“الروائي ليس باحثًا ولا مؤرّخًا، بل شاهدًا على الحياة، يكتب بنبضِه وندائه الداخلي..”.
درس الحقوق والاقتصاد، من لبنان إلى شرق إفريقيا، تحديدًا في دولة موزمبيق، عمل هناك لسنوات في التجارة، وحصل على الجنسية الموزمبيقيّة، زار العديد من الدول الإفريقيّة بما فيها مراكز وعواصم الثقافات العربية ومنها الإمبراطورية العمانيّة، ومن هذا الحضور العربي استلهم موضوع روايته “جزر القرنفل” (حكاية الحلم الأفريقي) والتي تتحدث عن زنجبار التي أنشأ فيها العمانيون دولة مزدهرة امتدت لقرون، وكذلك رواية “ماليندي”، وفي “أفريقيا أناسٌ ليسوا مثلنا” حكى عن موضوع الاغتراب اللبناني في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين وتحفل الرواية بالكثير من الأحداث والإشارات السياسيّة والاجتماعيّة، وفي “رسالة النور” تناول سيرة ابن المقفع مشيرًا إلى قضية الصراع مع السلطة كموضوع قديم مُستجد في حياة المثقف العربي. وأيضًا، رواية ” ميكروفون كاتم صوت” التي فازت بجائزة “كتارا” وجائزة “نجيب محفوظ للأدب” للعام 2024، بحيث قالت فيها رئيسة لجنة جائزة نجيب محفوظ للأدب في شرح حيثيات منح الجائزة: “وإن كانت (الرواية) تتحدث عن لبنان اليوم، إلّا أنها خرجت من محدوديّة المكان والزمان المفترض لتكشف واقعًا إنسانيًا عامًا عن أزمة الإنسان المعاصر في مدن تدفن الروح وتقتل الأحلام. “
إضافة إلى رواياتٍ عديدة، عن عالمه الروائي، وتجربته في السفر والكتابة، كان للحصاد هذا الحوار مع الروائي اللبناني “محمد طرزي”:
الحصاد: من عالم التجارة والاقتصاد، إلى عالم الكتابة والرواية، كيف توصّف هذه الرحلة؟
محمد طرزي: ليس انتقالًا من عالم إلى آخر، فالأدب كان دائمًا جزءًا من حياتي منذ سنوات المراهقة. بعد تخرّجي من الجامعة، انخرطت في ميدان العمل كموظف، كما يفعل معظم الشباب. حقيبة سفري الأولى كانت مليئة بالروايات

ودواوين الشعر، حين انتقلت إلى موزمبيق قبل نحو عقدين، للعمل في المجال المالي. هناك تعرّفتُ إلى الإرث العربيّ الغنيّ في شرق إفريقيا، الذي لم أكن على دراية كافية به من قبل. أذهلني هذا الوجود الممتد لأكثر من ثمانية عقود، خاصة أنه لم يلقَ اهتمامًا كافيًا من الروائيين العرب.
أصبح هذا الاكتشاف دافعًا أساسيًا للكتابة. فكتبتُ رواية جزر القرنفل، ثم واصلت استكشاف هذا الإرث في ماليندي وإفريقيا وعروس القمر. طوال تلك السنوات، كنت أكتب بالتوازي مع مسيرتي المهنية، محاولًا أن أوفق بين عالمَي الأدب والعمل.
الحصاد: أين وجدت نفسك الكاتبة هل في الرواية التاريخيّة أم في الرواية الاجتماعيّة، وكيف وجدت تجربة الكتابة عن بلاد لست منها؛ إفريقيا مثلا! ما الذي يصرّح لكاتبٍ أن يروي سيرة وثقافة بلاد أخرى؟
محمد طرزي: الانتقال إلى الرواية الاجتماعيّة أتاح لي مساحة أوسع للتعبير عن قضايا أكثر آنية وملامسة للواقع. ففي الرواية الاجتماعية تكمن المتعة في التقاط اللحظة وتفاصيلها، بينما في الرواية التاريخيّة تكمن تلك المتعة في البحث والتحليل، وملء الفراغات الزمنية والتفاصيل المهملة باستخدام الخيال والمشاعر الإنسانية.
أما بالنسبة للكتابة عن إفريقيا، فإن ارتباطي بها عميق على المستويين الثقافي والشخصي. والدتي وُلدت في سيراليون بغرب إفريقيا وعاشت هناك مع عائلتها لفترة طويلة، كما أنني قضيت في شرق إفريقيا مدة توازي تقريبًا إقامتي في لبنان. أشعر اليوم بانتماء مزدوج، إلى إفريقيا كما إلى لبنان، لأن الهوية ليست ثابتة، بل تتشكل وتتطور مع التجربة الحياتيّة.
