Information System وتعني نظام المعلومات الجغرافيّة، وهو نظام حاسوبيّ متخصّص في جمع، تخزين، إدارة، تحليل، وعرض البيانات المكانيّة الجغرافيّة، والمعلومات الوصفية المرتبطة بها، والجغرافيا الاقتصاديّة، والاطّلاع على دراسات باستخدام AI حول منطقة جغرافيّة معيّنة، من خلال دراسة تربتها وقدراتها، إمكانيّاتها، وثرواتها، وكل هذه الأمور.”
وداعًا يا جدول الضرب؟
يُشير بعلبكي إلى أنه بطبيعة الحال يمكن للتلميذ أن يحفظ جدول الضرب، ولكن عندما تأتي الأمور إلى المعادلات والحسابات تختلف المعادلة، لأن العمليّة لم تعد عمليّة حفظ بقدر ما هي عمليّة تحليل وتفكير وكلّما تعمّق التفكير، كلّما كان ذلك أفضل للاقتراب من مهارات التفكير العليا.
ويذكر أداة الـ ABACUS (وهي أداة لإجراء الحسابات عن طريق تحريك العدادات على طول القضبان أو في الأخاديد) والتي تأخذ حيزًا كبيرًا في التكنولوجيا ولو أنها ليست تكنولوجيا رقميّة، إنّما تكنولوجيا يدويّة -يُفيد بعلبكي-، ولكنها أفضل بكثير من الآلة الحاسبة ومن الاستخدامات العاديّة لموضوع الحساب. ويمكن الاستغناء عنه بيدينا فنتخيّل التحريكات الخاصة به.”
ويلفت بعلبكي للدور الكبير للحساب الذهني Mental Math عندما نربطه بـ STEAM . ويُشير إلى تجربة الشاب اللبنانيّ المبتكر “شادي معصراني” الذي استطاع عمل Speed Math رياضيات سريعة، من خلال دمج كل ما هو متعلق بعالم الحسابات بأنماط ووقائع حياتيّة ووجوديّة: (التنقلات، الكواكب، الخضار والفواكه) وقصص كثيرة في الحياة ربطها بالأرقام، وهو اندماج هام في تأثيره على طرق التعليم الحديثة.”
نون والقلم
ومن جميل ما أشار إليه بعلبكي، القلم كأداة أولى شقّت طريق الإنسان نحو تدوين المعرفة وتثبيتها، فيقول: من المهم في ظل وجود التكنولوجيا أن لا يُنتزع القلم.
ويوضّح: تقول الآية الأولى من سورة القلم { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } وفي الآية الرابعة من سورة العلق { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ }. ففي كلّ مراحل التعلُّم سواء بالنقش أو بالكتابة الطبشورية أو الرقمية، كان دائمًا القلم هو الأساس، فالقلم يحاكي عملية التخيّل والتفكير العميق عند التلميذ ويؤدي إلى استخراج هذه المعرفة، فكان أن نثبت المعرفة بالكتابة والرسم والتعبير، ويمكن بذات الوقت استخراج الإبداع البشري من عقل الإنسان أثناء التفكير والتخيّل والتحليل.
ويؤكد أنّ أخطر ما يمكن حدوثه ليس موضوع Tablet (الكمبيوتر اللوحي) بقدر ما هي إلغاء القلم من العمليّة التعليميّة، ويجب الانتباه لذلك، فمهما تعلمنا القراءة وتعمقنا بها، تبقى الكتابة هي الأداة لاستخراج الإبداع البشري.
مراحل الذكاء الاصطناعي في التعليم
يُشير بعلبكي إلى المراحل التي يمرّ فيها الذكاء الاصطناعي في المناهج الجديدة؛ وهي:
” أولًا: البرمجة المتقدّمة coding والتي هي برمجة أيضًا لتشغيل الذكاء الاصطناعي وقد استحدثت ضمن المناهج الجديدة، وأخذت قانونًا بذلك.
ثانيًا: كيفيّة تطبيق الذكاء الاصطناعيّ على الروبوتات.
ثالثًا: العمل على محاكاة افتراضيّة للنماذج الصناعيّة بواسطة الذكاء الاصطناعي للأشكال الهندسيةّ أو للنمذجة بالتعليم القائم على المشاريع قبل طباعتها على الطابعة الثلاثيّة الأبعاد أو شبيهاتها، والذي يؤهل التلميذ ليمتلك نموذج صناعيّ.
ويضيف: فالمطلوب مساعدة التلاميذ على كيفية عمل ريادة ودفاع عن مشروع بمباريات علميّة بطريقة فعّالة. فعندما يمرّ الذكاء الاصطناعيّ بمسار تناغميّ من الاستخدام اليدويّ إلى الرقميّ إلى الافتراضيّ الانغماسيّ، إلى تصميم نموذج

مبدئيّ، إلى التجربة، فالتطوير، فالإنتاج، وبخاصة تعليم الذكاء الاصطناعيّ عبر الإيحاء، حيثما تتواجد كاميرا، فالكاميرا لها دور فعّال في تمييز الأحرف والكلمات، الأوامر والإيحاءات الإنسانيّة التي يمكنها من إعطاء أوامر باستخدام الذكاء الاصطناعيّ إلى الأجهزة المتقدّمة.
