بيروت من ليندا نصار
تطرح إشكالية الهوية والذاكرة في الرواية العربية مجموعة من الأسئلة التي تؤدي إلى إضاءة جوانب جديدة كلّما تطرّقنا إليها بالاعتماد على البحث في الرواية وتحليلها. وقد يتعرّض الباحث في هذا الموضوع إلى الالتباسات والاختلافات التي يطول تعريفها والتي تتخالف وتتغاير بحسب وجهات نظر الفلاسفة وعلماء النفس والمشتغلين بالأدب وعلماء السرد. وقد تمّ تعريف الرواية من قبل بعض المشتغلين فيها على أنّها جنس أدبي غير مكتمل ولها خصوصية معينة ولا يمكن أن نعطيها تعريفًا ثابتًا فقد تجد في الرواية الواحدة شعرًا أو أي نوع أدبي آخر. ويمكن القول إنّ الروايات قد تمكنت من تحديث الوعي والانتقال بالذائقة الإنسانية الأدبية إلى ضفة أخرى مغايرة، يبوح فيها بالمسكوت عنه ويعبر عن منظوراته المتعددة إلى العالم، وأخرجت هذا الغموض الذي كان يعتريه فصارت الرواية صورة عن وعي مفارق يوضح علاقة الإنسان بالجماعة وبمحيطه وبيئته.
الذاكرة والحفاظ على البقاء
وفي تحديد مفهوم الذاكرة يعتبر الأكاديمي المغربي عبد الرحيم جيران في مقال له في صحيفة القدس العربي على تصوّرات منها تصور “لوك” التجريبيّ الذي يربط تحديد الهوية الفرديّة بالذاكرة، وهي تختزن التجارِب التي يمرّ بها الفرد بما يعنيه هذا من وعي. أما تصوّر برغسون فيرى في الذاكرة وسيلة لحفظ الحياة من طريق كونها تجعلنا نتفادى الأخطار بفعل اختزانها التجارِب التي تُخبرنا عمّا هو مُهدِّد للحياة، وما هو ليس كذلك. ـ تصوُّرنا الذي يتأسّس على كون الهوية تتحدّد في نهاية المطاف بالتجربة التي هي نتاج التوتّر بين التصوّر (التطلّع) والتحقُّق. ومُفاد هذا التركيب أن الذاكرة تُعَدُّ بمثابة الضامن المرجعيّ لوحدة الذات بما هي عينها، وبما هي استمرار غير مُتقطِّع؛ فهي إذن خطٌّ مرجعيٌّ تُحدِّد الذات نفسها (وتُعيد تحديد ذاتها) قياسًا إليه حين تتعرض للاضطراب؛ ومن ثمّة فالذاكرة تُمكِّن الذات من إعادة تنظيم نفسها قياسًا إليها في الزمان؛ وهذا التنظيم وإعادته تامّان بغاية تلافي الأسوأ، وبغاية الحفاظ على البقاء وتحسينه بفعل اشتغال التجارُب (حوار التجارِب في ما بينها). وبالنسبة إليه إن الذاكرة تُعَدُّ بمثابة الضامن المرجعيّ لوحدة الذات بما هي عينها، وبما هي استمرار غير مُتقطِّع؛ فهي إذًا خطٌّ مرجعيٌّ تُحدِّد الذات نفسها (وتُعيد تحديد ذاتها) قياسًا إليه حين تتعرض للاضطراب؛ ومن ثمّ فالذاكرة تُمكِّن الذات من إعادة تنظيم نفسها قياسًا إليها في الزمان.
بين الزمنين الماضي والمستقبل
ويعتبر برغسون أيضًا أنّ الرابط بين الزمنين الماضي والمستقبل هو الوعي أو إدراك العالم والذي يعتمد على الذاكرة الحافظة للأحداث والصور.
إذًا يمكننا الاعتبار أنّ هناك علاقات تجمع بين المفاهيم، العلاقة بين الذاكرة والهوية من جهة وبينهما وبين الرواية من جهة أخرى.