ومع ذلك، فإن الانتماء للمكان ليس شرطًا للكتابة عنه، بل الأهم هو القدرة على التقاط ما يستحق التأمل والإشارة في الأدب. غالبًا ما يرى الغريب عن المكان تفاصيل لا يلاحظها أهله، وهذه المفارقة تشكل جوهر أدب الرحلات على سبيل المثال.
جدير بالذكر أن معظم ما كتبته عن إفريقيا حتى الآن ركز على الثقافات العربيّة وتاريخ العرب في تلك المنطقة، مسلطًا

الضوء على تراثهم وقصصهم التي أراها جديرة بأن تُروى.
الحصاد: في “رسالة النور” تناولت الجانب السياسي الثائِر من حياة ابن المقفّع، كيف تنظر إلى التاريخ العربي في تعامله مع الثائرين؟ وهل المواجهة مع السياسي أخف وطأة من المواجهة مع الديني؟
محمد طرزي: رواية رسالة النور تُعبّر بشكل واضح عن طريقة تعامل النظام العربي تاريخيًا مع الثائرين، أو حتى مع من يعبّرون عن آراء مختلفة بهدف تصويب عمل الحاكم، دون أن تكون لديهم نوايا انقلابية.
اليوم، تربط العديد من القوى السياسية في العالم العربي وجودها بالدين، بحيث يصبح التمرد عليها بمثابة تمرّد على الدين، ومحاسبتها تُعتبر تمردًا على المقدّس. هذا الربط مقصود، لأن المواجهة مع كل ما يُعتبر مقدسًا تُعقّد الصراع وتُضعف فرص التغيير. في المقابل، فإن المواجهة مع أحزاب لا تُخفي نفسها وراء عباءة الدين، وتُنتقد من خلال إبراز العيوب السياسية أو الاقتصادية، تكون أكثر وضوحًا وأقل التباسًا.
المواجهة مع من يستترون بالدين أخطر على المعارِض، لأنها تُلامس الجوانب الإيمانيّة والعاطفيّة لدى الشعوب. هذا يجعل أي محاولة تغيير تُواجه بحساسية شديدة، إذ ينظر الكثيرون إليها كتهديد لعقائدهم وليس فقط كنقد سياسي.
الحصاد: في رواية ميكروفون، تحدثت عن لبنان، وعن واقع أزماته المالية والاجتماعيّة أيضا من خلال شخصية سلطان، عن الزعيم الذي لم تسمه بالاسم، وعن الشبان الذين يلتحقون بالتنظيمات الحزبية ويتخلّون عن حياتهم السابقة في الانفتاح على الآخر وتقبله، وعن الهجرة بسوداويتها، كيف استجمعت هذه الموضوعات وهل انتابك الحذر وأنت تُقاربها من منطقة جنوبيّة “صور” ؟
محمد طرزي: صحيح أن الحيّز المكاني للرواية هو مدينة صور، وصحيح أنها تناولت قضايا تبدو متصلة بأهل الجنوب، ولكن الغاية من كتابتها تتجاوز حدود المكان والزمان لتلامس أبعادًا عربية وإنسانية أوسع، بحيث تضيء على صراع المواطن اليومي مع التهميش، وسعيه نحو الخلاص الفردي والجماعي.
لذلك، لم يُذكر اسم المدينة التي تدور فيها الأحداث إلا مرة واحدة، وبشكل عابر في حوار باللهجة العامية، للتأكيد على هذا التوجّه. كذلك، لم يُذكر اسم الزعيم أو توضع له ملامح محددة، ولو أمعن القارئ النظر في صفاته داخل الرواية، لوجد أنها تشمل خصائص أكثر من زعيم لبناني، بل ربما تتقاطع مع زعماء عرب آخرين.
لم يكن ذلك ترددًا أو خوفًا، بل كان اختيارًا مدروسًا لتجاوز المحدوديّة المحليّة، ورسم صورة للواقع العربي في سياقات مشابهة. الزعيم الذي تُعلّق صوره في كل مكان، والذي يُكمّم الأفواه باسم الدين أو العقيدة السياسية أو الصراعات الإقليمية، يتكرر في كثير من بقاع المنطقة، شأنه شأن الميكروفون الذي تتكرر رمزيّته القمعيّة تحت شعارات متعدّدة، من دون حصرها بجغرافيا أو حزب بعينه.
الحصاد: كيف برأيك يحمي الكاتب والأديب نفسه من الوقوع في عاطفيّة الأحداث التي تحصل في المنطقة هل بكونه غير منتميّ، وكيف يجعل مؤلَفه مقروءا لدى كل الفئات على اختلاف الهويات والأفكار؟
محمد طرزي: لا ينبغي للروائي أن يحمي نفسه من العاطفة أو يحافظ على مسافة حياديّة تمنحه القدرة على كتابة نص يتجاوز التصنيفات والهويات. الروائي ليس باحثًا ولا مؤرخًا، بل شاهدًا على الحياة، يكتب بنبضه وندائه الداخلي. العاطفة ليست عائقًا أمام العمل الروائي، بل هي جوهره ومحركه الأساسي. وظيفة الروائي ليست في أن يكون محايدًا أو أن يرضي جميع الأطراف، بل في أن يكون صادقًا مع ذاته ورؤيته.