فالذكاء الاصطناعي سيشكل عنصرًا أساسيًا كأداة متقدّمة بتسريع عمل أي مادة ندمجها مع الذكاء الرقميّ الاصطناعي. بما فيه: التشخيص الفردي للعملية التعليميّة لكل تلميذ، تقرير عن أدائه الأكاديمي، وماذا عليه أن يدرس، أي لديه فاقد تعليميّ وكيف يمكنه أن يغطي الفاقد، كيفية عمل الذكاء الاصطناعي الذي سيساعده ليكتشف من خلال التشخيص العميق، قدراته العلمية، وبناء عليه يقدّم له منهاجًا تفاعليًّا تدريبيًّا بالتعلّم الذاتيّ لمعالجة هذا الضعف”.
مِهَنٌ أكثر
يتخوّف إنسان العصر من أن تأخذ الآلة الذكيّة موقعه الوظيفيّ، وبالتالي تتقلص فرص العمل لصالح استخدامات الآلة.
وعلى العكس من ذلك؛ يرى بعلبكي، أنّ الذكاء الاصطناعي لا يعدّ بديلًا عن المهن، لأنه سيخلق مهنًا أكثر، فصناعة روبوت مثلا تحتاج تدخل مجموعة من الاختصاصات التي تصب في خانة الـ supply chain سلسلة الإمداد لصناعة هذا الروبوت، من: عمل الكتروني، برمجة، الكهرباء، قطع التبديل، والكثير الكثير من الأمور التي تعمل على توسعة أفق المهن.
ويلفت هنا أن المهن المهدّدة بالانقراض يُقصد بها المهن التي تفوّق عليها الذكاء الاصطناعي، وعناصر الثورة الصناعية الرابعة، وبالتالي ليس هناك تفوقًا على الإنسان، لأن الإنسان لا يكون مهددًا، إلا الذي لا يواكب هذا التطور، ولا يستخدمه بطريقة إيجابية، وهؤلاء فقط الذين يُخشى عليهم، أمّا من يواكب ويستخدمه بطريقة إيجابية، ويواظب على التعلم، بالطبع تكون أموره مختلفة جدا كونه يستخدم هذا الذكاء لتطوير أعماله ونشاطاته ومجال عمله وإنتاجيته.”
فالإنسان يتمتع بالدهاء البشري، أمّا الآلة فهي ذكاء اصطناعي فهي مبنية على معطيات وخوارزميات تتعلم آليا وتتطور بنفسها.
ولذا يرى بعلبكي أنّ التحكّم لا يزال لحدّ اليوم بيد الإنسان، ولكن في حال ترك الأمور تحت يد وكيل رقمي ( AI Agent) ليقوم بكل شيء عنه، سيتسبب بضرر جسديّ وتفكيريّ وعقليّ، فالمطلوب أن نربي على ذهنيّة التعلم المستمر والابتكار مدى الحياة، حتى لا نفقد مهارات حلّ المشكلات والتفكير النقديّ المنتج.”
الحصار جنّة الابتكار
يرى بعلبكي أنّنا نعيش ثورة صناعيّة معرفيّة رابعة، فيها الذكاء الاصطناعي، وبيانات ضخمة، فيها انترنت، وروبوتات، وفيها الحوسبة السحابية وبرامجها التطبيقيّة، طابعة ثلاثية الأبعاد، والاندماج مع بقية الأنظمة مثل الستالايت وغيرها، وطبعًا فيها) Immersive Technology وهي عملية الإنتاج للمحاكاة الافتراضية التفاعليّة الذكيّة التي يمكن أن نخلق منها حتى التوأم الرقمي)، وبالتالي هو زمن يجب الاستفادة منه بتوظيف مقدّراتنا.
ويؤكد بعلبكي، أنّ الزمن ” هو زمن الريادة والإبداع والابتكار وليس زمن التوظيف والانتظار، لأن أي انتظار سيسبب استهلاك للمعرفة والذكاء الاصطناعي. بدل أن نكون في صدارة إنتاج الذكاء الاصطناعي وتوريده إلى خدمات خارجيّة حتى نمتلك القدرة على الإنتاج للاقتصاد الرقميّ بشكل خاص والاقتصاد المعرفيّ بشكل عام. وهنا نحكي عن الابتكار ثم الابتكار؛ لأنّ الاحتكار هو مقبرة الابتكار وبالتالي فالحصار هو جنّة الابتكار (من باب الحاجة أمّ الاختراع).”
ويخلص إلى أنّ: التربية والتعليم والصحة والغذاء والدفاع والأمن؛ هي أمن قوميّ، يجب أن يُتّخذ قرارًا بأن تكون نتاجًا وطنيًّا بامتياز، كي تكون مواكبة لأهداف التنميَة المستدامة*.
- يقصد بالاستدامة؛ ممارسة تطوير ونشر تقنيات الذكاء الاصطناعي بطريقة تقلل من تأثيرها البيئي وتُعظّم استدامتها على المدى الطويل والمؤنسن
-
ربيع بعلبكي .