الروائي والمفكر فيصل الأحمر:الإنسانية كلها في خطر في ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي

الدكتور فيصل الأحمر هو روائي، وشاعر، وأكاديمي، جزائري. له عدة مؤلفات في السرد والشعر والترجمة.حصل على عدة جوائز وطنية وعربية.وصف كـ”رائد الخيال العلمي” في الجزائر.

يرى الدكتور فيصل الأحمر  أن النقدَ في الجزائر غائب وأنه مُتأخِّرٌ جدًّا عن العملية الإبداعية معللًا ذلك بقوله:” يَنقُصُهم في الجزائر مشروع قومي، وإرادة سياسية وثقافية لعلاج هذه الإشكالية. أما خارج نطاق الجهود الجامعية المحمودة، فيكاد النقد أنْ يَغيبَ عن الفضاء العام. كما أنه ليس أولوية في الصحافة المحلية، ولولا الإنترنت لَانقرضنا تمامًا!”

الحصاد: ما الشاغل الذي يسيطر عليك من هول ما حدث في غزة ولبنان، والحصول أخيرًا على قرار لوقف إطلاق النار في غزة، وما يجري في سوريا من صراعات مرتبطة بحكم الأسد؟ وكيف انعكس ذلك على حياتك اليومية وعلى كتاباتك الإبداعية؟

فيصل الأحمر: نحن أبناء بيئاتنا وسليلو يومياتنا، وكتاباتنا لا تملك أن تخرج عن دائرة مشاغلنا اليومية، ولا ينبغي لها أن تفعل. منذ خمسين سنة أو أكثر كان الأدب العربي متفائلا بخروج بلداننا من نار الاستعمار وعنت العبوديات الحديثة، وكانت كتاباتنا وأفكارنا إيجابية ومتفائلة، وإذا نظرنا إلى ما نكتبه اليوم فإننا سنرى هيمنة الطابع السوداوي، والنكوص صوب التاريخ كمحاولات مفرغة من الجدوى لما يسمى في التحليل النفسي)تثبيت لحظات السعادة(.وكذا النزوع إلى جلد الذات من خلال كتابات لا تستحضر صورة الأنا إلا وهي منظور إليها نظرة تشويه أو احتقار بعيون أجنبية )وهذا كثير في أدبياتنا منذ ثلث قرن تقريبا(.

 الذي حدث ينتج دهشة كبيرة تنسينا أحيانا حجم الألم غير المسبوق الذي يقطع أوصالنا ويدمي حروفنا بسبب هول ما حدث في غزة ولبنان … وأعتقدها سابقة تاريخية حديثة: ذلك الكم الكبير من التقتيل العشوائي للأبرياء أمام كاميرات العالم الصماء البكماء..

وهو وضع أعاد إلى الناس الإيمان بجدوى الكلمة بعدما شاع في الناس الشعور بلا جدواها…و هو وضع  ينتج كذلك تيها كبيرا للأفكار بسبب التسارع الكبير للأحداث الذي تشهده بداية عام 2025   ،ذلك التسارع لم يعد يمنح المفكر أو الكاتب المسافة الكافية للتفكير والفهم والتمحيص.

إن قرار وقف إطلاق النار وإنهاء المعاناة  والمجازر التي تحدث في غزة يعتبر خطوة مهمة نحو تخفيف المعاناة الإنسانية التي يعيشها أهل غزة ومن المؤكد بإن مثل هذا القرار يعد فرصة لتهدئة الأوضاع في ظل الصراع المستمر،بالرغم من ذلك إلا إن الأمر معقد جداً.

ما يمكننا قوله هو أن ما هو آت لا يمكنه أن يشبه ما قد مضى بأي حال من الأحوال.

الحصاد:وصفت ب”رائد الخيال العلمي في الجزائر”، برأيك هل يحتاج كل إبداع للخيال أم للواقع حتى يكون أكثر صدقًا و تأثيرًا ؟

فيصل الأحمر: العلاقة بين الاثنين إشكالية. لا حياة للخيال دون واقع. الخيال هو تلاعب بالواقع لأغراض معينة. كذلك أمر الواقع؛ فقد يموت الواقع ويتفتت لو لم يتم تخصيبه بالخيال.. أجمل ما في الواقع الفن والإبداع ، وهو معالج بإكسير الخيال. أجمل ما في التاريخ هو المستقبل وهو معالجة للزمن الحاضر بمصل الخيال. وأجمل ما في المعرفة هو العلم؛ ولا علم في واقعنا إن لم تكن هنالك العصا السحرية للخيال لكي تفتح أمامنا الإمكانيات الكامنة لواقعنا الثقيل)بشهادة آينشتاين الشهيرة(.والخيال في الإبداع فتح لطاقات النظر والفهم والتحليل والتذوق والتجميل والبلاغة وتحسين ظرف المقاربة… وكل ذلك تخفيه كلمة “الإبداع” ببساطة مدهشة.