بين الذاكرة بالهوية
ما يميز الإنسان أن لا هوية له من دون ذاكرة فإذا فقد ذاكرته فقد هويته ولم يعد بإمكانه تحديد أناه. إننا أمام علاقة زمنية تتصل بالماضي بالحاضر وتتجه نحو المستقبل، وهذا الاتصال الزمني للذاكرة يؤطر الهوية من حيث أن الذات تحدد نفسها بما كانت عليه وما هي عليه وتتجه إليه. من هنا ارتباط العلاقة بينهما بالزمن والتحولات الإنسانية. ولعلاقة الذاكرة بالهوية جانب تقويمي من حيث الشعور بالرضا أو بعدم الرضا، نتحدّث هنا عن تقويم الماضي والهوية.
ومن الأمثلة نجد الروائية علوية صبح في رواياتها تحكي تفاصيل الذاكرة لترمم الزمن ضمن مساحات الحكي فتصور الشخصيات والأحداث والانطباعات والمشاعر والأحاسيس، بل تجدها ترسم الحيوات الماضية المتجددة في المستقبل، وتفتح التاريخ وتوثقه وكأنّها بذلك تحافظ عليه في أعمالها الروائية التي روت في مساحاتها المرأة ومعاناتها والحرب اللبنانية ومواضيع أخرى كروايتها الأحدث بعنوان “أن تعشق الحياة” والتي عالجت فيها سؤال الهوية وفتحت الأحداث على مصائر شخصياتها وعلاقة الإنسان بالوطن ومستقبل الشباب وصورة المرأة التي تجلّت بدور الأمّ والحبيبة…
أما الكاتبة ديمة الشكر فتعيد الحياة إلى امرأة منسية من خلال رواية “أين اسمي” وبطلتها الشابة “قمور” المتمتعة بذكاء حاد ودقة ملاحظة جعلاها تتمكن من إثبات نفسها ولو أمام بعض الناس فقط. وتشكل هذه الرواية توثيقًا لحياة هذه الذات الأنثوية من خلال مخيلة مبدعة تتحد مع الذاكرة فتصور عالم الماضي المتصل بالحاضر وسط مجتمع أراد تدمير هوية المرأة ومحو دورها، فجاءت روايتها لوحة مفصّلة يجسّد حقبة زمنية أجبرت فيها المرأة على إلغاء مواهبها والتكتّم على كل الأحداث إلا من خلال الكتابة.
ويمكن كذلك أن تدخل بين الذاكرة والرواية علاقة ملتبسة ومعقدة نسبيًّا على مستوى السرد فالسارد لا يروي الذاكرة فحسب بل من الحكاية الشعبية الراوي يتذكر ويروي. وتجدر الإشارة إلى انّه لا يمكنه أن يروي إذا ما كانت ذاكرته ضعيفة، فالذاكرة تسمح باختزال الحكايات واستعادتها.
الذاكرة وسيلة أساسية تساعد الإنسان ليروي فيصبح القارئ أمام استرجاع للحكايات، أما في الرواية فإن السارد لا يلجأ إلى حكاية استعادة حكايات مروية سابقًا كما في الحكاية الشفاهية بل يصنع حكايات يكاد أن يكون فعل سرده مزامنًا لفعل نشوء الحكاية وخلقها. هنا وخارج الذاكرة، السارد لا يروي حكايات ماضية ولا يعتمد على الذاكرة كخزان لكي يحكي كما الراوي في الحكايات الشعبية إنما يتخيل ويفتح الحكاية في أثناء الكتابة من نفسه،من هنا تبدو جماليات الكتابة بما كل ما فيها من سحر وخيال تضيف متعة للقارئ.
أما على مستوى اللغة، فيعمل الكاتب المبدع عبر الاشتغال على الحقل المعجمي من مفردات وجمل وتعابير… قد يلجأ إليها في السرد وتسعفه خصوصًا عندما يتذكر فيلمًا شاهده أو رواية قرأها وعلى مستوى الانفتاح على الإبداع الذي يجعله يقحم في الرواية أو في بعض أنواع الفنون لوحة تشكيلية، أو فيلمًا، أو مسرحية.