كل الكُتّاب لديهم انتماءاتهم ومعتقداتهم، فهم لا ينطلقون في كتاباتهم من فراغ. مع ذلك، يتضح أن أبرز الأعمال الأدبية التي صمدت عبر الزمن ولا تزال تُقرأ بعد عقود، كتبها مؤلّفون لم يؤطروا أنفسهم ضمن قوالب حزبية أو أيديولوجية جامدة.
حتى لو انتمى الكاتب إلى فكر حزبي أو عقائدي، فإن عليه أن يبقى في حالة تساؤل وتفحص دائم لنفسه وللمؤسسات أو الأفكار التي ينتمي إليها. هذه الحالة من التساؤل تتيح له التحرّر من القيود التي قد تفرضها تلك الانتماءات، وتمكّنه من الكتابة بحرية أكبر. الكاتب الحقيقي هو من يطرح الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات، ومن يتجاوز الانتماءات الظاهرة ليصل إلى جوهر الإنسان وتجربته الوجودية.
الكتابة الروائية حالة فرديّة تعكس علاقة الكاتب بأزماته الشخصية والعامة. قد يتعارض ما يكتبه الروائي مع السرديّات الكبرى أو وجهات نظر القارئ. هذا ليس إشكالًا، بل دليلًا على فرادة النص وتميّزه. يكتب الروائي عمّا يمسّه شخصيًا، سواء كان ذلك تفصيلًا صغيرًا وسط أحداث كبرى، أو موقفًا فرديًا يتناقض مع الإجماع العام.
في النهاية، النص الأدبي هو عمل إنساني فردي، وليس محاولة لتقديم حقائق موضوعية لإرضاء أذواق متعددة؛ إنه تعبير صادق عن رؤية الكاتب للعالم.
الحصاد: في عالم التطورات المتسارِعة، حيث الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدًا لإبداع المخيلة البشرية في آنيتها، كيف يواجه كاتب اليوم هذا التحدي؟
محمد طرزي: الذكاء الاصطناعي أداة يمكن استخدامها لرفع مستوى الإبداع الإنساني. فهو يساهم في تسريع عمليات البحث، تحسين جودة النصوص، وحتى دعم المترجمين بتقنيات تقلّل التكاليف وتختصر الوقت. مع ذلك، يظل الذكاء العاطفي والقدرة على التعبير الإنساني العميق من السمات التي لا يمكن للآلة محاكاتها بالكامل. كما أن الإبداع الحقيقي يكمن في التفاصيل التي تنبض بروح الكاتب، وهي أمور لا يزال يعجز الذكاء الاصطناعي عن تجسيدها، تمامًا كما يتفوّق الإنسان على الكمبيوتر في لعبة الشطرنج من خلال استراتيجيات غير متوقعة.
يبقى الكاتب هو المصدر الأساسي للإحساس والعمق الإنساني .لذا لا أرى الذكاء الاصطناعي يحل محل الكاتب، تمامًا كما لم تحل برامج التصميم محل المهندس المعماري، بل طوّرت عمله ورفعت من مستوى المنافسة. بالمثل، على الكاتب اليوم أن يرى الذكاء الاصطناعي أداة تدفعه لرفع سقف الإبداع، مع الحفاظ على جوهره الإنساني الذي يظل غير قابل للاستبدال.
الحصاد: إلى أين تتجه رؤيتك إلى العالم بعد ميكروفون ؟
محند طرزي: سأواصل مشروع الرواية الاجتماعيّة الذي يرتكز على هواجس الهويّة الجماعيّة، في ظلّ تناقضها أحيانًا مع سعي الفرد للاحتفاظ بحريّته، من دون التخلي عن الكتابة عن إفريقيا. ولكني، هذه المرة، أفكّر في التوجّه نحو تناول الهويّة الإفريقيّة الصرفة، بعيدًا عن التاريخ العربي في القارة السمراء. إقامتي الحالية في جنوب السودان وضعتني في تماس مباشر مع التقاليد والعادات الإفريقية التي ظلت محافظة على أصالتها، ولم تتأثر كثيرًا بالثقافات الغربيّة التي جاءت مع حقبة الاستعمار. هذا القرب من التفاصيل اليوميّة يفتح أمامي أفقًا جديدًا للكتابة، قد يحمل طابعًا أكثر تجذّرًا في خصوصيّة ثقافة القبائل الإفريقيّة.