أما عن مسألة ريادة الخيال العلمي، فأنا لست برائد تماما، أنا الرجل/الأوركسترا الذي منح الخيال العلمي.في الجزائر منذ بدايات التسعينات حتى اليوم كمًّا غير مسبوق من الشغف والاهتمام بحيث أصبح ذكر هذا النوع الأدبي في الجزائر خاصة مرتبطا باسمي. هذا كل ما في الأمر، وهذا كثير في عرفي. والحمد لله…

  الحصاد:في رواية “مدينة القديس أوغسطين”، صرّحت قائلا إن : “الرواية عبارة عن قصة فلسفية من الخيال العلمي تختزل بشكل مثير مجموعة من المشاريع الأدبية والفلسفية الفكرية والجمالية التي درجنا عليها في ميادين متنوعة مثل السينما والأدب والجدل الفكري والتعليق السياسي وما شاكل ذلك.”   لقد مزجت  في الرواية بين الواقعية والخيال المستقبلي، كيف نجحت في خلق هذا التوازن؟

فيصل الأحمر: أرجو ألا تكون إجابتي مبتذلة؛ لأنني سأقول لك: رواياتي تشبهني؛ أنا شخص مهتم بمصير البشر، قارئ نهم للتاريخ والفلسفة، كائن منشغل جدا بمسائل السياسة والدين والأخلاق، أومن كثيرا بالحل الشعري أو الجمالي لمشاكل العالم الذي ورثناه مع بدايات القرن 21… أنا كائن مولع حد الجنون بالطاقات التعبيرية والفلسفية للخيال العلمي، ولكنني أيضا شخص مهتم/مهموم بالتراث إلى حد مزعج أحيانا… لذا لا غرابة في أن تأتي نصوصي عاكسة لكل هذه الأبعاد…

كانت فكرتي الأولى هي محاولة تصور مستقبل الإنسانية في ظل الفلسفات السائدة: الدعاية للذكاء الاصطناعي رغم تحذيرات صانعيه من خطره، فكرة الكل التقني، هيمنة الفكرة الاقتصادية المالية على الفكرة الاجتماعية التشاركية، تغول الشركات الكبرى في ظل الحد من التشريعات العالمية المكبلة لفلسفة الربح وهيمنة السوق والتخلي التدريجي عن كل مكونات السيادة الإقليمية لفائدة اتحادات وتجمعات عسكرية تحت المسمى الأمني… الخ الخ… واستوقفتني كثيرا آراء الشباب حول الحب والزواج والتكاثر… فالعالم يسير صوب إلغاء المشاعر لفائدة الحواس، والتخلص من الزواج لفائدة علاقات دون التزام، ونبذ فكرة التكاثر من باب تمجيد اللحظة ونفي فكرة الغد الماورائية إلى حد ما…

لهذا كتبت قصة حب مستقبلية تصور كثيرا من التطورات الممكنة لعالمنا لو واصل السير في هذه الاتجاهات.

الحصاد:ما هي  الشخصيات الفكرية التي كان لها الأثر الأكبر على خيالك الأدبي؟

فيصل الأحمر: فولتير.  الأفغاني. عبد الحميد بن باديس. فرحات عباس. كارل ماركس. ابن تيمية. العقاد. تولستوي ودوستوييفسكي. كارل يونغ. إدغار موران. إدورد سعيد. ألدوس هكسلي. توفيق الحكيم. بيار بورديو. فيليب .ك. ديك. بورخيس. نيتشه. البيروني. التوحيدي. أبو تمام. جون شتاينباك. تشارلز تشابلن. وودي آلن. دينيس ديدرو. تشارلز بوكوفسكي… ولا بد أنني قد أغفلت مائة آخرين ساهموا كلهم في رسم خرائطي الداخلية…

الحصاد:ما أبرز مظاهر الميتا سرد في رواية “أمين العلواني” وكيف ساهمت التقنيات السردية المبتكرة في تفكيك البناء الروائي التقليدي؟

فيصل الأحمر: من جملة أعمالي؛ “أمين العلواني” هو أكثر عمل شاع وانتشر وقرئ وعرفه القراء. هي رواية تجريبية من الخيال العلمي. ضحت بكل قواعد النوع الأدبي خدمة للنفس التجديدي العميق في الكتابة، فكأننا أمام رواية لا تشبه الرواية في شيء، ومع ذلك فهي رواية مثيرة مشوقة كما تدل الطبعات الخمس التي حظيت بها حتى عام 2025. هي تشبه دراسة نقدية حول كاتب مستقبلي، وتشبه الأنطولوجيات الأدبية، وفيها حكاية تستعيد تاريخ الكتابة في زمن سابق هو حاضرنا، وفيها من اليوميات الكثير، وتصف لذكاء الاصطناعي، والحظر الصحي، والبيوت الذكية، والمدن الذكية، وعالم ما بعد الدول والأوطان، والفضاء الذي يعوض فيه البعد الافتراضي كل بعد آخر… كل هذا كتب بين عامي 1999 و2000… وهذا ما أعطى أهمية هذه الرواية. اعتقد أنها قد نجحت إلى الحد الذي استطاعته أن تجيب على سؤال مركزي في عالم الخيال العلمي: كيف نكتب اليومَ نصا للغد بتقنيات تم ابتكارها بالأمس؟