الذاكرة كوسيلة مساعدة للكتابة
وتعتبر الذاكرة عند الكاتب أيضًا وسيلة للكتابة وليست موضوعًا له. فقد تجده يتخيل أماكن واقعية للسرد أو يصفها أو بعض الشخصيات وأيضًا بعض الأحداث التاريخية التي يقحمها. السارد لا يتذكرها كما الراوي إنما يتذكر نتفًا من اللغة والنصوص والفنون والواقع ويعيد تركيبها في الحاضر بوساطة الكتابة.
هذا المستوى من الذاكرة يجعلها تشتغل كوسيلة للكتابة مثلها مثل اللغة والحبر…
وعندما نتحدّث عن الذاكرة كموضوع أي الرواية تتحدث عن الذاكرة ويستعيدها الروائي كذكريات طفولة من خلال تقويمها وتصميمها لتصير موضوعًا للكتابة.
وهناك مجموعة كبيرة من الروايات اعتمد كاتبها على الذاكرة الفردية الشخصية السير ذاتية وهي ذاكرة ترتبط باستعادة لحظات ماضية ومراحل عمرية من حياته شكلت علاقته بالكتابة.
أما إذا تحدّثنا عن الذاكرة كأسلوب فيمكن الانتباه إلى اتخاذها طريقة لتنظيم الحكاية أو لتنظيم الحكي ككل أو السرد أي البحث في الطرائق التي يشتغل بها الكاتب بما فيها ترتيب الأحداث وتركيبها أي الكيفية التي يدبر بها فعل الذهاب بين الماضي والحاضر.
وتعدّ الذاكرة الجماعية ذاكرة مشتركة ذاكرة جماعة ما وهي غالبًا ما تكون شفاهة وتتناقل من جيل إلى جيل كنوع من المعايشة تعايش المجموعة مجتمعة حدثًا ما وتستعيده وغالبًا ما تكون شفهية مروية يستند إليها المؤرخون في كتابة لحظة من التاريخ، ولكنّ هذا لا يعني أنها لا تحضر بل يرويها الراوي في الرواية التاريخية أو التخييل التاريخي هذا الأمر قدد نجده عند الياس الخوري عن حرب لبنان ينقل حدثًا ما من خلال روايات لأشخاص مختلفين عاشوا الحدث نفسه.
وبالعودة إلى علاقة كل من الذاكرة والهوية السردية بالرواية وفي استعادة بول ريكور بحسب الدكتور “جيران”
فإنّ الهوية هي التجربة الزمنية للفرد التي يمكن استشفافها من الحكاية أو الحبكة.
الهوية السردية ترتبط بالعمل أو الفعل بالدرجة الأولى أي بأفعال الشخصية وهي تفعل في العالم تتحرك وتتصرف، وهذا الفعل هو الذي يمكّنها من تأسيس التجربة الزمنية لديه. هنا نتحدث عن الديمومة (يكون الزمن هنا منفصلا أو متصلا)
ويعتبر برغسون أنّ الديمومة عنصر أساسي للتعبير عن الزمن والقبض عليه، وهو شديد الارتباط بالحكاية أو الحبكة وهو مرتبط بمفهوم الزمن المتصل غير المتقطع، إذ لا يمكن الوصول أو تأسيس هذا البعد الزمني المتصل من دون ذاكرة تضمن لنا الربط بين الأحداث الماضية والاتصال في ما بينها.
الهوية يعني أننا نتحدث عن “أنا” قد يبدو متماسكًا أو مبعثرًا في ذاته وفي العالم، ومن ثم تمكنه من فهم أناه وفهم العالم وتلاحم الذاكرة والهوية ليست الغاية منه فقط سرد الأحداث والاخبار عنها وإنما الغاية الأساس هي فهم العلاقة علاقة الذات بنفسها وبالعالم على مستوى الزمان بوصفه تجربة مختزنة في الذاكرة وهذا الفهم يولد تعرف الذات إلى نفسها والقبض عليها.