الحصاد:لقد قلت 🙂 إن كتابة الخيال العلمي هي في جوهرها محاولة للاقتراب من الواقع وفهمهّ، مقللا من أثر الذكاء الاصطناعي على الإبداع الأدبي(، هل الكتابة في الخيال العلمي هو كتابة عن الواقع الذي نعيشه بشكل أفضل؟

فيصل الأحمر: الخيال العلمي يمنحنا المسافة الجمالية الضرورية من أجل النظر صوب الواقع بطريقة تمكننا من فهم أفضل، من فضح لتناقضاته، من إجراء عمليات المقارنة والقياس… هذا التقاطب الجمالي هو ما نسميه المسافة الجمالية،وهي مسافة عقلية أيضا، لكي لا ننخدع بما تستدعيه لفظة الجمالي، ونحن لا نستطيع أن نفكر في شيء دون أن نبتعد عنه مسافة معينة )مكانيا وزمنيا(… وهذا ما يبرع فيه الخيال العلمي.

الحصاد:الدكتور فيصل الأحمر المبدع تتميز   بفكر معرفي عميق مكّنك من الانخراط في مسارات إبداعية مختلفة كالنقد والرواية والشعر والتدريس الأكاديمي والترجمة، وبالإجمال نحن أمام تجربة أدبية ناجحة تتسم بالغزارة والتنوع واللغة الراقية. برأيك هل تعتقد أن الأدب الجزائري الحديث يجد المساحة الكافية للتعبير عن الهوية الثقافية في ظل العولمة؟

فيصل الأحمر: شكرا على الإطراء أولًا… وثانياً دعيني اقل لك عن هنالك بعدا كشفه جيدا إدورد سعيد وآخرون كثر سواء حول العولمة: إنها حرب إبادة ثقافية. العالم يخضع لحروب جديدة لم يعد العالم الثالث لها العدة الكافية. سبل الحوار اليوم كلها تتحرك على الانترنت، على مواقع التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث هذه ليست بريئة، ولا تتعامل بالديمقراطية المدعاة في بلدانها، والسؤال الجوهري هو: من يمنح لغيره الحق في التعبير عن ذاته وهويته ووجدانه؟ … التعبير عن الهوية المحلية اليوم صعب جدا. ويمكننا جرد الأعمال السينمائية التي تحظى بمشاهدات كثيرة التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، سوف نجد الحصيلة قريبة من الصفر، وفي ذلك بيان كبير لما أريد قوله.

الحصاد:بالعودة  لرواية” القدّيس أوغسطين ” تتطرق لمفاهيم مثل الحرية، السيطرة، والحب. ما هي الرسالة التي تريد أن تصل إلى القارئ ؟

فيصل الأحمر: في مجملها هي بيان تحذير مما يمكنه أن يحدث للإنسان لو أنه واصل السير في الاتجاه الذي هو عاكف عليه اليوم. الحرية والعاطفة البشرية والتعاطف بين البشر وما يندرج تحت مسمى الإنسانية كلها في خطر في ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي. علينا في العالم أن نغير طريقتنا في التفكير في ما يسمى”الكل التكنولوجي”… هنالك خطر يحذر منه حتى مبتكرو هذه التقنيات، ولكن الشركات المهيمنة على أسواق العالم تنظر بمنطق الربح وبسط الهيمنة. وهذا خطير جدا… أنه الموضع الحقيقي لروايتي.

الحصاد :ما رأيك في الحركة النقدية التي تتناول أعمال الكتّاب الجزائريين الذين تحدوا المنفى اللغوي الذي فرضه الاستعمار الفرنسي، وأصروا على الكتابة باللغة العربية؟

فيصل الأحمر :النقد “العربي” في الجزائر متأخر جدًا عن العملية الإبداعية. ينقصنا مشروع قومي ونية سياسية وثقافية لعلاج هذه النقطة. خارج الجهود الجامعية المحمودة في هذا السياق يكاد النقد يكون غائبا عن الفضاء العمومي. وهو ليس أولوية في الصحافة المحلية. ولولا الأنترنت لكنا انقرضنا تماما.

الحصاد:إذا طُلب منك أن تلخص رسالتك الأدبية باختصار، ماذا ستكون؟

فيصل الأحمر: الكتابة حياة بديلة حينما نعجز عن الحياة خارج إطار العيش. هي الفرص الأخرى التي لا تمنحنا إياها الحياة عموما. فيها قدرة سماوية على التعالي عن الأبعاد الترابية التي تثقلنا بحتمياتها الكثيرة، وهذا درس كبير في “الحرية” يبدأ من اللغة، ويمر بالخيال، لكي ينتهي سياسيا وأخلاقيا.